عرض مشاركة واحدة
قديم 02-26-2016, 03:38 PM
المشاركة 23
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سليم بركات .. رحلة في الخيال
« في: 09:33 10/10/2009 »
سليم بركات ..
* * * * * * * * * * * * * *

رحلة في الخيال
افراح الكبيسي

[*]الإهداء:

نملة تتسلق جسد عملاق .. إنها لرحلة طويلة

[*]المقدمة:

سليم بركات, هذا الفذّ الذي أعطى الشعر نكهة جديدة, والرواية بعدا جديدا. هذا العملاق الذي تحالف مع دولة عظمى, دولة اللغة, لينهي هزائم الكتابة. هذا العبقري الذي أسس مدرسة للخيال, متحديا خيالنا لدخولها, فكيف بالنجاح فيها. هل تكفي السطور لمدح سليم بركات العاف عن المديح, "وغواياتي غواياتُ مديحٍ [1]", المتحدي للمداحين, "سيتقاسَمُكَ المُراهنون في اقتحامهم المديحَ باباً باباً، بالحظوظِ التي يباركها الخوف [2]". أم علينا أن نمدحه بمفردات من عالمه, عالم الخيال ألا منتهي, حيث الشخوص تحرض المجهول فيها "على صوغ المجهول [3]" فينا، "والحدث الذي [3]" يحرِّض، "ب (لا - حدوثه) [3]"، على شغف "حدوثُه في خيال [3]" كتابتنا. وترى هل ستنجح رحلة مديحنا هذه, الحكم لبركات, ولكم.
[*]الولادة:
يقال أن سليم بركات هو من مواليد القرن العشرين, وهذا تزوير في أوراق رسمية, ومجرد تهويمات لإخفاء ما يراد إخفاءه. فولادة بركات ابعد من ذلك بكثير. وهذه الولادة, الولادة الأصلية, لها أدلة توثقها, أدلة مختومة باسم بركات, لتحفظ "حق المجاهرة بالخوف من الفقد [4]". *أدلة لها شهود "مُتَّحِديْنَ في الصوت [5]" بعدم "نسيانِ الخَتْمِ [5]" ولا "نسيانِ المواثيقِ [5]". أدلة لها براهين, "تظلِّلها بالحبرِ من تهتُّكِ اليقين, وتُوْقِعُ بالكلماتِ [6]".
ولادة بركات كانت مع الإنسان الأول, إنسان الكهف المجبول بحب استكشاف كل ما حوله في محاولة للتعرف على العالم لأول مرة عبر توصيف كائناته وفهم طبائعها.
"
أن يتخذ سيّاف الغيبِ كمالاً ككمال الظلام ِ، وتركعُ الرياحُ الأسيرةُ، تغرورقُ
عيناكَ، يا هادئاً ترى الذي ترى، وتكفيكَ من الأبدِ قضمةٌ واحدةٌ، فلماذا تأسى
للوقتِ، ولماذا تضربُ بحافركَ على رخامِ بطشنا ؟
[7]".
عاش بركات مع هذا الإنسان, الأول, واستكشف معه كثيرا من الكائنات, وانتهى من فهمها إلى تسميتها لاختزال عملية الإشارة لها. وكانت استفادة بركات من هذه التسميات لا حدود لها.
"
للقرنفلِ شَكُّهُ. للتوتِ شَكُّهُ. للقُنَّبِ، للحَلْبُوبِ، للدِّفْران، للتَّنُّوب والجُرَيْس، لنا، لليَحْمُوْرِ النازفِ على حجارةِ النبعِ، للقيامةِ التي تتهيأ بأقنعتِها القِطانيَّةِ، للدّعاميصِ الطافيةِ على الماء، للبتولا، للطاووس الساهرِ على الكلمةِ، القويِّ الخجول، للبَوَّاقِ ذي النَّفْخِ المالحِ، للبَقْس، للتَّنُّوبِ، للجاوَرْسِ، للحندقوق الهاذي، للفجرِ الذي يتلوَّى كالصِّلِّ قرب النعمةِ، لِلْبلاذِرِ، للكتّانِ، لليقينِ الراكضِ بجلاجِلِ الفراغِ، للغد شُكُوكَهُ.
هكذا: شُكُوكٌ على مرمى القَهْقهةِ؛
شكوكٌ على مرمى الذَّهب.
[8]".
بعد ذلك ظهرت الكتابة, على حين غفلة, لتسمح للإنسان الأول باستخدام الصور كرموز لكتابة الكلمات وتكوين الجمل, ولتسمح لبركات باستخدام الصور "لاستنطاق الماهيات [9]" وتكوين "النص السحري [9]".
"
لا تَقُلْ إنَّ العذوبة سوْطُكَ الذي تقودُ به جيادَ النبات،
والنهارَ إوزّةٌ شردتْ من حقلِكَ الحديديّ، بل التمسْ ذاكرةَ التُّفاحِ بكلماتِ الغُصنِ، وأطلِقْ يديكَ كذهبٍ مطحونْ.
غزالتُكَ هناك؛ غزالتُكَ البلَلوريَّةُ تحت الشجرة البلّلوريَّة، وقلبُكَ هنا، يهزُّ قرْنيهِ ليرُدَّ الفجر ذا الفراء عن سريرك الذي يهوي عميقاً، الى حيثُ لا نعاسَ يرعى بقراته البيضاءْ.إنها المشيئةُ التي تضربُ الأرض بقناعها، وأنتَ رنينُ الضربةُ.
[10]".
"
فلْنَتَفاوضْ كسيِّدَيْن.
أجلس هنا، أمامي، فأنا جالسٌ ومعي ما تريد،
وحدّق فيَّ كما ينبغي لخصمٍ أن يُحدِّقَ، ثم ضَعْ على المنضدة ما تحتوي جيوبُكَ؛
الحديقة أوَّلاً. إنني أرى الجذورَ تخترقُ السُّترة، والترابَ يُعَفِّرُ قميصَكَ. هنا، على المنضدة.. الحديقة أوَّلاً.
ثُمَّ هاتِ السحابةَ تِلكَ، التي تبلِّلُ حوافَ القبعةِ، وتتدلَّى خِصَلٌ باردةٌ منها بينَ خصلات شعركَ. وهاتِ القوسَ قُزَح، ذاكَ، المائلَ على صدّارَتِكَ المذهَّبَةِ. هاتِهِ.. هنا، على المنضدةْ.
لا، لا تكنْ شاحباً، ولنتفاوَضْ كسيِّديْنِ، فمعي ما تريد.
[11]".

