الموضوع
:
أفضل مئة رواية عربية – سر الروعة فيها؟؟؟!!!- دراسة بحثية.
عرض مشاركة واحدة
04-25-2012, 01:51 PM
المشاركة
472
ايوب صابر
مراقب عام سابقا
اوسمتي
مجموع الاوسمة
: 4
تاريخ الإنضمام :
Sep 2009
رقم العضوية :
7857
المشاركات:
12,766
اهم احداث طفولة العجيلي والتي اثرت فيه وصنعة عبقريته بقلمه ومن مرفأ الذكريات لديه:
- مرفأ الذاكرة لدى كاتب هذه السطور،
على اتساعه وطول أرصفته، يضيق بالأحداث والصور والأقوال التي تزاحم فيه وعليه، وليس
ذلك مستغربا على ما مر بي في ثمانين عاما من العمر قد انقضت لي، وعلى ظروف مختلفة
عشت فيها ونشاطات مارستها في مجالات العلم والأدب، ومجالات السياسة والحرب، وفي
عملي كطبيب، وفي الأسفار والعلاقات الاجتماعية ، وفي غير هذه وتلك وهاتيك
. .
-
بعد ما استقر في ذاكرتي من صور هي بلا شك صورة ترجع إلى سني طفولتي الأولى، وذلك حين فكنت في الثالثة من عمري أو حين خطوات أولى خطواتي في سنتي الرابعة، عرفت مبلغي من العمر أيام هذه الصورة بعد ما كبرت وسمعت ما رواه من أبنا بلدتي الصغيرة من تاريخ هذه البلدة، وهي الرقة على شاطئ الفرات في شمالي سوريا، ومن حكايات الأحداث التي مرت بها زمن طفولتي، تلك الصورة هي منظر جسم لامع، فضي اللون ، يرتسم على صفحة سماء خفيفة الزرقة ويسير على تلك الصفحة بخط مستقيم وبحركة تبدو بطيئة لبعدها عن عيني، ثم منظر قطع صغيرة، مستطيلة، تتساقط من ذلك الجسم اللامع ، قطعتان أو ثلاث أو أربع، لا أذكر اليوم كم كان عددها على الضبط ، تتساقط ويحجب عن بصري مكان وقوعها جدران المنازل اتلي كانت في الجانب المقابل للقبو الذي كنت أتطلع من بابه الضيق إلى السماء فوقي. ذلك القبو الذي كنت فيه مع أمي، ومع نساء كثيرات معهن أطفالهن، كلهن يتزاحمن ليتطلعن من باب القبو إلى السماء وإلى تلك القطع المتساقطة من ذلك الجسم الفضي السائر على صفحة السماء.
-
عرفت
عندما كبرت أن الجسم السائر ذاك كان طائرة حربية وأن تلك القطع المتساقطة قنابل
مهلكة كانت الطائرة تلقيها على مواقع متفرقة من بلدتنا، وأن ذلك حدث في الأيام
الأخيرة من شهر سبتمبر من عام 1921. هذه أبعد ما حفظته ذاكرتي من صور. ولعل استقرار
هذه الصورة بهذه القوة في ذاكرة الطفل الصغير الذي كنته قد ترك في لاوعيي تأثيرا
اصطبغت به حياتي المقبلة في كثير من جوانبها، والجوانب الفكرية والسياسية منها
بصورة خاصة . تلك الطائرة كانت واحدة من طائرات جيش فرنسا الذي غزا بلادنا واحتلها
باسم الانتداب بعدما غدر الحلفاء بالعرب وتقاسموا بلادهم . وإلقاء نقابلها على
بلدتي الرقة ، كان لأن هذه البلدة أصبحت في ذلك الحين مقرا الحركة وطنية أعلنت
الرقة وما حولها دولة عربية مستقلة لا تعترف بانتداب فرنسا، ب جندت جيشا وجهته إلى
حلب لمحاولة استنفاذها من يد المحتل الفرنسي، ذلك تاريخ مجهول لبلدتي الصغيرة بسطته
في كتاباتي بعد مرور عقود طويلة من السنين على أحداثه، وليس هنا مكان روايته ،
ولكنى أردت القول إنه قد يكون في استقرار هذه الصورة في خاطري طيلة ما يفوق ثلاثة
أرباع القرن إرهاص لما ستكون عليه أفكار ذلك الطفل ويكون عليه سلوكه وتصرفه حين
يغدو شابا وبعد أن يكتهل ثم يشيخ
.
-
تتزاحم الصور على مرفأ الذكريات بعد تلك
الصورة الأولى المفرطة في البعد، كبر الطفل في الخامسة من عمره ، وانتقل بذلك من
حضن أمه إلى حضن المدرسة، كان انتقالاً مبكرا بالنسبة لانتقال أنداده الذين كانوا
يفوقونه في السن، فأكسبه ذلك مكاسب وعرضه لبعض الهشاشة في تكوينه العلمي لم يتخلص
منها إلا بعد عناء وزمن طويل
.
