عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
4

المشاهدات
759
 
حسام عبدالباسط
من آل منابر ثقافية

حسام عبدالباسط is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
83

+التقييم
0.07

تاريخ التسجيل
Dec 2020

الاقامة

رقم العضوية
16431
06-15-2022, 12:46 AM
المشاركة 1
06-15-2022, 12:46 AM
المشاركة 1
افتراضي خروج/ قصة: إبراهيم الكوني
(1)
ما أن يهب الريح, ويشتد القبلي.. حتى يصيب الرتمة مسٌّ.. تتململ في البداية بحياء العذارى, تتمايل بارتياب.. تستقبل الأنفاس الحارة باحتراس, ثم تنتشي ويستبد بها روح الوجد..يستيقظ فيها مارد خفي.. تولول.. تنوح.. تتمرغ في تراب الوادي.. تحرث الأرض بجدائل شعرها المضفور بالزهيرات البيضاء.. تهرع نحو الرسول بظمأ البتول, تراقص الإله الخفي بشوق عذراء, وشوق عاشقة جنيّة.. يتحول النحيب الحزين إلى لحن شجيّ.. يستقيم النغم.. ينتظم اللحن في أغنية شجن فاجعة.

(2)
يزداد اللحن صفاء.. ينسجم النغم مع موال الأنفاس الجنوبية.. يتراجع النواح.. تختفي الولولة.. تتوقف الرتمة عن جنونها.. ولكن صوت الفجيعة يتمادى في اللحن ويستولي على الأغنية.. فتصيخ أشجار الوادي السمع.. تلتقط السؤال, وتعرف الحنين, وتفهم التوسل, وتدرك الرسالة المخفية في الأغنية.. غمغمت باللحن.. رددت الأغنية.. ولكن الأشجار الأخرى لم تتجاسر كالرتمة, ولم تحمّل الريح وصيتها الخفية إلى المعشوق المجهول.

(3)
مضى الريح.. وعبر القبلي.. ولكن الرتمة لم تكف عن الغناء.. ظلّت تتمايل في إعياء.. تجرّ على التراب الرامض ضفائر منمنمة بضفيرات صغيرة, نقيّة, مثل حبات الندى.. تسدل الضفائر على قدّها النبيل.... و.... تغني.. تختطف اللحن من فم السكوت كما اختطفت رسالة المعشوق من فم الريح, وتنسج من الأصوات العصية.. نشيدًا شجنيًا شجيًّا.. ولكن الريح ذهبت, ولم تجد رسولاً يطير برسالتها إلى المعشوق.

(4)
غنّتْ طويلاً.. وبكت طويلاً.. وفي يوم رأت أن تجرب وترفع رأسها إلى أعلى.. لملمت جدائلها المطرّزة بالزهور فرأت الجبل لأول مرة.. كان عالياً ومكابرًا وقريبًا من السماء.. أعجبتها قمته الماردة, ورأته بهيًا وقريبًا من السماء.. فلماذا لا تكتشف سره, وترى ما يراه الجبل المارد؟.. خالفت شجرة الرتم ناموس الصحراء, وتمردت على الحضيض.. زحفت وخرجت من الوادي, تسلقت السفح الموجع.. اعترضتها حجارة لها مخالب الوحوش, ولكنها عاندت.. تخلت عنها الأرض وحرمتها النداوة, ولكنها قاومت الظمأ, وصبرت على غول العطش.. عصف بها القبلي فغنّتْ له أغنية الفجيعة.. تراجع القبلي عن محاربتها وسبقها إلى شعفة الجبل.. أعجبه عنادها فرتّب لها على الشعفة فراشًا ناعمًا منسوجًا من حبات الرمل.. تشبّهت بالطلح.. انفصلت عن حضيض الأسافل.. ورفعت رأسها, رفعت رأسها ونصبت قدّها الخجول إلى أعلى.. تمددت في الفضاء.. تمددت وتمدّدت حتى غابت في فراغ السماء.. أدركت السر.. عرفت لماذا يبدو الجبل مهيباً, ومكابراً, وبهياً..
عزفت بجدائل شعرها لحناً, وغنَّتْ أغنيتها القديمة.. اشتدّت زرقة السماء.. وارتفع الجبل قامة أخرى.. مضت تغني, مضى الجبل يرتفع مع استمرار الأغنية..
وكلما ارتفع الجبل كلما ازدادت السماء زرقةً وبهاءً واتساعًا.

(5)
عبر العابرون.. نشطت القوافل.. جاء الزّهاد والعُبّاد والباحثون عن الواحة الضائعة.. استقروا في الوديان.. رفعوا رؤوسًا إلى السماء ليتوسلوا الإلهام.. رأوا على شفعة الجبل شجرة رتم وحيدة مثل الجبل.. صعدوا الجبل ليستظلوا بظلّها, تحسّسوا قوامها المدود, قطفوا زهورها وصنعوا منها بخوراً.. تمسحوا بجدائلها وبكوا طويلاً..
صارت الشجرة الوحيدة المعتزلة المتشبثة بهامة الجبل العاري, علامة تهتدي بها القوافل, وحرمًا تُنحر له القبائل القرابين, ووليًا تنذر له النذور.