[*]النشأة:
بدأ الإنسان ينزع للعيش في تجمعات, وكان هدفه في البداية نبيلا: إبعاد شبح الوحدة, والتكاتف لتحصيل الخير ودرء الشر. لكن هذا الهدف النبيل لم يدم طويلا, فظهرت الحروب بمبررات تحتاج للتبرير. وظهر استعلاء الإنسان على أخيه الإنسان بلا وجه حق, وظهر الظلم بوجوه متعددة ابتداء بالاضطهاد ومرورا باستلاب الحريات وليس انتهاء بالقتل. وفي خضم هستريا الوجود, كان الكرد, وكان بركات.
"
المكنُ طَلْقَةُ الخيالِ التي تُرْدِيْكَ،
لتتعافى حُرَّاً، حيثُ المتاهُ رَجَاءُ،
والكونُ يغطي بأسماله نوارجَ اليقين؛
حيثُ الحروبُ، نقيَّةٌ كفراء السنجابِ، تتماوجُ في الهبوب الرَّحيم للجَدَلِ، ويتأهَّبُ العَدَمُ ـ هذا الجناحُ الأقوى.
الكُرْدُ هناكَ،
في دويِّ الطَّلْقَةِ التي تُرْدِيْكَ لتتعافى.
[12]".
حمل بركات الهم الكردي بين أضلاعه, وظل يركض في "ثورةِ [13]" قومه *"بإصرار، لكردي يحلم بكونه كردياً [14]".
"
أأسمّي لكم الأعلامَ التي هناك، فوق الشُّرفات العاليةِ المستندةِ على البنادق؟ أأسمّي لَكُم البنادقَ الكثيرةَ هناك، حيث البطولةُ التي تتقنَّعُ في الدخول على الكرديَّ من حيائها؟ أأسمي الكرديَّ ليتدفَّأ الليلُ بقميصهِ المُنْتَهَب؟
[15]".
"
سأرفعُ هذا الحديدَ، إذاً، على الخشبة القوية التي تهتزُّ تحت قدميَّ القويتينْ. سأشهدُ امتحان العَضَلِ وامتحانَ الهواء، حين تتَّخذ الشرايينُ النّافرةُ أُهْبَتَها وهي تمهَّدُ للدَّم عُذرَتَهُ وفجوره،
سأرفعُ هذا الحديدَ بحكمةِ الحديد.
سأُقسِم أن الحديدَ المرفوعَ على يديَّ هو الغدُ مغسولاً في رئةٍ كرديَّةٍ.
[16]".
ورغم أن الموت واليأس هما متلازمتا الحروب والظلم في كل زمان ومكان, يبقى الأمل هو الفيصل في نهاية الأمر.
"
( أيها الموتُ،
يا أسمالاً على كتفين قويتين؛
يا مِمحَاةً ترتجفُ، وياقوتةً غيرَ مثبَتَةٍ في الخاتم على نحوٍ مُحْكَمٍ؛
يا مُبدِّداً نَفْسَهُ بين الألقابِ،
كأنّما سُلوقيٌّ يجُرُّك لاهثاً،
وكأنّما ذاكرتُكَ تتراءى قِطَطاً مقذوفةً من الشُّرفات.
أيها الموتُ،
يا غريقاً تمتد إليه الأيدي كُلُّها،
خفِّفْ مُساءَِلاتِكَ قليلاً).
[17]".
"
بآلات الزَّهر، بك أيتها الحديقةُ الضائعةُ في جهات يدي، سأمسكُ الرَّسنَ الأقوى، ناظراً الى ما ينحدرُ من الصَّرخةِ العاليةِ، فلي موعدُ الجذورِ، واحتدامُ البعيد. وإنْ نسيتُ شيئاً من مباهجِ الوداعِ وهسهسات مهاميزه، فسيدركني الظلُّ الرسولُ، أو النبضُ الرطبُ لثمرةٍ سقطتْ في المياهِ؛ إنْ نسيتُ؛ إنْ نسيَ الوداعُ شيئاً من مجوني الذي قَسَّمَ الشجرةَ بين جهاتها.
هكذا كُلٌّ سيدركُ الذي لم يفتْهُ. كلٌّ سيُدْرِكُ المُدْرَكَ، وينسى بطشَ الذي فات.
بآلاتِ الزَّهرِ تتواطأ الأرضُ على نَفْسِها.
[18]".
[*]الهجرة:

