عرض مشاركة واحدة
قديم 02-26-2016, 04:56 PM
المشاركة 27
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
في مناسبة سابقة (9)، اتيح لي أن أناقش مسألة التمييز بين الفضاء الطبيعي والفضاء التشكيلي في اللغة الشعرية معتبرا أنها واحدة من أبرز الاستراتيجيات الأسلوبية التي تكفل لقصيدة النثر العربية المعاصرة إمكانية واسعة لاكتساب أرض جديدة في العلاقة مع القاريء، وفي سياق محدد هو منافسة القصيدة الموزونة، سواء استخدمت عمود الخليل أم التفعيلة. وقد كان شعر سليم بركات أحد أمثلتي التطبيقية.

وقد أوضحت أنني أعني بالفضاء الطبيعي ذلك الحيز الذي يدرك بدءا من الجسد الانساني والى الخارج المقابل. سواء أعانت عناصر ذلك الحيز مشهدا متعدد الأجزاء (كما في الاطلاقة على منظر طبيعي) أو مشهدا وحيد الجزء (كما في النظر الى شجرة عزلاء)، أو مشهدا مركبا قائما على الفراغ المادي والامتلاء الرمزي (كما في الوقوف أمام بيداء صحراوية أو بطحاه مغمورة بالثلج). والشاعر في مواجهته لهذا الفضاء الطبيعي يقيم توازنا من نوع ما بين مخيلة ترشقه خارج نفسه، وذاكرة بصرية تشده الى داخل نفسه، ومكان يغلف المخيلة والذاكرة فيبقى الشاعر خارج نفسه وداخلها في آن معا.

الفضاء التشكيلي في المقابل، هو الفضاء الطبيعي وقد انقلب الى رؤيا إبصارية خارقة لوسائل الإدراك المعتادة، وانهارت فيه علاقات التراتب الوظيفي الثلاثي بين المخيلة والذاكرة البصرية والمكان. وتكونت عناصره من مزيج تركيبي لا يسمح بتبادل أو إعادة توزيع أو قلب الأدوار بين عناصر التقاط بصري تشكيلي على الصفحة المطبوعة ذاتها: اختيار شكل هندسي لتوزيع النص، تدوير أو قطع السطور الشعرية وفق عمارة غير مألوفة، إفساد القواعد المعتادة لعلامات الوقف، استخدام قياسات أو ألوان مختلفة للحرف الطباعي، وما الى ذلك.

وعلى سبيل المثال، يقول سليم بركات في القسم الأول من قصيدته "ديلانا وديرام" مجموعة "الكراكي".

هذا عالم يتلى. هذا حبر يتلى وديرام ممسك بريشة الجذور يخط رسائل للضباب الوالي، هادئا لا يفكر في نبيذ ما، أو في نهب، بل في النهر المعلق فوق المدينة، النهر الأعزل الجسور، الذي يهييء أعشاشا للهاث الأسلحة ويستطلع الحجر، وديرام يحصي من شرفته ملوكا يمرون، وممالك تجتاز الطريق متوكئة على عصي البازلت ناقرا بأنامله على غشاء المشهد، كأنما يستوقف الغبار العابر ليحمله زهرة ما، أو طبلا، الى الاعياد التي تتهرأ نعالها من الرقص على المياه. ويرفع بصره، ثانية الى الأعلى الى النهر الجسور ذاته، المعلق بكلاليب الآلهة، صارخا:

"لماذا تتبعني أيها النهر ؟

لماذا تنفخ في بوقك النجيلي فيصعد المنشدون إليك،

حالمين أعضائي في

برعم، ويقظتي في أباريق الصلصال؟

لماذا تريني القرى بين عفرتي إبطيك،

وتحزم المدينة في جريانك بحبل من السيفير وزيزفون

ومن الواضح هنا أن الفضاء الطبيعي يتألف من أجزاء متعددة ولكنها أجزاء لا تصنع أي "مشهد طبيعي" متجانس في وسع الذاكرة البصرية أن تستعيده على الفور من مخزونها البصري وفي هذا المستوى الأول تكون القراءة ملزمة بالانخراط في "تشكيل" مشهدية مركبة من نوع غير مألوف (إذ ليس في وسعها أن تشكل مشهدا أحاديا من نوع مألوف مسبقا)، وتكون قواعد التشكيل مرنة ومفتوحة وحرة وخاصة بكل قاريء على حدة، ولكنها في الآن ذاته تظل محكومة بقواسم مشتركة عليا هي أجزاء المشهد الطبيعي كما اندر فبت في القصيدة. في المستوى الثاني تكون القراءة ملزمة باستحضار موقع الشاعر الانسان في هذه المشهدية التشكيلية (وهو، أيضا استحضار القاريء لنفسه في المشهد). الأمر الذي يفضي الى التماس زمنية الفضاء الطبيعي، وهي زمنية تشكيلية بدورها لأنها تقوم على أفعال متغايرة الأزمنة، وعلى صيغتي التصريح والسؤال فضلا عن العلاقة التبادلية بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب.

