عرض مشاركة واحدة
قديم 05-30-2012, 02:52 PM
المشاركة 730
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
إن الوطن يغدو ههنا جزءا من الوحدة الكونية ولئن كانت صورة الوطن في هذه النصوص غير مندرجة في تلافيف الماضي، فإنها في تحولها إلى المستقبل ظلت أسيرة النظرة المثالية. إن خطاب الرومنسية الاستعادي أضفى على شعرية الوطن بعدا رمزياً، جعل الوطن مندرجاً في حقيقة عامة هي حقيقة الكائنات الأزلية السرمدية.
ومع حركة الطليعة تشظّت صورة الوطن فقد رفض أصحابها الشعرية القديمة المتوارثة والمضامين الجاهزة، ودعوا إلى أن ينفتح الشعر على الحياة وأن يرصد أصوات الشارع، ومن هنا نزلت صورة الوطن عندهم من علياء الجمال التجريدي المطلق إلى حيز التجسيد، ومن ثم فإن وطنية شعراء الطليعة تنبع من ملاحظة الجوانب السلبية التي كان يسكت عنها، وحب الوطن عندهم لا يعني تمجيده بل يعني إخراج حقيقته- وإن كانت بشعة- من الكمون إلى الظهور، إن غياب الوزن والقافية وحضور العامة في هذا الشعر دليل على انكسار التناغم في صورة الوطن القديمة، وتهاوي أحدية المرجعية إلي كانت معتمدة في التعبير عنه، وبهذا تتشظّى صورة الوطن، ويكون ذلك انعكاساً لتشظّي الطبقات والمصالح والإيديولوجيات.
على أن هذا التشظّي في صورة الوطن لا يعني انقطاع الأواصر بينه وبين الشاعر، فهذا الوضع المخصوص يصبح حافزاً للتعلق بالوطن والتغنّي بجماله، وبهذا يكرس التطابق بين الذات والموضوع وبين الشعر والوطن، وتصبح حقيقة الوطن ماثلة في الحاضر الراهن بما ينطوي عليه من تناقض وصراع.
ولمّا كان الشعر تراكماً فإن هذه الصور الثلاث قد اجتمعت في نص واحد هو آخر ما كتبه الميداني بن صالح وهو "الملحمة التونسية"، وفيها تعاظل بين الشعر العمودي والشعر الحر، وإبراز لماضي الوطن من خلال المراحل التاريخية الكبرى التي مرّ بها، ولحاضره من خلال ما تحقق له من مكاسب في العهد الجديد، ولمستقبله من خلال المبادىء والقيم التي ترسخ فيه لبناء وطن تسوده الديمقراطية وحقوق الإنسان والتسامح والتكافل الاجتماعي والتعددية وحق الاختلاف، ولاشك أن هذا المجتمع هو الذي مكن الشاعر من اعتصار صورة للوطن لا تعارض فيها بين الموجود والمنشود، وبين الماضي والحاضر والمستقبل.
- أشكال الحداثة ومضامينها: النص والعالم.
إن هذه المسألة تشدنا إلى الأدب السردي عموما والرواية على وجه الخصوص، ذلك أن الرواية التونسية التي انطلقت من حيز الواقعية، كانت تنهض على المشاكلة waisemblance وترغب في إقامة عالم روائي يماثل العالم الواقعي- و"الدقلة في عراجينها" للبشير خريف نموذج فذ لهذا الاتجاه.
إلا أن الناظر في الرواية التونسية الحديثة مع فرج الحوار وصلاح الدين بوجاه وعروسية النالوتي وإبراهيم الدرغوثي والحبيب الساطي وحسونة المصباحي يلاحظ تحول نمط الكتابة، إذ انكسرت تلك الوحدة القديمة وأصبح تماسك النص غير متولد من مشاكلته للواقع، وإنما هو وليد حركة داخلية تنصهر فيها عناصره، إلا أنها تقدم لنا في شكل مهشم متعرج منكسر يقطع الصلة مع القص الواقعي والكلاسيكي.
فهذه الروايات خارقة للعادات القرائية، متجاوزة لأفق انتظار القرّاء، إذ هي تزعزع ما استقر في الأذهان من تقسيمات ثابتة بين أجناس الأدب ولهذا فإننا نجد فيها الشعر والتاريخ والمسرح والخرافة كما أنها تكسّر صورة الراوي المتماسك وتبعثر الرؤى فإذا بالأصوات تتعدد ويصبح كل منها مدخلاً لمصطلح قرائي، وسجلاً حاملاً لرؤية للكون، حتى إن النص الروائي يغدو بمثابة الركح الدائر الذي نطل عليه من زوايا متعددة تعدد الحقيقة.