بدا الناس بالهجرة من مكان الى آخر, كل يبحث عن مبتغاه. وهاجر بركات إلى العرب, باحثا عن اللغة العربية, عن "حفنةَ الريحِ التي ألْهمتِ الحيًّ بلاغاتٍ [19]", عن المفردة الصعبة, والكلمة المنقرضة, والقواعد الصلبة.
"
نانْيك يتها الأبديةُ، يتها المحفورةُ مثلي على خوذةٍ، سأصْلحُ من هَيْأتي قليلاً، سأصْلحُ من هيأةِ اليابسةِ، وأنسِّقُ المياهَ إناءً على مَسْطَبَةِ الروحِ قبلَ تدخلَ العدميَّاتُ بنبالهنَّ الآجريَّةِ يقنصْنَ الكواكبَ وتوابعها؛ قبل أن يخترقْنَ مطالعَ الأغاني بحروفٍ مَلُوْلَةٍ، أو يطعنَّ الغزالةَ الحائمةَ حولَ أبجديةٍ لا تُرى. وسأصْلحُ من هيأةِ الليلِ فيدخلُ الحُلَمَ طائشاً في عباءاته الطائشةِ، فأنا الدليلُ لن أدلَّ أرضاً، بعد هذا، إلاَّ على رُعبِها
[20]".
في هجرته هذه كان بركات يتموج "مُنْزَلقاَ من ورقةٍ إلى ورقةٍ، ومن لهاثٍ إلى لهاثٍ [21]", لأنه أدرك منذ البداية أن ليس "يُدْرَكُ شكلٌ بغير ذعرٍ، وليس تُغوي المعاني بغير هذا الشهيق [22]".
"