-
كانت المدرسة عالمي الجميل والمفضل،
ولكنها لم تكن كل العالم لي، كانت هناك المطحنة التي يملكها والدي، وهناك مضارب
أعمامي في البادية حول بلدة الرقة ، أو بالأحرى في سهول تلك البادية التي تعشب في
الربيع فتحرق أعشابها شمس الصيف الملتهبة فترتد مقفرة جرداء. كنت أتردد على المطحنة
لأحمل لأبي طعام غدائه وعلبة دخانه اليومية من منزلنا، ولأتأمل في الرحى الدائرة
وهي تتلقى الحنطة حبوبا قاسية وتقذف بها دقيقا ناعما، و لأتطلع إلى المحرك ذي
الدولابين الضخمين وهما يدفعان بالمكبس إلى جوفه ويجتذبانه من ذلك الجوف، في حركات
منتظمة عنيفة ورشيقة في آن واحد ، وحدث في إحدى مرات تطلعي ذاك أن علق طرف القنباز
الذي كنت أرتديه بالسير الجلدي لمضخمة الماء التي كانت مركبة فوق بئر في جانب
المحرك، وهو يدور على دولابه ، فلم أشعر إلا وأنا مرتبط بذلك الدولاب مرتفعا إلى
قمته قبل أن ينحدر فيلقيني في قرارة البئر. سارع أرمين ، ميكانيكي المطحنة الأرمني،
إلىّ واجتذبني من يدي بقوة قاذفا بي إلى الأرض بجانب فوهة البئر. وسلم الله ذلك
الصبي الطلعة ، القليل الحذر من هلاك محقق آنذاك
.
-
أما مضارب أعمامي فقد كنت
أتردد عليها، في الربيع، في العطل المدرسية وبعد الظهر من كل خميس ويوم الجمعة
التالي له . كان أهل بلدتنا، وأسرتنا من بينهم ، نصف حضر يسكنون منازل البلدة
الحجرية نصف السنة ويخرجون إلى السهوب المعشبة في الربيع وأوائل الصيف مع أغنامهم
يتنقلون بها بين المراعي. والدي كان من أوائل الذين تحضروا وسكنوا البلدة في السنة
بكاملها ، ولهذا كنت ألجأ إلى منازل أعمامي في بيوت الشعر في المراعي كلما أتيحت لي
الفرصة، فأرعى مع صبيانهم الخراف وأطاردها حافي القدمين معهم ، وأنام تحت سماء
الربيع المتألقة النجوم وأستمع في الفجر، وأنا بين النوم واليقظة ، إلى أحاديث
المتسامرين المتحلقين حول النار الموقدة في كاسر البيت قبل أن يهب الرجال ليأتوا
بنعاج القطيع إلي أمام المضارب وتهب النساء لتحلب تلك النعاج
.
-
بعد
الدراسة الابتدائية كان علي أن أنتقل إلى حلب لمتابعة تعليمي لأن الرقة لم تكن تحوي
مدرسة ثانوية، وهنا وفي ختام السنة الأولى من الدراسة الثانوية، حدث ما اعتبرته بعد
ذلك المنعطف الكبير في حياتي. أصبت في العطلة الصيفية بمرض ألجأ والدي إلى أن
ينقلني إلى حلب ليعالجني أطباؤها، لا أذكر اليوم، وأنا الطبيب، ماذا كان ذلك المرض،
الذي أذكره أن الدكتور مونييه، وهو الطبيب السويسري الجنسية الذي تولى العناية بي
في مستشفاه نحوا من عشرة أيام ، أشار على أبي بأن يقطعني عن الالتحاق بالمدرسة عاما
كاملا، بقيت العام التالي بطوله في الرقة بناء على إشارة الدكتور مونييه، وبقيت
عامين بعده فيها بناء على رغبة الوالد الذي أرادني على أن أنقطع عن الدراسة لأعينه
في إدارة أعماله وأملاكه ، أنا الذي كنت ولده الوحيد آنذاك
.
كان ذلك مصيرا
قاسيا لي أنا الذي فتحت آفاق تفكيره وألهبت خياله قراءاته الكثيرة والمختلفة ، ولكن
رب ضارة نافعة، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، كانت هذه الأعوام الثلاثة
المتتابعة ضرورية لنضج تفكيري كما أنها ألحقني بمدرسة من نوع آخر، رحت أتلقى
المعرفة فيها لا من أفواه المعلمين أو من صفحات الكتب، بل من مخالطة الناس وممارسة
الحياة والتعامل المباشر مع أمورها. تلك هي مدرسة العمل إلى جانب والدي وتحت
إشرافه، عملت في المطحنة التي كنا نملكها مشرفا عليها وجابيا على غلتها، أتاح لي
ذلك التعرف على أصناف الناس الذين كانوا يتوافدون علينا، نساء ورجالا، من البلدة
ومما حولها في المنطقة الواسعة المحيطة بالبلدة، البدو كانوا يأتوننا بقمح مؤونتهم
على جمالهم ، والقرويون على الحمير، وسكان البلدة على عرباتهم التي تجرها الكدش،
وهي غير الأصائل من الخيل ، أصبحت على معرفة بالقبائل نسبا ولهجات كلام ورزاية
أحداث سالفة وجيدة ، هذا في النهار، أما في الليل فقد أتاح لي سن اليفع الذي قاربته
أن أكون من رواد مضافة أسرتنا، أجلس منها قريبا من المدخل، مستمعا إلى أحاديث
الكهول عن شئون الأقارب والأباعد، في بلدتنا ومنطقتها وفي مدننا وبلادنا بأسرها
.
وفي شهر رمضان بصورة خاصة كنت أستمع إلى أحد أعمامي ممن كانوا يحسنون القراءة يتلو
على رواد المضافة ، بعد صلاة العشاء كل ليلة ، فضلا من كتاب فتوحات الشام للواقدى
أو من رواية سرور آغا وصالحة خانم وسلطان عبد الحميد المترجمة عن التركية ، وحين
كانت تتأزم أمورنا السياسية مع فرنسا المحتلة كان حضور المضافة يتحلقون حول ذلك
العم أو غيره وهو يتلو عليهم آخر افتتاحيات نجيب الريس، في جريدته القبس، في مهاجمة
المحتل وتسفيه سياسته ، فتلتهب النفوس حماسة وتعلو الأصوات بالاستنكار والاحتجاج
والتنديد
.
رد مع الإقتباس