عرض مشاركة واحدة
قديم 05-11-2015, 08:29 AM
المشاركة 5
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
وقفة مع جماليات رواية "بيدرو بارامو" لخوان رولفو
د.ماجدة حمود
مجلة الموقف الأدبي
العدد 430 شباط 2007


يكشف لنا خوان رولفو في كتابه "سيرة ذاتية مسلحة" أن أحد الدوافع التي دفعته إلى تأليف روايته "بيدرو بارامو" هي زيارته لقريته ومرتع طفولته بعد أن هجرها ثلاثين عاماً، فعاد إليها ليجدها طللاً، تلف الوحدة شوارعها وديارها، ولا يعمّرها سوى حفيف شبحي، حفيف أشجار الكازورينا تعصف بها الريح (1).‏

آلمت الوحدة الكاتب، وسيطرت على مخيلته، أثناء كتابة الرواية، أصوات الحفيف الشبحي، لهذا كانت هذه الأصوات مهيمنة على فضاء الرواية، كما كانت أحد عنوانين مبدئيين لها.‏

قد بدت لنا قرية (كومالا) أحد الأبطال الأساسيين في الرواية، عايشناها عبر ذاكرة زمن مضى، هو زمن طفولة الراوي، فوجدناها في قمة بهائها، كما عايشناها عبر زمن حاضر انحدر بها إلى درك البؤس والجفاف!‏

لكن التجربة الأهم التي لمسنا ملامحها في الرواية هي التجربة التي تعرض لها (خوان رولفو) في طفولته، إذ قتل والده وهو في السادسة من عمره، فظلت هذه الحادثة جرحاً نازفاً في أعماق روحه، تركت بصمتها على إبداعه! وارتسمت في ذاكرته آلام تلك اللحظة التي أخبرته فيها أمه بموت أبيه، فجسّد لنا حزن والدته الغارق في اللوعة "لقد مات أبوك"...‏

ثم كما لو أن نوابض حزنها قد أفلتت، دارت حول نفسها مرة ثم أخرى، ومرة ثم أخرى، إلى أن وصلت يدان إلى كتفيها، وتمكنتا من وقف تحرك جسدها... وكأن الأرض تحتها غارقة بالدموع، ثم النحيب، بكاء ناعم، لكنه حاد مرة أخرى، والحزن الذي يلوي الجسد (2).‏

تسجل ذاكرة (رولفو) لحظة الصدمة، حين أخبر بمقتل أبيه، فانتزعت منه أفراح الطفولة، وسلب الإحساس بالأمان! وقد أسقط هذه التجربة على شخصيات روايته! وخاصة على الراوي البطل (خوان بريثيادو) الذي يتماهى مع الكاتب في كثير من المشاهد (البحث عن الأب، موت هذا الأب، معايشة أرواح الموتى، وبؤس المكان (كومالا)...) وكذلك يشاركه في النصف الأول من اسمه (خوان).‏

ولعل المشهد الذي يعكس ردود فعل أمه، حين فاجأها النبأ الحزين، هو أكثر المشاهد حياة في وجدان الكاتب! لهذا أسقطه على أم الراوي، وقدّمه عبر مشهد (سينمائي) مؤثر في حركته (انفلات نوابض الحزن إلى درجة استمرت الأم في الدوران حول ذاتها إلى أن أوقفتها يدان) كان حزنها طاغياً، تجلت ردود فعله على جسدها وعلى الطبيعة من حولها، حتى إنه منع النهار من القدوم، فتناثرت بقايا ضوء حول الأم، أما الأرض فقد بدت غارقة بدموعها!‏

يختار (رولفو) لهذا المشهد إطاراً زمنياً أسقط عليه حزنه! فجعل وصول الخبر الأليم في لحظة الفجر، حيث أحدث انقلاباً في الطبيعة! فبدا النهار ظلاماً دامساً أضاع نجومه "لم يكن ثمة نهار يبتدئ وإنما بداية ليل آخذ في القدوم".‏

لقد أحدث هذا الخبر خللاً في لحظة الشروق، فأدبر نوره، وسادت الألوان الحزينة (الرصاصية، الرمادية، الشاحبة) فضاء هذا المشهد!‏

لم يمت الزوج ميتة عادية، لهذا كان الألم الذي عانته الأم أكثر حرقة، وغصة الفقد أكثر لوعة، فقد آلمها أن يحاصرها إحساس بالظلم والعجز معاً، حتى الانتقام لن يعيد الحياة لزوجها القتيل! لذلك لم يكن أمامها سوى البكاء، الذي تبدى لنا بكل أشكاله (الغرق في الدموع، النحيب، بكاء ناعم لكنه حاد).‏

بناء الرواية:‏

هاجم بعض النقاد رواية خوان رولفو "بيدرو بارامو" لافتقادها الوحدة العضوية، مما أحبط الكاتب، ودعاه إلى التأكيد بأن أولى اهتماماته كانت البنية!‏

