عرض مشاركة واحدة
قديم 07-17-2017, 03:33 AM
المشاركة 100
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
رمّاشة


اليوم بالذّات افتتح جناح المرض الذي يدمّر المناعة في هذا المستشفى الجامعي الجديد، هي حديثة العهد بهذه المهنة، لا تستند على خبرة كافية تجعلها مطمئنّة البال، وراء نظّارتيها تتحرك عيناها بدون توقف، هي عادة قديمة، رموشها لا تكفّ عن الحركة كماسحتي الزجاج الأمامي لسيارة في يوم مطير، تزداد هذه العادة السيئة استفحالا عند كلّ تحول يصيب إيقاع حياتها، نوع من حالة استنفار تمارسها حتى عيناها، يشوش ذلك على ذهنها لكنها مضطرة لمعايشة هذه النقيصة وجعلها جزءا من مظهرها الطبيعي، هذا المظهر نفسه أرّقها خصوصا في بدايات استشعارها للأنوثة، حظها من كونه جذّابا متقلّص ومتقوقع، ما استطاع أن يجعلها رفيقة مريحة لكلّ الذين رأت فيهم حياة نابضة، إذ تستهويهم أخريات يخطف بريقهن الأبصار.
رغم أن السّنوات تأكل بعضا من حروف الملاحة، فالتي اقتحمت الباب زادها الاكتناز توهجا، يتقدمها انتفاخ خفيف توّج احتفالات حياتها، وضعت الظرف على الطّاولة بعد أن سلّمت على الدّكتورة بعجرفة من يستخفّ بكلّ شيء، هذا الوجه الصبوح الممتلئ أنوثة يخفي من ورائه جوعا لا يفتر ونهما لا تتراخى عضلاته، بل تظل في حالة استعراض دائم، تتذكر أنّ لقب الرّمّاشة انسلّ من هذه الشفاه المحمرّة، قديما كانت تبيت اللّيالي محاولة فكّ هذا اللّغز الحيّر، ألا يكفيها أنها تتربع على عرش الجمال، فلم تصرّ على استشعار الآخرين بعوزهم وقلّة حيلتهم، ألا يكفيها أن من كانت تحوم حوله اصطادته برمشة عين واحدة، وتركتها ترمّش الدّهر كلّه وما استطاعت ردّ الاعتبار حتّى ايقنت أن الحياة خاصمتها ولن تقبل بها.
فتحت الظّرف، قوت القلوب حامل، سبق أن حظيت بفتاتين قبله، قد تحملان نفس قوة منبعهما فالأجنة كفيلة بحفظ سطوة الحياة القابعة في الأعماق، لكن الأم مصابة منذ عام كامل، هذا المولود القادم يحمل بذور الحياة والفناء كليهما في أوردته الضّيقة، أحسّت الرمّاشة ببعض انشراح يعبق في دواخلها، فاستدركت وهي تفتعل فك الرموز، ماذا سأجني بفرحي هذا، حتى لو مرضت كلّ الحسناوات فأنا أقفلت هذا الموضوع، لا أملك إلا أن أحاول إبقاء حياتين أمامي ولن أتركهما تحتضران.
أزالت نظّارتيها، متنهدة وعيناها تنغلقان لتنفتحا وتنفتحان لتنغلقا ككأس مدمن خمر لا تفرغ إلا لتملأ ولا تملأ إلا لتفرغ، عندئذ نطقت قوت القلوب:"رمّاشة، أنت من يبشرون بقدومك منذ شهور، لا أصدّق"
كتمت رمّاشة غيظها وقالت: "لا يهم أن نصدّق بل الأهم، أن حياتك تحتاج إلى المساعدة."