الموضوع: أدب السجون
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-28-2010, 10:11 PM
المشاركة 9
عبير جلال الدين
كاتبـة مصـرية
  • غير موجود
افتراضي
الدرس الثالث
هو تحليل نفسيات الجلادين الكبار والصغار ، الصغار منهم يتنافسون في الإيذاء الجسدي والنفسي ويتفنون في إرضاء الكبار ، ومن خلال رسم صورهم الجسدية وبذاءة لسانهم وقساوة نفوسهم وخلوهم من أي إحساس إنساني ، فهم وحوش في لبوس بشر أو عبيد ،
وأما الكبار فيتفنون في حبك الاستدراج من خلال حبائل الترغيب والترهيب من جهة ، ومن خلال الافتراء أو الإيقاع بين المعتقلين من جهة ثانية .
ومن قاع المأساة ، من صلب القساوة والوحشية والبذاءة والاستعباد تشرق نفوس إنسانية تعيد الثقة بأن الإنسان ليس وحشاَ محضاً ، بل هو من مادة وروح ، يظهر ذلك حتى في بعض الجلادين ،
مثل الرقيب طاهر( بدءاً من الصفحات 104 ) ، الذي تعاطف مع المعتقلين ، فأخذ يسهل لهم الانتفاع من دورات المياه ، ومن التواصل فيما بينهم ، ومن إحضار بعض الكتب والأوراق والأقلام والأخبار والرسائل ، وكل ذلك ممنوع ، يعرّض صاحبه للمهالك ، فكيف إذا بلغ به الأمر أن يتواطأ مع المعتقلين على ترتيب عملية هرب جماعية من السجن ، ثم تأمين مخابيء لهم خارج السجن ؟ وقد حصل ذلك في الرواية ( ص109) وفي الواقع على حدّ سواء .
أما الأطرف من ذلك فهو انقسام المعتقلين في البداية حول (نظافة ) الرقيب طاهر ، أي هناك من يشك بتصرفاته على احتمال أن يكون جاسوساً عليهم ، يستدرجهم للإيقاع بهم ، أو إنساناً موثوقاً يتعاطف معهم ، وهذه واقعة مألوفة في صناعة القمع ، وفي تحطيم الثقة بين البشر المعتقلين لدرجة الشك ، فيمن يتعاطف معهم أو يريد تقديم خدمة لهم .
فما أعظم جريمة القمع وسجون الرأي بحق الإنسان والبشرية جمعاء ، وهي جريمة ترتكب في السجن الصغير، كما ترتكب في الوطن كله حين يصبح سجناً كبيراً ، وقد صارت سورية للأسف كذلك ، فما من إنسان سوري أو أسرة سورية أو حزب سوري إلا انشق على نفسه طولاً أوعرضاً أو الاثنين معاً ، وكم يلزم من الجهود والأزمان للإصلاح الحقيقي ؟!
ومقابل شخصيات الجلادين تظهر شخصيات المعتقلين صغاراً وكباراً في الأعمار والمدارك والنفوس ، أفراداً وجماعات ، لم يظهر فيهم جاسوس واحد ، لكن سقط عدد منهم في الاعتراف على أنفسهم أو على إخوانهم من شدة التعذيب ، ومنهم محمود النعيمي (أي المؤلف نفسه )،
وكان ذلك عبئاً آخر من آلام السجن أن يضطر السجين إلى أن يخون أخاه أو صديقه أو جاره أو زميله ، وأن يسلمه مضطراً لكابل الحديد ، والصعق الكهربائي ، والانحشار في الدولاب للضرب على الأرجل أو على القفا بالعصي ، أو حمل الدولاب ساعات طوالاً ، أو لإطفاء السكاير في المواضع الحساسة من الجسم ولا سيما الأعضاء التناسلية ، أو ما شابه مما يعف القلم عن ذكره .
وهذا غير السباب والشتائم من العيار الثقيل ، وغير الهواء المتعفن وضيق النفس ، والتناوب على شم الهواء من ثقب في أسفل الباب من قبو محروم من النوافذ والتهوية ، لدرجة التعرض للإغماء. ولقد تمنى محمود النعيمي الموت أكثر من مرة للخلاص من هذا الجحيم الذي لا يُطاق ، وتوسل للمحققين أن يريحوه بالموت فرفضوا ذلك (ص32و 35و 40 و43و ) ،
لأن الغرض إيقاد الألم ، وتفريغ الحقد ، وليس راحة الإنسان .
كانت المعادلة ( عدوّ مع عدو) لا (محقق مع متهم ) ، فتصور الثمار التي أنتجتها هذه الصناعة /العلاقة
يقول : ( لقد انتهى كل شيء .. لقد اعترفت ، انتهيت .. سيأتون بإخوانك إلى هنا ، يقاسون العذاب والمرارة مثلما قاسيت أنت ... أصحابك الذين يظنون بك خيراً ، يحسبون أنك لن تعترف .. وأنت في نظرهم شيء كبير ،
وأنت الآن شيء تافه .. لاشيء .... لكن ماذا أصنع ؟ لكل شيء حدود ، ولكل إنسان طاقة .. حتى الفولاذ ينكسر ويذوب ، كان الموت أسهل عليَّ . ولكن الموت لم يأتِ ، والرحمة كلمة لا وجود لها هنا ، وقد صبرت كما لم يصبر إنسان ، وقد أخَّرت اعترافاتي سبعة أيام ، وعلى أصحابي أن يدبروا أمورهم .. أن يهربوا .. أو يختفوا ، أو يغادروا البلد ...و ليس من المعقول أن أذوب قطعة قطعة وهم يجلسون بلا حركة ... ولكنهم يظنون بأني أموت ولا أعترف ) ( ص45) .
إن طبيعة التحقيق (جلاد .. معتقل ) تقتضي وفرة في الحوار وتنوعاً بشكل مسّوغ ، والعزلة أو الانقطاع عن الآخرين تؤدي إلى النجوى أو (المنولوج) ، وذلك كله يعين على تحليل نفوس الشخصيات الظالمة والمظلومة على حد سواء ، وعلى الأخص الشخصية الأولى ( ص 22 و25 و29و 31 و 37 و38 و 41 و 42 و 45 ).

،،