عرض مشاركة واحدة
قديم 08-26-2010, 10:21 PM
المشاركة 2
حاتم الحمَد
مؤسس ومدير شبكة ومنتديات منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


القول في أحوال الإسناد الخبري

من المعلوم لكل عاقل أن قصد المخبر بخبره إفادة المخاطب

إما نفس الحكم كقولك زيد قائم لمن لا يعلم أنه قائم ويسمى

هذا فائدة الخبر وإما كون المخبر عالما بالحكم كقولك لمن زيد

عنده ولا يعلم أنك تعلم ذلك زيد عندك ويسمى هذا لازم فائدة الخبر .

قال السكاكي : والأول بدون هذه تمتنع وهذه بدون الأولى لا تمتنع

كما هو حكم اللازم المجهول المساواة أي يمتنع أن لا يحصل

العلم الثاني من الخبر نفسه عند حصول الأول منه لامتناع حصول الثاني

قبل حصول الأول مع أن سماع الخبر من المخبر كاف في حصول الثاني

منه ولا يمتنع أن لا يحصل الأول من الخبر نفسه عند سماع الثاني

منه لجواز حصول الأول قبل الثاني وامتناع حصول الحاصل

وقد ينزل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل لعدم جريه

على موجب العلم فيلقى إليه الخبر كما يلقى على الجاهل بأحدهما .


قال السكاكي : وإن شئت فعليك بكلام رب العزة :

{ ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق

ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون }


كيف تجد صدره يصف أهل الكتاب بالعلم على سبيل التوكيد

القسمي وآخره ينفيه عنهم حيث لم يعلموا بعلمهم ونظيره

في النفي والإثبات :{ وما رميت إذ رميت } ، وقوله تعالى :

{ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا

أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون }


هذا لفظه وفيه إيهام أن الآية الأولى من أمثلة تنزيل العالم

بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل بهما وليست منها بل

هي من أمثلة تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به لعدم جريه

على موجب العلم والفرق بينهما ظاهر وإذا كان غرض المخبر

بخبره إفادة المخاطب أحد الأمرين فينبغي أن يقتصر

من التركيب على قدر الحاجة فإن كان المخاطب خالي الذهن

من الحكم بأحد طرفي الخبر على الآخر والتردد فيه استغنى

عن مؤكدات الحكم كقولك جاء زيد وعمرو ذاهب فيتمكن في

ذهنه لمصادفته إياه خاليا وإن كان متصور الطرفية مترددا

في إسناد أحدهما إلى الآخر طالبا له حسن تقويته بمؤكد كقولك :

( لزيد عارف ) أو ( إن زيدا عارف )وإن كان حاكما بخلافه وجب توكيده

بحسب الإنكار فتقول : (إني صادق ) لمن ينكر صدقك ، ولا يبالغ في إنكاره

و( إني لصادق ) لمن يبالغ في إنكاره ،وعليه قوله تعالى :

{ واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا

إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا

ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم

إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون }


حيث قال في المرة الأولى : ( إنا إليكم مرسلون )

وفي الثانية : ( إنا إليكم لمرسلون ).


ويؤيد ما ذكرناه جواب أبي العباس الكندي عن قوله:

إني أجد في كلام العرب حشوا ، يقولون عبد الله قائم

وإن عبد الله القائم والمعنى واحد بأن قال بل المعاني

مختلفة فعبد الله قائم إخبار عن قيامه وأن عبد الله قائم جواب

عن سؤال سائل وإن عبد الله لقائم جواب عن إنكار

منكر ويسمى النوع الأول من الخبر ابتدائيا والثاني طلبيا

والثالث إنكاريا وإخراج الكلام على هذه الوجوه إخراجا

على مقتضى الظاهر وكثيرا ما يخرج على خلافه فينزل

غير السائل منزلة السائل إذا قدم إليه ما يلوح له بحكم الخبر

فيستشرف له استشراف المتردد الطالب ،

كقوله تعالى : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون }

وقوله : { وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء }

وقول بعض العرب :

( فغنها وهي لك الفداء ** إن غناء الإبل الحداء )