هذا هو أنتَ،
أيها المنتفضُ تحتَ بروقِ الحبرِ. هذا هو أنتَ،
وقربكَ طلٌّ سكرانُ،
ظلٌّ مما تلقيهِ الأرضُ، في غروبها، على رغيفِ الكائنْ.
هذا هو أنتَ،
صلبٌ كروحٍ صلبةٍ يرنُّ على حوافها قرعُ عكاكيزِ الظلامِ المائةِ،
وخلفكَ مائةٌ من النساء يطحنَّ، في جُرنٍ واحدٍ، يقظةَ البطولةْ.
هذا هو أنتَ،
دأبُكَ دأبُ المؤرِّخِ، لكن تؤرِّخُ المياهَ وحدَها.
بسيطاً تؤرِّخ المياهَ. بسيطاً تُغوي الحبرَ ليتهيأ الحبرُ لسباتِ الكلامِ،
لتبقى وحدَكَ يقظانَ في حلمِ الحروفِ؛ يقظانَ حتى
آخرِ انتحارٍ للأرضِ قربَ مرآتِها.
[23]".
ولحسن حظنا, ولحسن حظ اللغة العربية, وجد بركات مبتغاه, ليصبح وبكل جدارة عملاق البلاغة "اليقظى من ارتجاجِ العجلاتِ على الحبرِ [24]", وعملاق النثر "المسكونِ الذي لا يُؤاتي [24]", وعملاق الشعر والرواية.
"
كنبيلٍ سأدلقُ صِحافَ الفاكهة من الأعلى، هاتفاً بخليلاتي: دَوِّنَّ هذا؛ دَوِّنَّ ذهبي المَذْرُوْفَ على قرونِ الجليدِ، وارفعنَ خَمالاتِ الريشِ لألتَقي وهجَ الأجنحة، فأنا شبكةُ المديحِ التي يتخبَّطُ فيها عُقَابُ المديح.
[25]".
"
دَوِّنَّ هذا، دَوِّنَّ هذا يتها الخليلات:
عاصفاً يبدأ الشَّكلُ، عاصفاً ينتهي.
عاصفاً يبدأ المكانُ، عاصفاً ينتهي.
وأنا أحَرِّضُ التماثيلَ، على قممِ الأعمدة، أن تطلقَ قُمْريَّها الجريحَ من شِبَاكِ الحجر.
غير أني سأتلو الحجرَ جناحاً جناحاً، وسأتلو البحيرةَ خلف الرابية طعنةً طعنةً، موشكاً - وأمسكُ نَفْسي - أن أضرِّجَ الغدَ كله بهبوبٍ يشوبهُ الزَّعفرانُ. موشكاً أنْ أقتحم الهياكلَ بالهياكلِ، والأدراجَ بالأدراج، وحسبيَ الغوايةُ التي تُدَحرجُ قُفَفَ العُنَّاب برَكْلَةٍ من قَدَمها.
[26]".
[*]الخاتمة:
ما زال هناك الكثير الكثير ليقال عن سليم بركات الذي لا يمكن اختزاله ببضعة صفحات ولا تكثيفه ببضعة سطور. ولكن كما لكل مقال مقدمة لا بد له من خاتمة, وكما استعنا ببركات لتنشيط مخيلتنا عنه, واستعنا ببركات لمدحه لعدم تطاول اللغة على ذلك, سنستعين ببركات لنختم مقالنا عن عملاق اللغة والمتربع على عرش الأدب العربي سليم بركات.
"
لكن، بأيّ أحبولةٍ ستأسرون هذا المهرقَ كالقهقهة ؟ بأيٍّ ستأسرون الرخيم مثلَ
الإنشاد للمياه ؟ ليكنْ. خذوه، خذوا الطائش الجميلَ، فهو قرعُ الحكايةِ على
إيهِ،…إيهِ، أكانت لكم حكايةُ قبلَ أن يمسًّ بذيله الحكاية ؟
[27]".
[*]ملاحظات:


مقاطع القصائد التي استخدمت كأمثلة في هذا المقال لم تؤخذ بالضرورة من قصائد تشابه بمدلولها المدلول الذي استخدمت فيه هنا.
[*]جميع المصادر المذكورة أخذت من موقع جهة الشعر http://www0.jehat.com.

[*]الهوامش:
[1]. الحديد, بالشباك ذاتها بالثعالب التي تقود الريح, 1984.
[2]. مهاباد, البازيار, 1991.
[3]. سليم بركات, أنه امتحاني حتى الموت, عدنان حسين أحمد, جريدة (الزمان) لندن.
[4]. الأختام والسديم, 2001.
[5]. المعجم, 2005.
[6]. استطراد في سياق مختزل, طيش الياقوت, 1996.
[7]. الحمار, فهرست الكائن, بالشباك ذاتها بالثعالب التي تقود الريح, 1983.
[8]. ليبق معي, خزائن منهوبة, 1986.
[9]. سليم بركات, عراب المتاهات وخيال الهاوية, ناصر مؤنس وصلاح عبد الغفور.
[10]. المشيئة, الضباب المتزن كسيد, 1984.
[11]. لا تكن شاحبا, الضباب المتزن كسيد, 1984.
[12]. استطراد في سياق مختزل, الضباب المتزن كسيد, 1984.
[13]. المطالبة بجسد فراشة غريبة, كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضا, 1973.
[14]. سليم بركات, أنه امتحاني حتى الموت, السابق.
[15]. مهاباد, السابق.
[16]. مهاباد, السابق.
[17]. مهاباد, السابق.
[18]. الحديقة, منزل يعبث بالممرات, 1984.
[19]. الحديد, السابق.
[20]. وميض مر, الكراكي, 1981.
[21]. المشيئة, السابق.
[22]. قلق في الذهب.
[23]. الحيوان الأخير, فهرست الكائن, بالشباك ذاتها بالثعالب التي تقود الريح, 1983.
[24]. القطيعة, أسرى يتقاسمون الكنوز, البازيار, 1991.
[25]. الفجيعة, منزل يعبث بالممرات, 1984.
[26]. الفجيعة, السابق.
[27]. الثعلب, فهرست الكائن, بالشباك ذاتها بالثعالب التي تقود الريح, 1983.