في المستوى الثالث تكون القراءة ملزمة بتكوين استجابة دلالية إزاء الصياغات التشكيلية لعلاقات المخيلة والذاكرة البصرية والمكان، كما في "دعني في مداي المغلق بثلاثين كبشا وسرير واحد، تتخاطف النساء عليه مملكة لم تكتمل: أهذه استجابة مجازية بلاغية صرفة ؟ أهي استجابة بصرية ؟ أهي استجابة ذهنية رؤيوية ؟ أم هي مزيج من هذه أو تلك ؟ وفي مستوى رابع لابد للقراءة من أن تتخذ موقفا من هندسة توزيع السطور والفقرات والمقطع بأسر». أي انطباعات تخلفها هذه الهندسة ؟ هل تساهم في صناعة ايقاع متباطيء أم متسارع ؟ هل تقوم بضبط الاستقبال. أم تفلت زمامه: هل تتكامل أم تتنافر مع الفضاء التشكيلي الأعلى الذي يغلف القصيدة الطويلة الأم ؟ وما الفارق؟

غير أن القراءة ملزمة بتطوير مستوى خامس شاق بقدر ما هو محرض على توليد جماليات تشكيلية عالية، مستوحاة من ذهول الكائن أمام عبقرية المكان. أو بالأحرى أمام أعجوبة انكشاف خصائص بعينها من عبقرية المكان، لم تكن وليست مرئية خارج برهة انقلاب الفضاء الطبيعي الى فضاء تشكيلي. والمرء يتذكر قول شارل بودلير:

آه، كم العالم كبير في وضوح المصابيح

وكم العالم صغير في أعين الذاكرة.

واستدعاء الذاكرة، أو الذاكرة البصرية على وجه التحديد، هو معضلة المستوى الخامس من قرا؟ة تجهد لكي تصالح بين مخزون الصور الطبيعية وبين الطاريء التشكيلي الذي يعيد استقلاب تلك الصور دون أن يطمسها، أو يغلفها بأغشية استعارية دون أن يحجب قوامها العضوي أو مكافئاتها المعيارية. ودير ام في قصيدة سليم بركات الشاعر الواقف في قلب العالم ساعة انكشاف المكان أمام نهر يتبعه حاملا قنديل إيضاح الواضح (لماذا تتبعني أيها النهر: لماذا تحمل قنديلك والأرض واضحة كما ترى؟). وديرام هو الجسد الانساني وقد انقلب الى مركز لاسباغ الزمن على الفضاء الخارجي (دير ام يحصي من شرفته ملوكا يمرون، وممالك تجتاز الطريق متوكئة على عصي البازلت). ولكنه المركز الذي تتصارع فيه ذاكرة بصرية طبيعية وأخرى منبثقة من إبصار المشهد على نحو رؤيوي.

وفي النص السابق يمكن العثور على خمسة أنماط من هذا التصارع:

1- بين الصور المتماثلة في كيفية الفعل والمتغايرة في مادة الفعل "هذا عالم يتلى. هذا حبر يتلى".

2- بين الصور المتعارضة في كيفية الفعل والمتماثلة في مادة الفعل: "لماذا تكشفني لنخيل البحر المتشح بهزائم الساهرين ساهرا يؤجج الحقول".

3- بين العنصر الملموس موصوفا في صورة مجردة (النهر المعلق فوق المدينة)، وبين الفعل المجرد والمادة المجردة (النهر "الذي يهييء أعشاشا للهاث الأسلحة، والنهر الذي يستطلع الحجر").

4- بين الكائن الانساني (ديرام) والعنصر الطبيعي (النمر، العاصفة) والموضوع المادي (الجرن، العدس) والفعل الطبيعي (الطحن) المرفوع الى مستوى استعاري: "كلانا جرن تطحن العاصفة فيه عدسها".

5- بين الصورة الثابتة (سهم الشمال، نورج المحارب، رهيف المدينة)، وبين الصورة المتحركة (نافرا بأنامله على غشاء المشهد، تنفخ في بوقك النجيلي، تحزم المدينة في جريانك).

وفي جميع الأمثلة السابقة لا تملك ذاكرة القاريء البصرية أي مخزون صوري طبيعي يسمح بالتفكير في "عالم يتلى"، أو "نخيل متشح بهزائم الساهرين"، أو نهر يهييء الأعشاش للهاث الأسلحة، أو "جرن تطحن فيه العاصفة العدس ".. أكثر من ذلك، يبدو النص السابق - وربما شعر سليم بركات بأسره - وكأنه لا يستمد بنيته الاجمالية إلا من هذا الاحتشاد الزاخر لأمثلة التصارع بين مادة العالم الطبيعي وصور التقاط المادة ذاتها على نحو رؤيوي تشكيلي. ورؤية بركات تقوم تارة باسباغ المحتوى السحري - الطفولي على المشهد المألوف، أو تقوم طورا بترقية عناصر الطبيعة الخام الواضحة الى عناصر تشكيلية متسامية في مشهد رؤيوي خارق للمألوف، الى جانب أنها - في الحالتين - تنتهك أعراف الذاكرة البصرية وتحفز على الرؤية التشكيلية خارج تلك الأعراف.