وسلوك هذه الطريقة شعبة من البلاغة فيها دقة

وغموض ، روى الأصمعي أنه قال :

كان أبو عمرو بن العلاء وخلف الأحمر يأتيان

بشارا فيسلمان عليه بغاية الإعظام ثم يقولان :

يا أبا معاذ ما أحدثت فيخبرهم وينشدهما ويكتبان

عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الزوال ثم

ينصرفان فأتياه يوما فقالا ما هذه القصيدة التي

أحدثتها في ابن قتيبة قال :هي التي بلغتكما

قالا : بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب قال نعم

إن ابن قتيبة يتباشر بالغريب فأحببت أن أورد

عليه ما لا يعرف ، قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ فأنشدهما

( بكرا صاحبي قبل الهجير

إن ذاك النجاح في التكبير )


حتى فرغ منها فقال له خلف لو قلت:

يا أبا معاذ مكان إن ذاك النجاح بكرا فالنجاح

كان أحسن فقال بشار إنما بنيتها أعرابية وحشة

فقلت : إن ذاك النجاح كما يقول الأعراب البدويون

ولو قلت بكرا فالنجاح كان هذا من كلام المولدين

ولا يشبه ذلك الكلام ولا يدخل في معنى

القصيدة ، قال : فقام خلف فقبل بين عينيه

فهل كان ما جرى بين خلف وبشار بمحضر

من أبي عمرو بن العلاء وهم من فحولة

هذا الفن إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه


وكذلك ينزل غير المنكر منزلة المنكر

إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار

كقوله :

( جاء شقيق عارضا رمحه

إن بني عمك فهيم رماح )


فإن مجيئه هكذا مدلا بشجاعته قد وضع رمحه

عارضا دليل على إعجاب شديد منه واعتقاد

أنه لا يقوم إليه من بني عمه أحد كأنهم كلهم

عزل ليس مع أحد منهم رمح ،

وكذلك ينزل المنكر منزلة غير المنكر إذا كان

معه ما إن تأمله ارتدع عن الإنكار ،

كما يقال لمنكر الإسلام : الإسلام حق ،

وعليه قوله تعالى في حق القرآن :

{ لا ريب فيه } ومما يتفرع على هذين

الاعتبارين ، قوله تعالى :

{ ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون }

أكد إثبات الموت تأكيدين وإن كان مما لا ينكر

لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت

لتماديهم في الغفلة والإعراض عن العمل لما بعده

ولهذا قيل : (ميتون) دون (تموتون) كما سيأتي الفرق بينهما .


وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا وإن كان مما ينكر

لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بأن لا ينكر

بل إما أن يعترف به أو يتردد فيه فنزل المخاطبون

منزلة المترددين تنبيها لهم على ظهور أدلته

وحثا على النظر فيها ولهذا جاء تبعثون على

الأصل هذا كله اعتبارات الإثبات وقس عليه

اعتبارات النفي كقولك ليس زيد أو ما زيد منطلقا

أو بمنطلق ووالله ليس زيد أو ما زيد منطلقا أو

بمنطلق وما ينطلق أو ما ينطلق زيد

وما كان زيد ينطلق وما كان زيد لينطلق

ولا ينطلق زيد ولن ينطلق زيد ووالله ما ينطلق

أو ما أن ينطلق زيد .


فصل : الإسناد منه: 1) حقيقة عقلية ، ومنه 2)مجاز عقلي:

أما الحقيقة : فهي إسناد الفعل أو معناه إلى ما هو له

عند المتكلم في الظاهر والمراد بمعنى الفحل نحو:

المصدر واسم الفاعل وقولنا في الظاهر ليشمل

ما لا يطابق اعتقاده مما يطابق الواقع ،

وما لا يطابقه فهي أربعة أضرب :

أحدهما: ما يطابق الواقع واعتقاده ،

كقول المؤمن: ( أنبت الله البقل وشفى الله المريض).

والثاني: ما يطابق الواقع دون اعتقاده ،

كقول المعتزلي لمن لا يعرف حاله وهو يخفيها منه :

(خالق الأفعال كلها هو الله تعالى).

