الموضوع: العائد
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
6

المشاهدات
1361
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
01-26-2021, 12:27 AM
المشاركة 1
01-26-2021, 12:27 AM
المشاركة 1
افتراضي العائد
العائد*

بعد سنوات من الغياب، ها هو ذا في وطنه. تستظيفه صديقة قديمة، سيدة ليست كالأخريات، قبل رحيله ائتمنها على ممتلاكته. هناك قال كل شيء، وطافت رسائله المدائن، هناك أتيحت له الفرصة ليترجم كل ما فكر فيه هنا، هناك كان لسانه حرا طليقا محلقا عبر فضاءات ما خطته أقلامه أيام الشباب وهو مغمور بظلال الربى وأخاديد الوديان وشعاب الجبل.

*كان مضطرا للسفر عساه ينشر تلك المخطوطات، أمضى هناك أعواما منتظرا أن تهدأ جلبة كلماته وتعتاد الآذان سماعها فلا يحس غربة في وطنه كالتي سبقتها. ناضل وحاضر حتى وضحت نظرته وتجلت مكنوناتها وغدا كلامه سيلا جارفا يكتسح المجالس والمدارس، مرسخا قدمه على بساط الشهرة.*

ابنته تريد زيارة قبر أمها، كثيرة هي المرات التي حاول فيها أن يفتح هذا الموضوع معها خاصة أنها تقترب من الرشد. كانت تبدي لامبالاة غريبة، لكنها في الأيام الأخيرة وقد استكملت السابعة عشر من عمرها، بدأت تتحدث عن أمها، تريد أن تعرف هذه المجهولة التي آثرت الرحيل بعد حولين من مولدها. تحاول صفية أن تتذكر شيئا عن هاتين السنتين الغارقتين في القدم لكن دون جدوى. الآن جاءت الفرصة لربط البنت بجذورها، طوال الرحلة تغرق البنت أباها بالأسئلة، تريد أن تعرف كل شيء دفعة واحدة، تفتحت شهيتها أخيرا، كلما ظن الأب أنها ستكتفي ردت عليه هل من مزيد. جوع معرفي عز نظيره، في إجاباته يشذب الأب الحقيقة تشذيبا علها تكون مستساغة. فهو يعلم حق المعرفة أن عود الصبية طري لا يحتمل ثقل اليقين، فأمها لم تتحمل خيبة فشل إدارة حياتها بعد إصرارها على الطلاق قبل أن ترى صفية النور.*

كان الأب بلا حراك، يشاهد طفلته مأخوذة بصمت المقبرة حيث اختارت الأم ملجأها الأبدي، قطرات تسيل على وجنتيها بنعومة ربيعة. ساعتها يفكر الأب في الحية أكثر من الميتة، يفك شفرات الصمت من خلال ما تلتقطه عيناه من مشاهد، هذه الرسائل الرابطة بين الحياة والموت، هذا الحوار الصامت الرابط بين الحاضر والغائب، هنا لا يستطيع الكلام أن يعبر ولا الفعل أن يؤثر.الروح في حاجة دائمة لهذا الوقت المستقطع لطرح السؤال. سؤال بلا جواب. لكن بطرحه تكون قد أجابت هكذا الحياة، أو بالأحرى هكذا الوجود.

السيدة تجد دائما من الحلول ما يثلج الصدور، ألق الطفلة يعود رويدا رويدا، بل قفزت على أحزانها وتجاوزت ألفاظ خالتها الشديدة حيث قالت: "اذهبي مع أبيك فأنت لست إلا ذكرى مؤلمة، وهذا نفسه كلام أمي يوم ماتت أختي." كانت شفقتها على خالتها أعظم من أن تترك بذرة حقد في قلبها. السيدة لم تترك الفرصة تتسرب من بين أصابعها فنظمت لقاء بين العائد وشباب جمعيتها. كانت القاعة مكتظة وعلى الشرفة مكتب خلفه كرسي شاغر، الصمت يخيم على المكان لكأن الحاضرين ما جاؤوا إلا لإحصاء أنفاسهم.

"الضيف المفاجأة سيمثل أمامكم اللحظة أيها السادة والسيدات"

هكذا قالت المقدمة وعاد الصمت ليحتفل بمجده بعد توقف خطوات المنشطة وانضمامها للحاضرين. ظهر العائد من البوابة الجانبية للشرفة، جلس مستكشفا الحضور من خلف نظارتيه اللتين تترجمان بصدق الدهشة والإعجاب الآتيين من عيون أيقظ الفضول طراوتها، استجمع أنفاسه قائلا:

أشكر الصدفة الجميلة التي قادتني إلى هذه الصالة، لأراكم وأعيش معكم لحظة ميلاد هذا اللقاء. عادة في مثل هذا الوقت من كل عام أخصصه للراحة والاستجمام، لكن ابنتي قطعت هذا التقليد، إذ فاجأتني برغبتها في زيارة قبر والدتها، يا له من طلب صغيرتي! بدل العيش وارتشاف عذوبة الحياة، أجدني أعيش الماضي! أو على الأقل لحظة مؤلمة فيه، لكن ما أعظم حظي بمعرفة السيدة.

أصدقائي*

هذا الحظ وتلك الصدفة لهما كامل السلطة لاقتيادي إلى هذا المكان، لأرى كل هذه العيون العطشى والنفوس الطيبة، هذا الزواج المبارك بين هذه الصدفة المليحة العاشقة والحظ *الفحل المتين أنجبا هذه اللحظة السعيدة، هذا اللقاء الوديع، قطعت كل تلك المسافات لأصل إليكم، تصوروا إنسانا دار دورة حول العالم ليصل إلى البيت المجاور لبيته، من المؤسف هدر كل ذلك الزمان، لكنه قدري أن أختار الأذن القصية بدل القريبة. رغم ذلك *لست نادما على شيء، لأن المسار في ذاته أجمل من الرسائل.

أصدقائي*

أنتم معي الآن لتسمعوا اللغة، ربما نال استحسانكم زواج الصدفة والحظ حتى أنني تخيلت الصدفة تجر فستانها الأبيض والبسمة تشرق من شفتيها الورديتين ويدها المزينة بالحناء في يد الحظ المتطوس في جلبابه الأبيض.كدت أصدق مثلكم هذه القصة. هي عوالم اللغة تفعل ماتريد، لكن لكي تستطيع القول شارك في لعبة الحياة والوجود وإلا ستظل تجتر خبرات الغير دون أن تعرفها على حقيقتها.*

أصدقائي من الجميل أن تحب نفسك كما هي وتسعى لها في السكينة لكن لا يفوتك أن تربط صداقة معها لنستنشق عبير الوجود في الفضاء الشاسع.

شكرا لكم.