غير أن قواعد القراءة الأول لأي نص أدبي تظل شبيهة بقواعد عزف مقطوعة موسيقية للمرة الأولى: لا مناص من الالتزام بما تقوله العلامات المدونة على السلالم الموسيقية، وفي الني الأدبي تبدأ هذه العلامات من القراءة "المنتظمة"، أي تلك التي تبدأ من اليمين الى اليسار، وتمر على الكلمات كما رتبها المبدع في السطور. وهي تاليا ملزمة باستقبال بنية السطر النحوية والدلالية والمجازية كما شاء المبدع تقديمها. وملزمة بالسير في السياق الرؤيوي الذي حاول الشاعر صياغته. بمعنى آخر، ليس من حق القاريء أن يبدأ نص سليم بركات من منتصفه فإلى الأعلى، أو من ختامه فإلى المنتصف، وليس من حقه أن يبدل عبارة "نخيل متشح بهزائم الساهرين" بعبارة أخرى تقول "هزائم متشحة بنخيل الساهرين". وليس من حقه (إذ ليس ذلك في وسعا عمليا) أن يستنبط سياقا مضادا مستوحى من قلب عبارة سليم بركات ذاتها، الى أخرى تقول "لبلاب متجرد من يقظة النائمين" على سبيل المثال.

هذه بالضبط هي كبرى نقاط الارتكاز الدلالي لنص ينتهك الذاكرة البصرية المختزنة. فالقاريء ملزم هنا بتخيل ما يريده الشاعر أن يتخيله، وفق القواعد التي يرسمها الشاعر وليس استنادا الى أية قواعد "قياسية" أو "معيارية" متفق عليها. وما دامت كل الكلمات، ما عدا أسماء العلم ربما، قادرة على صناعة المعنى بالضرورة، فإن ملكات توليد المعنى هي وحدها التي تنشط وتتنبه حين تقف وجها لوجه أمام معضلة انقلاب الفضاء الطبيعي الى فضاء تشكيلي طاريء لم تتخيله الذاكرة البصرية من قبل، وهو غير مدون في طبقاتها وتواريخها. وأما إذا احتوت النصوص على مقدار عال من المواد المساعدة على إحياء الذاكرة البصرية، فإن حظوظها في توليد المعنى سوف تكون محدودة لأنها ستتناسب عكسا مع مقدار تقاعس الملكات من الانخراط في التخيل الطاريء غير المدون في الذاكرة البصرية.

يعلمنا تاريخ الانجازات الابداعية الفردية درسا كبيرا مفاده أن أعمال الأدب الاستثنائية قامت بواحد من انجازين: إما أنها أسست أسلوبية جديدة، أو تسببت في محاق أسلوبية قديمة، الأمر الذي يعني أنها - في النتيجتين - حالات خاصة للغاية وأدب سليم بركات نموذج رفيع على تلك الحالات الخاصة: شعره ضخ حياة جديدة في المشهد الشعري العربي المعاصر، وروايته أحيت عالما سرديا يكون فيه العجائبي مادة كبرى جبارة الالتماس واعادة انشاء العالم الفعلي. الأهم من ذلك.وهذه ليست مفارقة البتة، أن سليم بركات الكردي كتب بلغة عربية فصحى - حية، دافقة بليغة، إعجازية، فاتنة، طليقة، بالغة الثراء والجسارة والجزالة - ولعب دورا كبيرا كبيرا في تحديث قوامها التركيبي واستخداماتها البلاغية ووظائفها الخطابية، الأمر الذي يغني عن القول إنه بات بؤرة استقطاب ومعيار قياس ونموذج تأثير.

الأمر الذي يفني أيضا عن الجزم بأنه وراء تأسيس أسلوبية جديدة في الشعر كما في الرواية، وأن من الطبيعي أن ننتظر منه المزيد..

*

الهوامش:

1- Kostis Palamas, “The Twelve Lays of the Gipsy, “Trans. George Thomson. London 1969. p. 107

2- سليم بركات: "الديوان"، دار التنوير، بيروت 1992، ص 35- 36.

3- المصدر السابق ص 7.

4- المصدر السابق ص 218.

5- المصدر السابق ص 312.

6- سليم بركات..: "طيش الياقوت". دار النهار للنشر، بيروت 1996. ص 20.

7- سليم بركات: "الديوان". ص 7- 12.

8- المصدر السابق ص 255.

9- في "مؤتمر الشعر العربي الاول" الذي نظمته جمعية "فاس سايس" في مدينة فاس المغربية، أيام 27- 30 نيسان (ابريل) 1999.