والثالث: ما يطابق اعتقاده دون الواقع،

كقول الجاهل: (شفى الطبيب المريض معتقدا شفاء المريض من الطبيب)

ومنه قوله تعالى حكاية عن بعض الكفار: { وما يهلكنا إلا الدهر }

ولا يجوز أن يكون مجازا والإنكار عليهم من جهة

ظاهر اللفظ ، لما فيه من إيهام الخطأ ، بدليل قوله تعالى عقيبه:

{ وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون }

والمتجوز المخطىء في العبارة لا يوصف بالظن ،

وإنما الظان من يعتقد أن الأمر على ما قاله .

والرابع: ما لا يطابق شيئا منها ،

كالأقوال الكاذبة التي يكون القائل عالما

بحالها دون المخاطب .


وأما المجاز : فهو إسناد الفعل أو معناه

إلى ملابس له غير ما هو له بتأويل ،

وللفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل ،والمفعول به ،

والمصدر ،والزمان ،والمكان ،والسبب

فإسناده إلى الفاعل إذا كان مبنيا له حقيقة

كما مر ، وكذا إلى المفعول إذا كان مبنيا له ،

وقولنا : ما هو له يشملها وإسنادها إلى غيرهما

لمضاهاته لما هو له في ملابسة الفعل مجاز ،

كقولهم في المفعول به: { عيشة راضية } ، و { ماء دافق }

وفي عكسه : (سيل مفعم) وفي المصدر: (شعر شاعر)

وفي الزمان: (نهاره صائم وليله قائم)

وفي المكان: (طريق سائر ونهر جار)

وفي السبب: (بنى الأمير المدينة ) ،

وقال :

( إذا رد عافي القدر من يستعيرها ** )


وقولنا: [بتأويل] يخرج نحو قول الجاهل :

(شفى الطبيب المريض) فإن إسناده الشفاء

إلى الطبيب ليس بتأويل ، ولهذا لم يحمل

نحو قوله الشاعر الحماسي:


( أشاب الصغير وأفنى الكبير

كر الغداة ومر العشي )


على المجاز ما لم يعلم أو يظن أن قائله

لم يرد ظاهره ، كما استدل على أن إسناد ميز

إلى كذب الليالي في قول أبي النجم:

( قد أصبحت أم الخيار تدعي

علي ذنبا كله لم أصنع )

( من أن رأت رأسي كرأس الأصلع

ميز عنه قنزعا عن قنزع )

( جذب الليالي أبطئي أو أسرعي )


مجاز بقوله عقيبة :

( أفناه قيل الله للشمس اطلعي

حتى إذا واراك أفق فارجعي )


وسمى الإسناد في هذين القسمين من الكلام عقليا ،

لاستناده إلى العقل دون الوضع ،لأن إسناد الكلمة شيء

يحصل بقصد المتكلم دون واضع اللغة ،

فلا يصير (ضرب خبرا) عن (زيد) بواضع اللغة بل بمن

قصد إثبات الضرب فعلا له ، وإنما الذي يعود إلى واضع

اللغة أن (ضرب) لإثبات الضرب ، لا لإثبات الخروج

وأنه لإثباته في زمان ماض، وليس لإثباته في

زمان مستقبل ،فأما تعيين من ثبت له فإنما يتعلق

بمن أراد ذلك من المخبرين ،ولو كان لغويا لكان

حكمنا بأنه مجاز في مثل قولنا : (خط أحسن مما وشى الربيع)

من جهة أن الفعل لا يصح إلا من الحي القادر

حكما بأن اللغة هي التي أوجبت أن يختص الفعل بالحي القادر

دون الجماد ، وذلك مما لا يشك في بطلانه .


وقال السكاكي: الحقيقة العقلية هي الكلام المفاد به

ما عند المتكلم من الحكم فيه، قال :

وإنما قلت : (ما عند المتكلم) دون أن أقول:

(ما عند العقل ) ليتناول كلام الجاهل إذا قال:

( شفى الطبيب المريض ) رائيا شفاء المريض

من الطبيب حيث عد منه حقيقة ، مع أنه غير مفيد

لما في العقل من الحكم فيه ،

وفيه نظر لأنه غير مطرد لصدقه على

ما لم يكن المسند فيه فعلا ولا متصلا به ،

كقولنا : (الإنسان حيوان)
مع أنه لا يسمى حقيقة ولا مجازا ولا منعكسا لخروج

ما يطابق الواقع دون اعتقاد المتكلم ،

ومالا يطابق شيئا منهما منه مع كونهما حقيقتين عقليتين ،

كما سبق .