اعتمد بناء (بيدرو بارامو) أسلوب الرواية الحديثة، التي تهدف إلى إشراك المتلقي كي يملأ بمخيلته الفراغات التي تركها المؤلف، خاصة أنها تقدم عالماً مستحيلاً، هو عالم الموتى، لذلك لم يكن بوسع صوت المؤلف أن يتدخل!!‏

لكن رغم ذلك شكلت شخصية (بيدرو بارامو) أحد العوامل التي نسجت وحدة الرواية، وحفظت بنيتها من التفكك، باعتقادنا، إذ كانت محوراً تدور حوله معظم الكوابيس والأحداث والشخصيات (الراوي البطل، ابنه، زوجته، وكيله، رجل الدين (الأب رينتيريا...) فبدا (بيدرو) مؤثراً في حياتهم وفي موتهم! في حين اختفى المؤلف وترك "شخوصه يتحدثون في حرية، وهو ما عزّز انطباعاً خاطئاً بعدم وجود بنية...‏

هناك بنية غير أنها تتأسس على الصمت على خيوط معلقة، مشاهد مقطوعة، يحدث فيها كل شيء في زمن آني، هو ليس بزمن (3) مألوف.‏

بدا الخطاب الروائي مقسماً إلى وحدات أشبه بمقاطع شعرية، يؤسسها مبدأ ثابت يعتمد اللغة الذاتية في التعبير، لهذا سيطر ضمير المتكلم (صوت الراوي المشارك، وأعماق الشخصيات) من أجل تقديم الرؤية الداخلية العميقة للشخصية، وإن كان يتدخل أحياناً في ضمير الغائب ليسرد علينا ذكريات أو مواقف تبرز وجهة نظر أخرى.‏

نوّع الروائي بين السرد والمشهد الحواري، وقد تميّزت لغة الحوار بشدة التركيز والفاعلية، وقد كان مثل هذا الانضباط اللغوي نتيجة خبرته في القصة القصيرة باعتقادنا.‏

ومما أضفى حيوية على بنية الرواية تعمّد الكاتب المفاجأة من أجل تشويق المتلقي، إذ إن الراوي المشارك أثناء طريقه إلى (كومالا) يلتقي بشخص يرافقه في طريقه إليها، فيكتشف أنه شقيقه (ابن بيدرو بارامو) وأن لديه الكثير من الأشقاء في القرية، بعد أن كان يظن نفسه الابن الوحيد له!‏

نُفاجأ بطريقة غير مألوفة للاعتذار عن القتل يمارسها ميغيل (ابن بيدرو) الذي يصعد إلى غرفة (آنا) ليلاً ليطلب الصفح منها (بعد قتله أبيها) فتقابله بصورة تناقض أفق توقع المتلقي، فنسمعها تقول: "وما إن وصل حتى عانقني، كما لو كانت هذه هي الطريقة للاعتذار عما اقترفه، وابتسمت له".‏

تبدو الفتاة في غاية الطيبة في تعاملها مع القاتل، وهي تطبق التعاليم التي لقنها إياها (الأب رينتيريا) "فكرت بما كنت قد علمتني إياه: يجب علينا أن لا نكره أحداً أبداً، ابتسمت لأقول له ذلك".‏

وبذلك تحل لغة الحب محل لغة الكره، كأن الفتاة هنا تريد أن تفتح أفقاً آخر أمام القاتل، عساها تستطيع نقله من بؤس عالمه إلى روعة عالم أرحب!!‏

ومما أضفى الحيوية على بناء الرواية، باعتقادنا، تعدد وجهات النظر في تقدم الشخصية الرئيسية (بيدرو) وغير الرئيسية (الراوي المشارك) فمثلاً دميانا وأخوها (اللذان التقاهما الراوي في القرية لحظة انهيارها) فنجدهما يختلفان في وصفه، فيقدمان رؤية مناقضة، فتقول الأخت لأخيها "إنه يتلوى على نفسه كالمحكوم باللعنة، وله كل مظاهر الإنسان الشرير..." أجابها أخوها برأي مناقض "لا إنه رجل بائس... لابد أنه متصوف من هؤلاء الذين يقضون حياتهم بالتنقل بين القرى "ليروا ما تمنحهم العناية الإلهية" لكنه هنا لن يجد حتى ما يخلصه من الجوع..." (4)‏

شتان بين رؤية الأخت (رجل شرير) يتوجب الابتعاد عنه، وبين رؤية الأخ (رجل متصوف) يعيش على بركة الإيمان، يجب مساعدته! وإن كانت كلتاهما لا تقدمان صورة حقيقية لـ (خوان بريثيادو) فهو يعيش انهيار ما قبل الموت!.‏

جماليات المكان:‏

يرى بعض النقاد أن عنوان رواية "بيدرو بارامو" عنوان مخادع، لأن المكان هو بطلها الحقيقي، لا الشخصية، فقد تأثر خوان رولفو إثر زيارته للقرية التي ولد فيها، وعاش بعيداً عنها حاملاً أجمل الذكريات، وحين رآها "منطفئة" "وحيدة" أصيب بالصدمة فقد شوّهها هجران أهلها! فأسقط خيبته على الراوي المشارك (خوان بريثيادو) فتماهى صوت المؤلف مع صوته، لهذا يسأل أحد أبنائها:‏