كما أن هذه الروايات لا تتعامل مع النصوص الأخرى تعاملاً تقليدياً، فهي تأكل غيرها من النصوص وتغيّر وجهتها بحيث إنها تصبح مجمعاً من النصوص التي تنتمي إلى عصور مختلفة وأمكنة متنوعة، إلا أنها تنصهر حتى تكون نصّاً، له شخصية فذة ومواصفات ينفرد بها.
إن هذه السمات التي تتصف بها الرواية التونسية المعاصرة تشهد على تغيّر في مفهوم الإبداع وفي وظيفة الفن، ذلك أن التماس أصبح السمّة المُميّزة لهذه الروايات فخرجت عن وقار الأحدية إلى حداثة التعدد.
على أن حداثة هذه التّماسات ليست زينة خارجية وإنما هي ناتجة عن تغيّر في وظيفة الأدب نفسه. فهو لم يعد منحصراً في حيز مكاني محدّد، وإنما غدا معنيّاً بالعالم كله يحمل همومه ويبشر بخلاصه، ولم يعد منحصراً في الماضي والحاضر وإنما أصبح يرسم صورة المستقبل، ولم يعد يرفع لواء المثل القديمة الممتدة في جذور التاريخ، وإنما أصبح يجسّد قيماً أخرى هي وليدة التّماس بين الحداثات المختلفة التي تسود عالمنا. وبهذا تكون الخصائص الشكلية لهذه النصوص تعبيراً عن أبعادها الفكرية. فهذا التعدّد يأتي لينقض صورة البطل الأوحد والراوي الأوحد والكون المتناغم، ويؤسس صورة البطل المتعدد والراوي الديمقراطي والكون المتنوع.
إن حداثة الكتابة تكمن في خرق ما هو مثالي سكوني باسم الواقع الحركي. فليست الرواية بهذا المعنى وصفاً للماضي أو إيقافاً للزمن الحاضر وتجميداً له، وإنما هي رسم لملامح المستقبل وتكريس للقيم الإيجابية التي أصبحت توجّه الكون على أيامنا، فحداثة التّماسات ليست درجة شكلية بل هي إيمان بأن الرواية خاصة والأدب بصفة عامة لم يعد دوره التحريض أو الإيهام، بل أصبح دوره الحوار دونما تلقين أو تسلط. وبهذا فإن حداثة التّماسات جسر متين لتماس الحداثات ومحاولة للدخول في العصر من خلال تغيير طبيعة المجتمع ونوع العلاقات التي تنشأ بين أفراده وضروب القيم التي تشكل ملامحه المستقبلية.
إن هذه الإطلالة السريعة على الأدب التونسي قد مكنتنا من الوقوف على المسار الذي مرّ به حتى تتشكل ملامحه الأساسية أوقفتنا على نتيجتين أساسيتين:
1- إن هذا الأدب يواكب التحولات ويستبقها في أغلب الأحيان، وهذا مثال واضح على الثقافة، التي يظل الإبداع الأدبي دعامتها الأساسية- ليست نشاطاً هامشياً يأتي تزجية لفراغ أو هروباً من مواجهة القضايا الراهنة، وإنما هي إسهام فني في نشر القيم التي ينبغي أن يقوم عليها المجتمع وتبشير بها.
2- إن هذا الأدب من خلال انفتاحه على تجارب الغير قد استوعب أهم مكتسبات الإبداع الأدبي وأصبح يرنو إلى احتلال موقع متقدم في تجارب الكتابة في العالم، ولكن الطريف أن هذه الآليات المستحدثة ليست قشرة خارجية براقة وإنما هي تعبير عن المضامين الإيجابية التي نسعى إلى تكريسها من قبيل الديمقراطية التعددية وحقوق الإنسان إلى جانب قيم العمل والتسامح والانفتاح.
إن هذه الحصيلة التي وجدت في المناخ الاجتماعي والسياسي والحضاري الذي لبلادنا أرضاً خصبة للنمو والتطور، ما كان لها أن تتعزّز لولا إيمان أصحابها بأن التواصل التاريخي لا يتعارض مع الانفتاح على الغير والإفادة من منجزاته- وبهذا المعنى يجوز لنا أن نتحدث عن الدور الطليعي للأديب الذي غدا من المتعين عليه أن يضطلع بمهمة حضارية تاريخية تتمثّل في أن يكون محلاً للتلاقي الخصيب بين مقومات الهوية الوطنية والقومية وبين قيم العوْلّمة