عرض مشاركة واحدة
قديم 02-10-2014, 01:15 AM
المشاركة 25
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الدين أفيون الشعوب ؟

لو انطلقنا من هذه القولة لألغينا القيم بالمجمل كما نلغي الحساب والجزاء ، آنئد فقط سنشرع لكل شيء وفق منطق القوي ، إذ ذاك ستسود الهمجية المفرطة والفتنة الحقيقية . تصور أن يحس الإنسان استقلالية الفعل و نلغي "الضمير" أو بالأحرى محرك الفعل الإنساني المسير للحياة الاجتماعية و التخفيف من الأنا المتعالية ، تصور أن لا تكون هناك قوة موجهة للفعل الإنساني تتحكم في سلوكياته ، تصور أن يترك الإنسان لمصيره ، لا أعتقد أن الفرق الحقيقي بين الإنسان و المخلوقات الأخرى ما هو إلا التدين الواعي ، أي التدين الاختياري ، و القبول بالعبودية لله بحب .

ربما أن خطأ ماركس هنا هو اعتباره الدين مجرد طفرة تطورية للفكر البشري ، و مرحلة الشيوعية سينتفي فيها هذا الفكر و يعود الإنسان إلى المشاعة البدائية . ربما كان محقا لأنه في آخر أيام الدنيا و الفناء سيأتي على قوم لا يعبدون الله إطلاقا ، إذ ستوفر لهم الطبيعة كل مستلزمات العيش و ستحجب عنهم فكرة التدين لانعدام التدافع الخلاق و الثنائيات الأخلاقية التي يشتغل بها الضمير ، فتضمر العقيدة استعدادا للفناء .

لا أعتقد أن الدين مجرد أفيون كما يعتبره ماركس ، بل هو المحرك الحقيقي للطبيعة الإنسانية ، فمتى غاب الدين غابت الانسانية بالمجمل ، فالإنسان ليس هو حيوان ناطق ولا حيوان اجتماعي ولا حيوان مفكر ، بل حيوان متدين بالأساس .

لكن هل للفكر الديني منزلقات و انحرافات هذا ما يمكن التسليم به ، فكل فكر يحجم الحريات المطلقة للإنسان فهو بالأساس منحرف ، لأن الله ما خلق الإنسان عبدا له إلا ليحرره من كل أصناف العبودية ، فتنائية العبد والحر متجسدة في العبودية لله و الحرية المطلقة مع الغير . وهنا جوهر حرية التفكير و حيرة الفعل اللتان تساهمان في رقي الإنسان وتطوره نحو الأفضل .

إن الاستغلال الإيدلوجي للدين هو المصيبة العظمى التي تغرق المجتمعات في التخلف ، فعندما يكون الدين مطية للنفوذ و مطية للاستغلال هنا الانحراف الذي يعصف بكل أسباب التقدم . فالدين جاء بالدعوة إلى الله بالحسنى ، و يخاطب الفطرة برفق ، و لا يستلزم التعصب أبدا ، فكل تحريف للدين جهة التعصب هو انحراف حقيقي عن التدين ، لا أعتقد أن الأديان شرعت الاعتداء على الغير يوما ، بل وضعت قواعد تنهى عن العدوان ، و ما كان الدين يوما يحاكم النوايا و لا حتى الأفعال التي لا تضر بالغير و تعتدي على حرماته .

فمثلا حتى في الزنا لا تنفد حدوده إلا على من أراد التحلل من خطئه ، أو من مارس الزنا جهارا أمام الملإ معتديا على المجتمع و ضوابطه الأخلاقية التي لا يمكن أن تسير الحياة الاجتماعية إلا بها . فما بالك أن تحاكم شخصا لأنه اعتقد أن الكرة الأرضية تدور ، فهذا انحراف في التدين لا يتحمل الدين وزره بل يتحمل تلك الخطيئة هؤلاء الذين استغلوا الدين لممارسة الظلم .

إذن هل الدين أفيون الشعوب ، بالطبع لا فهو دين حرية مطلقة لا كما يعتبره البعض ، فالدين بالأساس نظام مرن جدا ، و لو لم يكن كذلك لكان للخاصة بدل العامة ، لكن مع كل أسف هؤلاء الخاصة الذين يعتبرون أنفسهم حماة للدين هم الذين يشيعون الانحراف في التدين .

العلمانية هي حل مؤقت لتصحيح التدين ، فعندما جاءت العلمانية في الغرب جاءت لتضع حدا للانحراف الذي وقع في الفهم الديني ، وجاءت لابعادهم عن مركز القرار ، لأنهم أساؤوا للدين و أساؤوا للمجتمع ، فإذا كانت العلمانية حققت النجاح في ظل الحرية المطلقة للفرد فلأنها قريبة من جوهر الدين واعتمدت أسسه الحقيقية ، و هي مراعاة حرمة الآخر في الإطار القانوني المنظم للحياة الاجتماعية ، و إطلاق الحريات و اعتبار التدين شأنا خاصا بالفرد .

فهل العلمانية تعادل الالحاد و تعادي الدين بالطبع لا ، هذا منطق خطير يتبعه البعض ويكيل الاتهامات يمينا و يسارا ، فلو استرجعنا حتى العصر الاسلامي الأول ، لم يكن الخلفاء رجال دين بالمعنى الصرف للكلمة ، فبعضهم تاجر ذو منطلق اقتصادي والآخر قائد سياسي و رائد في القيادة وغير ذلك ، و لم تنشأ الجماعات الدينية إلا بمنطق العصبية العرقية في الاسلام ، وهذا منطق لا يحب البعض سماعه لأنه يريد لنفسه السمو الذي جاء الإسلام ليجعل السمو في التقوى التي لا يعلمها إلا الله .

فهل الدين ضد التقدم? لا ، وهل العلمانية هي الحل? ربما تكون بعضا من الحل وليست كل الحل ، فالحل إذن هو رؤية "متفتحة" و متجددة للدين كدافع لتنشيط الحياة الدنيوية أيضا ومشروع مجتمعي متكامل مستند على العلوم والإيمان بالقدرة على الفعل وتقديس العمل .