وقال : المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم

من الحكم فيه ، لضرب من التأول ،إفادة للخلاف ،لا بوساطة وضع .

كقولك : (أنبت الربيع البقل ،وشفى الطبيب المريض ،وكسا الخليفة الكعبة)


قال وإنما قلت خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه ،

دون أن أقول خلاف ما عند العقل ،

لئلا يمتنع طرده بما إذا قال الدهري عن

اعتقاد أجهل وجاهل غيره: (أنبت الربيع البقل)

رائيا إنباته من الربيع ، فإنه لا يسمى كلامه ذلك مجازا

وإن كان بخلاف العقل في نفس الأمر ، واحتج ببيت الحماسة

وقول أبي النجم على ما تقدم ، ثم قال ولئلا يمتنع عكسه

بمثل: (كسا الخليفة الكعبة وهزم الأمير الجند) فليس في

العقل امتناع أن يكسو الخليفة نفسه الكعبة ،

ولا أن يهزم الأمير وحده الجند ولا يقدح ذلك في كونهما

من المجاز العقلي ، وإنما قلت لضرب من التأويل ،

ليحترز به عن الكذب ، فإنه لا يسمى مجازا مع كونه

كلاما مفيدا ، خلاف ما عند المتكلم ،وإنما قلت إفادة للخوف

لا بوساطة وضع ، ليحترز به عن المجاز اللغوي في صورة

وهي إذا ادعى أن (أنبت) موضع لاستعماله في القادر المجاز

أو وضع لذلك وفيه نظر لأنا لا نسلم بطلان طرده بما ذكر

لخروجه بقوله: لضرب من التأويل ولا بطلان عكسه ،

بما ذكر إذ المراد بخلاف ما عند العقل خلاف ما في

نفس الأمر ، وفي كلام الشيخ عبد القاهر إشارة إلى ذلك ،

حيث عرف الحقيقة العقلية بقوله: كل جملة وضعتها على أن

الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل واقع موقعه

فإن قوله واقع موقعه معناه في نفس الأمر وهو بيان

لما قبله .

وكذا في كلام الزمخشري حيث عرف المجاز العقلي

بقوله : إن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة

له ، فإن قوله في الحقيقة معناه في نفس الأمر، ونحو

(كسا الخليفة الكعبة) إذا كان الإسناد فيه مجازا كذلك ،

ثم القول بأن الفعل موضع لاستعماله في القادر ضعيف ،

وهو معترف بضعفه ،وقد رده في كتابه بوجوه منها:

أن موضع الفعل لاستعماله في القادر قيد لم ينقل عن

واحد من رواة اللغة ،وترك القيد دليل في العرف على

الإطلاق فقوله: ( إفادة الخلاف لا بوساطة) وضع لا حاجة إليه ،

وإن ذكر فينبغي أن لا يذكر إلا بعد ذكر الحد على المذهب المختار،

على أن تمثيله بقول الجاهل : (أنبت الربيع البقل) ينافي هذا الاحتراز

تنبيه :

قد تبين بما ذكرنا أن المسمى بالحقيقة العقلية والمجاز العقلي

على ما ذكره السكاكي هو الكلام لا الإسناد ،

وهذا يوافق ظاهر كلام الشيخ عبد القاهر في

مواضيع من دلائل الإعجاز ،

وعلى ما ذكرناه هو الإسناد لا الكلام ، وهذا ظاهر

ما نقله الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله

عن الشيخ عبد القاهر وهو قول الزمخشري

في (الكشاف) وقول غيره ، وإنما اخترناه لأن نسبة المسمى

حقيقة أو مجازا إلى العقل على هذا لنفسه بلا وساطة شيء،

وعلى الأول لاشتماله على ما ينتسب إلى العقل ،أعني الإسناد

ثم المجاز العقلي باعتبار طرفيه (أعني المسند والمسند إليه)

