الموضوع: مفقود
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
12

المشاهدات
4669
 
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي


ريم بدر الدين is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
4,267

+التقييم
0.68

تاريخ التسجيل
Jan 2007

الاقامة

رقم العضوية
2765
02-20-2015, 10:34 PM
المشاركة 1
02-20-2015, 10:34 PM
المشاركة 1
افتراضي مفقود
مفقود

ريم بدر الدين بزال
دمشق 2014


ما بين الزقاق الذي يقع على ضفة ناظري و الزقاق الذي لا أراه اختفى
كأنما ابتلعه هذا الفراغ المفضي للجحيم ..
منذ سنتين و أنا أكنس هذا الزقاق كل صباح و أعيد الكرة كل مساء جيئة و ذهابا بحثا عنه، لكنني لا أجده ..
ذلك اليوم الأخير وقبل أن يعبر ذلك الفضاء الرهيب كانت المكالمة الأخيرة التي تدفق فيها صوته : سأعود بعد ربع ساعة .. جهزي المائدة و أخبري سلمى أنني أحضرت لها قالبا كبيرا من الشوكولاته
لم أخبر سلمى و بقيت على الشرفة ساعات طوال أنتظر خروجه من ذلك المكان ..
قبل أن أتفحص المكان اعتقدت أنه بحر متلاطم عميق يحتاج عبوره وقتا و لكنن عندما عاينته بنفسي عرفت أنه مثل ( الميل الأخضر) في فيلم توم هانكس .. عبارة عن ردهة لكنها تلك الفاصلة بين الموت و الحياة .. برزخ العبور ما بين الموت و الحياة .. الفقد و الظهور
جدران الزقاق مصمتة لا أبواب فيها لكنها مملوءة بشعارات تتناول الاشخاص و الاشياء و حتى أرواح الراحلين ..من أين انفتحت البوابات التي ابتلعته فلم يعد له مكان في هذا العالم .. لم يعد له صوت أو اسم؟ هل هناك بوابات سرية كما في الدهاليز الخفية للأهرامات؟

سلمى تسأل كل يوم عن شوكولاته يحضرها والدها و أنا أيضا أنتظر أن يدخل من الباب حاملا كيسا من الشوكولاته بعدد أيام الغياب التي قاربت ثمانمئة يوم.
أنهى نهار عمله الشاق و عبر نصف المدينة و لكنه في ذلك الزقاق تبخر.
قال لي الجيران أن في نهاية الشارع القريب توجد مقبرة جماعية لكل من فتكوا بهم . مقبرة مفتوحة للضوء و الشمس و الريح و الكلاب
و يقولون أن الكلاب بعد أن تذوقت طعم اللحم البشري لم يعد يعجبها لحم آخر .. هذا الذي كان صديقنا التاريخي أصبحنا في جوفه طعاما ..أصبحت الكلاب أكلة لحوم البشر مثل قبائل الماساي في أفريقيا و لكنها الكلاب لا تصاب بمرض الضحك بعد إدمانها لحوم الأبرياء .. الكلاب تصاب بالسعار .. أيعقل أنه أضحى طعاما في جوف الكلب الذي رباه و الذي هرب بعد غيابه بفترة قصيرة ؟
حاولت أن أزور تلك المقبرة القريبة البعيدة و لكنني لم أستطع إكمال الطريق فقد هاجمتني كلاب كبيرة و رائحة نتنة .. و استولت على رأسي فكرة تهزأ بي: كيف ستتعرفين إليه بين كل هذه الجثث المنتفخة العفنة المنزوعة العيون و المنهوشة من كل أطرافها ؟
يقال أن الجرذان المتوحشة تهاجم العينين أولا ثم تنتقل الى أجزاء الجسم .
طرقت أبواب العرافات و في داخلي من يهزأ مني و يقول : أعرافات تسألين؟
نعم، سأسال العرافة .. لعل هناك قوى خفية كما يقولون .. لعل الجني يستطيع أن يخبرني
وضعتْ كومة من الرمل على أرض الغرفة الكهف .. نثرتْ فوقه شيئا ما .. حركته بعصاها و هي تتمتم و ترتجف و تتعرق ..
قالت لي بصوت عميق كأنه آت من مذياع قديم : موجود و غير موجود.. يتألم نعم إنه يتألم .. يبكي بصمت .. لا أستطيع أن أخبرك بشيء آخر .
بكت العرافة و رفضت أن تتقاضى شيئا من أتعابها.
عانقتني عندما أردت السير نحو الباب .
حاول الكثيرون أن يستثمروا انتظاري و كانوا كثيرا ما يطرقون الباب ليقولوا لدينا خبر عنه .. أتلهف لأعرف فيطلبون مبلغا ماليا ضخما .. بعت كل ما أملك من ذهب و أرض ورثتها عن والدي لكن اتضح لي أنهم يعتاشون على المتألمين مثلي من الذي فقدوا أحبائهم في ذلك الزقاق .
عدت للبيت ذات مرة بعد جولة بحثية مضنية لتركض نحوي سلمى و هي تقول : بابا هنا ..
قفز قلبي من مكانه لكنها أخرجت لي دمية قماشية صنعتها لها والدتي و قد رسمت على وجهها بالقهوة شاربا.
ابتسمت و قدمت التحية للدمية القماشية ..
-سيأتي بابا قريبا و معه شوكولاته
- لست طفلة لأنتظر الشوكولاته.. بابا أتى و انتهى الأمر
كانت سلمى أكثر وعيا و إدراكا مني .. لن تمضي عمرها في الانتظار
ماذا أسميه؟ مخطوف؟ لا أعتقد تنطبق عليه فلم يتصل أحد بنا لينال الفدية حتى لو أعادوه لي جثة هامدة .. المهم أن يكون له مساحة في هذا العالم ولو كانت تحت التراب .. لم يتصل أحد على كل حال
(مفقود) هذا ما يناسبه تماما .. و لا أعتقد أن هناك كلمة أكثر إيلاما منها .. مفقود لا هواء له و لا ماء و لا مساحة في هذا العالم .. لم يعد جرما موجودا على الارض و إنما أثير يعيش في ذاكرتي الى الأبد
وطنت نفسي على قبول الفقد و أنا أتخيله يقول كما بطل الميل الاخضر ( أعبر الزقاق الاخير)
مع الفارق أن الممثل عبر الميل الاخضر نحو كرسي كهربائي معد لإنهاء حياته ..
و هو لم يعبر الزقاق الأخير بقي معلقا في مكان ما منه بين الوجود و اللاوجود
جمعت ملابسه و هداياه و أقمت لها محرقة صغيرة إلى أن اصبحت رمادا داكنا وضعتها في قارورة زجاجية ربطت حول عنقها شريطا بلون السماء -هذا اللون الذي يحبه - و كتبت عليه : هنا مزار الموجود و اللاموجود ..عبر زقاقا مجهولا.. لسبب مجهول ..و اختفى بشكل مجهول .





قرأتها للمرة الأولى في أصبوحة اتحاد الكتاب العرب بدمشق كانون الأول ( ديسمبر ) 2014