عرض مشاركة واحدة
قديم 04-02-2011, 08:47 PM
المشاركة 4
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي






تجربتها الشعرية في سياق تطورها



تفتحت تجربة ريتش في تربة الحداثة، ولم يكن الشأن النسوي ليطغى على نتاجها في بداياتها، حيث استهلت مسيرتها الإبداعية كشاعرة تقليدية متأثرة بكل من ييتس وويتمان وفروست وأودن، ومن الأخيرين ورثت الشكلانية الحرفية، والعلاج التحليلي لا العاطفي للمادة، وشعوراً إستسلامياً تجاه الحياة في كونها شيئاً زائلاً. وفي هذه المرحلة يطالعنا شعر محافظ، مهذّب وغارق في تقليديته، حيث المرأة زوجة مخلصة، قانعة، خاضعة، في عالم محكوم بالرجال.

إنّه شعر يُظهر عوارض معينة دون أن يكون قادراً على سبرأسبابها. شعر خالٍ من أية محاولة لتفنيد أفكار السلف أو مناقشتها. ولكن في ما بعد شهدت أعمالها وحياتها تطوراً ملفتاً راديكالياً أثّر في طبيعة شخصيتها، حيث تحولت من أرملة شابة وشاعرة غير مأخوذة بالبلاغة والشكل، إلى كائن روحاني يمتثل للشفاء ويحتفي باللغة والأسلوب، ومن ثم إلى زعيمة ناشطة في الحركة النسوية، وإلى عميدة لفئة جديدة من الأدب النسوي.

لقد تحولت إلى شاعرة ذات رؤى مليئة بالغضب وغير قابلة لأن تشعر بالإنتماء إلى عالم تقول فيه بأنه: "لا يمنحنا الفسحة كي نكون فيه ما حلمنا بأن نكونه".


وكان الشاعر الأميركي أودن قد كتب مقدمة لمجموعتها الأولى "تغيير للعالم" ومما قاله فيها: "قصائد ريتش هي قصائد مشغولة بإتقان وبساطة متناهية، تتكلم بهدوء ولكن من دون أن تغمغم، وتجلّ الشعراء الكبار ولكن من دون أن تهابهم، وهي لاتنطق بالأكاذيب". وهذا ما يؤكد على أن ريتش في بداياتها لم تكن سوى شاعرة وديعة مسالمة، لا علاقة لها بالقضايا النسوية أو السياسية التي وسمت أشعارها في ما بعد. وفي حين أن أودن لم يفطن في حينه إلى الدور الريادي الذي ستضطلع به ريتش لاحقاً في إعادة قولبة مفاهيم الحداثة الشعرية، إلا أن مسألتين كان أثارهما في تلك المقدمة ظلتا تشكلان هاجساً أساسياً لدى النقاد على مدى تجربة ريتش الشعرية:


- الأولى: تتجسد في مدى نجاح ريتش في الإنفصال عن ذاتيتها وعاطفيتها اللتين من دونهما يبدو الإبداع مستحيلاً.


- والثانية: هي مكانة ريتش في العالم الشعري خصوصاً في ضوء تحولها اللافت من مُساهمة متواضعة، معتدلة، في ميدان الحداثة إلى ناقدة راديكالية، خصوصاً لصفتيْ الأنانية والجنسانية اللتين تحفل بهما نتاجات الحداثة.



والمعروف أن التحول الجذري الذي طرأ على كتاباتها جاء مع صدور مجموعتها الشعرية الثالثة "لقطات فوتوغرافية لكنّة" 1963 حيث بدأت تتخذ تجربتها ملامحها الخاصة وتعنى بقضايا المرأة والمساواة مع الرجل. كذلك فإن هذا التحول قد طاول شكل القصيدة لديها ولغتها وأسلوبها لتخرج عن كونها مقاطع شعرية متساوية الطول إلى مقاطع حرة خارجة عن أي نسق ولا تعتمد القافية بالضرورة، ثم أن لغتها باتت أكثر قوة واندفاعاً، وأسلوبها أكثر مباشرة.



وبغية مواكبة مسيرة ريتش الإبداعية والإحاطة بالتغيرات التي طرأت على نتاجها في سياق تطورها ونضجها الفني والإنساني، نلقي هنا نظرة بانورامية على الملامح الرئيسية التيميّزت مجموعاتها الشعرية كلاً على حدة ووفق تسلسلها الزمني:



تغيير للعالم - 1951


باكورة ريتش الشعرية الأولى، وقد قامت على موضوعتين رئيسيتين ستظلان شغلها الشاغل على مدى حياتها الإبداعية:


- الأولى: الإنتصارات الباهظة الثمن التي حققها الإنسان في معركته مع الزمن.