أربعة أقسام لا غير لأنهما حقيقتان ،

كقولنا : (أنبت الربيع البقل) ، وعليه قوله :

( فنام ليلي ** وتجلى همي )

وقوله:

( وشيب أيام الفراق مفارقي ** )

وقوله:

( ونمت وما ليلي المطي بنائم ** )


وإما مجازا ، كقولنا: (أحيا الأرض شباب الزمان)

وإما مختلفان ، كقولنا: ( أنبت البقل شباب الزمان) ،

وكقولنا: ( أحيا الأرض الربيع ) ،وعليه قول الرجل لصاحبه:

( أحيتني رؤيتك أي آنستني وسرتني )

فقد جعل الحاصل بالرؤية من الأنس والمسرة

حياة ، ثم جعل الرؤية فاعلة له ، ومثله قول أبي الطيب :

( وتحيا له المال الصوارم والقنا

ويقتل ما تحيي التبسم والجدا )


جعل الزيادة والوفور حياة للمال ، وتفريقه في العطاء

قتلا له ، ثم أثبت الإحياء فعلا للصوارم ، والقتل فعلا للتبسم

مع أن الفعل لا يصح منهما ونحوه قولهم أهلك الناس الدينار

والدرهم جعلت الفتنة إهلاكا ثم أثبت الإهلاك فعلا للدنيا

والدراهم .

وهو في القرآن كثير ،

كقوله تعالى :{ وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا }

نسبت الزيادة التي هي فعل الله إلى الآيات،

لكونها سببا فيها وكذا قوله تعالى :

{ وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم } ،

ومن هذا الضرب قوله { يذبح أبناءهم }

الفاعل غيره ونسب الفعل إليه لكونه الآمر به ،

وكقوله: { ينزع عنهما لباسهما } نسب النزع

الذي هو فعل الله تعالى إلى إبليس ، لأن سببه

أكل الشجرة ،وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياهما

إنه لهما لمن الناصحين، وكذا قوله:

{ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار }

نسب الإحلال الذي هو فعل الله إلى أكابرهم ،لأن سببه كفرهم

وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر ،

وكقوله تعالى :{ يوما يجعل الولدان شيبا }

نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه،

كقولهم : (نهاره صائم) ، وكقوله تعالى :

{ وأخرجت الأرض أثقالها }

وهو غير مختص بالخبر ، بل يجري في الإنشاء،

كقوله تعالى: { وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا }

وقوله: { فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا } ،

وقوله: { فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى } .


ولا بد له من قرينة ، إما لفظية كما سبق في قول أبي النجم ،

أو غير لفظية كاستحالة صدور المسند من المسند إليه المذكور،

أو قيامه به عقلا ،كقولك : (محبتك جاءت بي إليك)

أو عادة ،كقولك: (هزم الأمير الجند ،وكسا الخليفة الكعبة،

وبنى الوزير القصر) ، وكصدور الكلام من الموحد ،

في مثل قوله : (أشاب الصغير البيت)

واعلم أنه ليس كل شيء يصلح لأن تتعاطى فيه

المجاز العقلي بسهولة ، بل تجدك في كثير من

الأمر تحتاج إلى أن تهيء الشيء وتصلحه له

بشيء نتوخاه في النظم ، كقول من يصف جملا:

( تجوب له الظلماء عين كأنها

زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر )


يريد أن يهتدي بنور عينه في الظلماء ،

ويمكنه بها أن يخرقها ويمضي فيها ،

ولولاها لكانت الظلماء كالسد الذي لا يجد السائر

شيئا يفرجه به ،ويجعل لنفسه فيه سبيلا ،

فلولا أنه قال : (تجوب له) فعلق له بتجوب ،

لما تبين جهة التجوز في جعل الجوب فعلا للعين

كما ينبغي ، لأنه لم يكن حينئذ في الكلام دليل

على أن اهتداء صاحبها في الظلمة ومضيه فيها بنورها ،

وكذلك لو قال : تجوب له الظلماء عينه ،

لم يكن له هذا الموقع ولا تقطع السلك من حيث

كان يعيبه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به ،

واعلم أن الفعل المبني للفاعل في المجاز العقلي

واجب أن يكون له فاعل في التقدير إذا أسند إليه

صار الإسناد حقيقة لما يشعر بذلك تعريفه كما سبق ،

وذلك قد يكون ظاهرا ، كما في قوله تعالى :

