عرض مشاركة واحدة
قديم 08-14-2010, 09:20 PM
المشاركة 14
أحمد صالح
ابن منابر الـبــار

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي تابع
نفذ إلى المكتب، من خلال النافذة، أنين الحيوانات المخصية مختلطا بصرخات دون ساباس. 'إذا لم يأت خلال عشر دقائق فسوف اذهب'، هكذا عاهد الكولونيل نفسه بعد أن أمضي ساعتين في الانتظار، ولكنه انتظر عشرين دقيقة أخرى. وكان يتهيأ للخروج عندما دخل دون ساباس إلى المكتب تتبعه مجموعة من العمال المساعدين. مر دون ساباس عدة مرات أمام الكولونيل دون أن يلتفت إليه. وانتبه لوجوده عندما خرج العمال فقط.
ـ هل تنتظرني أيها الصديق؟
قال الكولونيل:
ـ أجل يا صديقي. ولكن إذا كنت مشغولا فسأعود فيما بعد.
لم يسمعه دون ساباس لأنه أصبح في الناحية الأخرى من الباب ولكنه قال له وهو يخرج:
ـ سأعود حالا.
كانت ظهيرة متقدة. والمكتب يلتهب بالحر المنعكس إليه من الشارع. أغمض الكولونيل، الذي خدره الحر، عينيه رغم أرادته. وفي الحال بدأ يحلم بزوجته.
دخلت زوجة دون ساباس على رؤوس أصابعها وقالت له:
ـ لا تستيقظ أيها الصديق، سأغلق الأباجور فقط، لأن المكتب صار جهنما.
لاحقها الكولونيل بنظرة غائبة عن الوعي تماما. قالت وهي في الظل بعد أن أغلقت الأباجور:
ـ هل تحلم كثيرا في نومك؟
شعر الكولونيل بالخجل لأنه نام، وأجابها :
ـ أحيانا وأري نفسي في جميع أحلامي تقريبا وأنا أتخبط في شبكة عنكبوت.
قالت المرأة:
ـ أنا أعاني من الكوابيس كل ليلة. ولكني بدأت أعرف الآن من هم هؤلاء الناس المجهولون الذين يظهرون لنا في الأحلام.
أدارت المروحة الكهربائية، وقالت: 'في الأسبوع الماضي ظهرت لي في الحلم امرأة وقفت على رأس سريري. وقد وجدت الشجاعة لأسألها من تكون، فأجابتني قائلة: أنا المرأة التي ماتت في هذه الغرفة منذ اثنتي عشرة سنة'.
فقال الكولونيل:
ـ ولكن لم تكد تمضي سنتان بعد على بناء هذا البيت.
ـ نعم. وهذا يعني أن الأموات يخطئون أيضا.
جعل أزيز المروحة الكهربائية البرودة أكثر رسوخا. وشعر الكولونيل بفقدان الصبر والاضطراب بسبب النعاس الذي غلبه وبسبب هذه المرأة البدينة التي انتقلت فورا من الحديث عن الأحلام إلى تجسد الموتى وعودتهم ثانية إلى الحياة. وكان ينتظر فرصة تتوقف فيها عن الحديث لينصرف عندما دخل ساباس إلى المكتب مع رئيس عماله. فقالت له المرأة:
ـ لقد سخنت لك الحساء أربع مرات حتى الآن.
قال دون ساباس:
ـ سخنيه عشر مرات إذا شئت. ولكن لا تثيري أعصابي وتجعليني أفقد صبري الآن.
فتح صندوق السيولة النقدية وسلم لرئيس عماله رزمة من الأوراق المالية ومعها قائمة تعليمات. فتح رئيس العمال الأباجورات ليعد النقود. لمح دون ساباس بالكولونيل في طرف المكتب ولكنه لم يبد أي تأثر، بل تابع حديثه مع رئيس عماله. نهض الكولونيل في اللحظة التي كان الرجلان يستعدان بها لمغادرة المكتب من جديد. فتوقف دون ساباس قبل أن يفتح الباب، وقال:
ـ ماذا أستطيع أن أقدم لك أيها الصديق؟
انتبه الكولونيل إلى رئيس العمال ينظر إليه، فقال:
ـ لا شيء يا صديقي، كنت أود التحدث إليك. فقال دون ساباس:
ـ مهما كان الأمر، يمكنك قوله الآن حالا. لأني لا أستطيع إضاعة دقيقة واحدة.
وظل واقفا ويده ممسكة بقبضة الباب الكروية. شعر الكولونيل بانقضاء أطول خمس ثوان في حياته، فضغط على أسنانه ودمدم:
ـ إن الأمر يتعلق بمسألة الديك.
عندها كان دون ساباس قد انتهي من فتح الباب. 'مسألة الديك'، كرر مبتسما، وقاد رئيس عماله نحو الممر 'إن العالم يهوي بينما صديقي مشغول بهذا الديك'. ثم قال موجها حديثه إلى الكولونيل:
ـ حسنا جدا أيها الصديق، سأعود حالا.
وقف الكولونيل وسط المكتب بلا حراك حتى تلاشي وقع خطوات الرجلين في آخر الممر. وخرج بعد ذلك ليسير في شوارع القرية المشلولة في قيلولة الأحد. لم يجد أحدا في دكان الخياط. وعيادة الطبيب كانت مغلقة. ولم يكن هناك من يحرس البضائع المعروضة في متاجر السوريين. كان النهر كصفحة من الرصاص. وثمة رجل نائم على أربعة براميل بترول في الميناء، يقي وجهه من الشمس بقبعة. اتجه الكولونيل إلى بيته متيقنا بأنه المكان الوحيد الحيوي في القرية. كانت زوجته تنتظره وقد أعدت وجبة غداء كاملة.
قالت مفسرة:
ـ لقد استدنت ووعدت أن أدفع غدا صباحا.
خلال تناول الغداء روي لها الكولونيل أحداث الساعات الثلاث الأخيرة. واستمعت إليه جزعة، ثم قالت عندما انتهي:
ـ كل ما في الأمر انك لا تملك شخصية قوية. فأنت تذهب وكأنك ذاهب لطلب صدقة بينما يجب عليك أن تدخل مرفوع الرأس وتنادي صديقك جانبا وتقول له: 'أيها الصديق، لقد قررت أن أبيعك الديك'.
فقال الكولونيل:
ـ هكذا هي الحياة، أنها نفحة.
كانت تسيطر عليها حالة من الحماس. فقد رتبت البيت صباح هذا اليوم وارتدت ملابسها بطريقة غير مألوفة، إذ لبست حذاء زوجها القديم، ومريلة من المشمع، وربطت على رأسها مزقة من القماش معقودة بعقدتين عند الأذنين. قالت له: 'ليس لديك أدني حس تجاري. فمن يذهب ليبيع شيئا ما يجب أن يتخذ نفس هيئة من يذهب ليشتري'.
لاحظ الكولونيل بعض الطرافة في شكلها. فقاطعها ضاحكا:
ـ ابق هكذا كما أنت الآن، لأن تشبهين الرجل القصير بائع الجلبان.
نزعت مزقة القماش عن رأسها، وقالت:
ـ إني أكلمك بجدية.. سآخذ الديك حالا إلى صديقنا وأراهنك على ما تشاء بأني سأعود خلال نصف ساعة ومعي تسعمائة بيزو.
قال لها الكولونيل:
ـ لقد أدارت الأرقام رأسك. وها قد بدأت تلعبين بثمن الديك.

ما أعظم أن تكون غائبًا حاضر ... على أن تكون حاضرًا غائب