- والثانية: ورطتها في أن تكون امرأة.

العديد من قصائد هذه المجموعة تصف القدرة على الصبر والتكيف والتفاني التي على المرأة التحلي بها كيما تستقيم علاقتها بالرجل؛ هذا الكائن الميّال بطبيعته الأصلية نحو البعد والإنفصال.





قاطعو الماس وقصائد أخرى- 1955



في هذا الديوان تعاود ريتش مجدداً اجترار فكرة كيف أن الصبر والإستسلام والإنعزال هم قدر المرأة. وتكتب في إحدى القصائد "وجب علينا تقبل العالم كما مُنح لنا" لأننا كما تقول في قصيدة أخرى "نحيا في بيوت أناس آخرين".





لقطات فوتوغرافية لكنّة – 1963



هي المجموعة التي اخترقت بها ريتش مألوف عالمها الشعري السابق لغةً ومضموناً. ونقع فيها على معالجة لقضية المرأة بصورة أسطورية، تاريخية وأدبية. وتصرّ ريتش على أن الدور التقليدي الذي تضطلع به الزوجة الصالحة وربّة المنزل هو أشبه بمهام التحضير إلى جنازة، وتؤكد على أن اعتماد المرأة على الرجل في معيشتها، وانعزالها عن النساء الأخريات يقودانها إلى نوع من كراهية الذات، ما يضعها أمام أحد خيارين إما الإصابة بالإكتئاب أو الإنتحار.


وفي هذه المجموعة تتجرأ ريتش على تحدي لغة الماضي معتبرة أن ثقافة الماضي هي بمثابة الوحش الذي يفترس المرأة، فهي ما إن تتشربها حتى تضحي عدوة نفسها. بعد هذه المجموعة ما من شيء سيكبح جماح ريتش وعنفوانها. الشعور بأن ثمة خطأ يصعب تفسيره سيتحول إلى صرخات هادرة تعلن أن البيت يحترق وأن ذهن الشاعرة من لهب.




ضروريات الحياة – 1966


هذه المجموعة تتمحور حول بعض التجارب الإيروتيكية التي تبحث الشاعرة من خلالها عن علاقة منسجمة ومريحة بين جسدها وجسد امرأة أخرى تمنحها شعوراً بالأمان الضائع. إضافة إلى أنها تعالج مسألة ضرورة انسحاب الذات وانعزالها من أجل إعادة ترميمها وتأهليها وتكتب ريتش: "لقد استغليت نفسي، ولم أسمح لشيء باستغلالي".




(الوريقات – 1969) و(إرادة التغيير- 1971)



في هاتين المجموعتين توسع ريتش أرض معاركها، ويتزايد إحساسها زخماً تجاه مشاكل مجتمعها الكبرى، ونجدها لا تكتفي بمهاجمة الحرب الفيتنامية وحسب، بل العصبيات المتمثلة بالطبقة والعرق والجنس، متحمسة لمبدأ التفعيل إزاء التنظير، والتجديد إزاء التقليد. كأنما هي غير قادرة على تقبل حياة خاصة أو عامة غير مسكونة بهاجس تغيير الذات والآخر والعالم.

وتقول الشاعرة: "الملاحظات على القصيدة هي وحدها القصيدة" أيضاً "لحظة التغيير هي القصيدة الوحيدة". ولكن يبدو لريتش أن لا شيء يمكن تغييره دون اللجوء إلى العنف، ومن هنا نرى إلى سبب تصاعد وتيرة حماسها لقضايا عديدة في مجتمعها، على رأسها قضية المرأة التي قادتها حدّ التطرف في مواقفها من الرجل. ونلاحظ أن نصوص مجموعة "وريقات" حافلة بالرفض حيث يظهر فيها غضبها السياسي على أشده ونجدها تنادي بأخوية المرأة للمرأة وبضرورة خلق سياسة ولغة جديدتين.


وتتعاطى ريتش في مجموعة "إرادة التغيير" مع مشكلة التصدي لقهر الرجل بلغته ذاتها. وتقول إنه من الضروري العودة إلى المشاعر في سياق ربط الشعر بالجنس بالسياسة. وتسأل في إحدى قصائدها "متى سنستلقي صافيات الأذهان في أجسادنا مجدداً، حيث أن كل شعور يخترق الجسد هو سياسي" وتعلّق في موضعٍ آخر "لقد وصلنا إلى مرحلة من التاريخ بات معها الرجال يشكلون خطراً على الأطفال والكائنات الحية الأخرى بما فيها أنفسهم". وعليه فإن ريتش منحت نفسها كلية إلى نوع من المعركة الجنسية - السياسية مع الرجل.






هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)