{ فما ربحت تجارتهم } أي فما ربحوا في تجارتهم،

وقد يكون خفيا لا يظهر إلا بعد نظر وتأمل ،

كما في قولك : (سرتني رؤيتك) أي سرني الله وقت رؤيتك،

كما تقول :أصل الحكم في (أنبت الربيع البقل) أنبت الله البقل

وقت الربيع ، وفي: (شفى الطبيب المريض) شفى الله المريض

عند علاج الطبيب ، وكما في قوله :

(أقدمني بلدك حق لي على فلان) أي:

أقدمتني نفسي بلدك لأجل حق لي على فلان ،

أي قدمت لذلك ونظيره: (محبتك جاءت بي إليك) ،أي:

جاءت بي نفسي إليك لمحبتك ، أي جئتك لمحبتك ،

وإنما قلنا :أن الحكم فيهما مجاز ،لأن الفعلين فيهما مسندان

إلى الداعي والداعي لا يكون فاعلا ،

وكما في قول الشاعر :

( وصيرني هواك وبي

لحيني يضرب المثل )


أي وصيرني الله لهواك وحالي هذه ،

أي أهلكني الله ابتلاء بسبب هواك ،


وكما في قول الآخر وهو أبو نواس :

( يزيدك وجهه حسنا

إذا ما زدته نظرا )


أي يزيدك الله حسنا في وجهه ، لما أودعه من

دقائق الجمال متى تأملت .

وأنكر السكاكي وجود المجاز العقلي في الكلام ،

وقال: الذي عندي نظمه في سلك الاستعارة بالكناية ،

بجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي

بواسطة المبالغة في التشبيه على ما عليه مبني الاستعارة،

كما سيأتي وجعل نسبة الإنبات إليه قرينة للاستعارة .

ويجعل الأمير المدبر لأسباب هزيمة العدو استعارة

بالكناية عن الجند الهازم وجعل نسبة الهازم قرينة

للاستعارة، وفيما ذهب إليه نظر لأنه يستلزم

أن يكون المراد بعيشه في قوله تعالى :

{ فهو في عيشة راضية } صاحب العيشة لا العيشة ،

وبـ(ماء) في قوله: { خلق من ماء دافق }

فاعل الدفق لا المني لما سيأتي من تفسيره للاستعارة

بالكناية ،وأن لا تصح الإضافة في نحو قولهم:

(فلان نهاره صائم وليله قائم) لأن المراد بالنهار

على هذا فلان لا نفسه ،وإضافة الشيء إلى نفسه

لا تصح ، وأن لا يكون الأمر بالإيقاد على الطين

في إحدى الآيتين ،وبالبناء فيهما لهامان مع أن النداء

له وأن يتوقف جواز التركيب في نحو قولهم:

( أنبت الربيع البقل وسرتني رؤيتك)

على الإذن الشرعي ، لأن أسماء الله تعالى توقيفية

وكل ذلك منتف ظاهر الانتفاء .

ثم ذكره منقوص ، بنحو قولهم :

(فلان نهاره صائم) ، فإن الإسناد فيه مجاز ،

ولا يجوز أن يكون النهار استعارة بالكناية عن فلان،

لأن ذكر طرفي التشبيه يمنع من حمل الكلام على الاستعارة،

ويوجب حمله على التشبيه ، ولهذا عد نحو قولهم:

( رأيت بفلان أسدا ولقيني منه أسد) تشبيها لا استعارة،

كما صرح السكاكي أيضا بذلك في كتابه .


تنبيه :

إنما لم نورد الكلام في الحقيقة والمجاز العقليين

في علم البيان كما فعل السكاكي ومن تبعه لدخوله

في تعريف علم المعاني دون تعريف علم البيان .

=========

ونلتقي في الحلقة القادمة إن شاء المولى.