ـ ولماذا تبدو كئيبة هكذا!!/ ـ إنه الزمن يا سيدي..."‏

نعايش هنا وقع الزمن الذي لا يعرف الحياد، وإنما تعبث أصابعه في الوجود والأمكنة، فتزرع الكآبة حيثما حلّلت، دون أن تفرّق بين ملامح مكان أو إنسان!‏

لهذا نهب الزمن جماليات (كومالا) وارتدّت الذاكرة باحثة عن صورته التي ارتسمت (في زمن مضى) هاربة من صورته (في زمن حاضر) مما يتيح للمتلقي معايشة مشهدي الجمال والقبح، فينتقل من روعة زمن مضى إلى بؤس زمن حاضر يجثم بثقله على الروح!‏

يجسد المشهد الأول عبر ذاكرة أم الراوي (خوان بريثيادو) التي عاشت تتنهد شوقاً إلى (كومالا) تحلم بالعودة إليها، لهذا توصي ابنها، أثناء احتضارها، بتحقيق حلمها!‏

يأتي ابنها إلى (كومالا) حاملاً معه عينيها اللتين لم تريا فيها سوى الجمال، حيث "يوجد أروع منظر لسهل أخضر تخالطه بعض الصفرة التي تنشرها الذرة الناضجة..." (5)‏

لهذا توصيه بأن يذهب إلى (كومالا) لا ليرى أباه فقط، وإنما ليلتقي بروحها بعد موتها، وسيسمع هناك أصوات ذكرياتها التي تمحو موتها!‏

اكتنزت القرية بأفراح الأم، لهذا دعتها "كنزيّة" إذ خبأت فيها ذكريات طفولتها، فكانت لا تشمّ فيها سوى "رائحة عسل مراق..." ولا تتذوق سوى "طعم أزهار البرتقال" ولن تتنفس في كل الأوقات سوى الهواء المنعش، مما يضفي على الأشياء ظلاً جميلاً، ويمنح الحياة روحاً شفافة كالهمسة، فيختلط علينا الأمر هل نسمع حفيف نسيم الأشجار أم همسات الحياة إذ "يبدّل الهواء لون الأشياء حيث يهوّي الحياة وكأنه الهمس، كأنه همسة نقية من همسات الحياة" (6).‏

قد ينقلب هدوء الطبيعة "ترعد السماء فجأة ويهطل المطر". لكن أصوات الطبيعة لن تثير الرعب، لأنها تحمل للإنسان، أجمل المفاجآت "قد يأتي الربيع، ستعتاد هناك على المفاجآت يا بني".‏

مع تداعيات الأم تنساب ذكريات الحياة اليومية في القرية! فنعايش لحظة نهوض القرية فجراً، إذ تضج بالحياة، ونسمع أصوات العربات التي تأتيها من الجهات الأربع محملة بالخيرات، ونشمّ رائحة الخبز الطازج! لهذا كانت (كومالا) جنتها، وحبها الوحيد، خاصة بعد أن تخلى عنها (بيدرو) "ستجد هناك حبي... ستشعر بأن المرء يتمنى هناك لو يعيش إلى الأبدية".‏

إن وجهة نظر الأم التي ترى المكان رديفاً للجنة (في زمن مضى) نجد ما يناقضها (في الزمن الحاضر) حين نسمع وجهة نظر الابن، إذ بدا لـه ضريح الآمال، نقيضاً للجنة، يقبع "فوق جمرات الأرض، في فم الجحيم تماماً... إن كثيرين ممن يموتون هناك يعودون بمجرد وصولهم إلى الجحيم بحثاً عن لحافهم". (7)‏

مع مرور الزمن باتت القرية جحيماً، بل أقسى من الجحيم، لهذا من يأتي لزيارتها بعد الموت يفضل العودة إلى الجحيم، إذ قد يجد فيه ما يخفف قسوة الحر، وهذا ما يفتقده في كومالا!‏

لهذا لن نستغرب أن الحياة لم تعد تهمس فيها، فقد أفسحت المجال لانتشار همسات الموت، لهذا يصرح ابنها "لقد قتلني الهمس".‏

هنا نتساءل: هل تغير المكان نتيجة لتغير الزمان؟ أو نتيجة تغيّر الإنسان؟ خاصة بعد استيلاء (بيدرو بارامو) عليه، وإهماله بعد وفاة زوجته (سوزانا) عندئذ باتت "مهجورة" "منطفئة".‏

اختفت ملامح الجمال التي عايشناها عبر ذاكرة الأم، وتبدّل طعم زهر البرتقال، وبات لها "طعم التعاسة؟ إذ لم تعد تشهد الولادة لدى الإنسان، حتى الطبيعة أصبحت عقيماً، ولم تعد تعرف لحظة الميلاد ما تحمله من مظاهر الجمال (الغيوم، العصافير، العشب) لذلك انتشر فيها الهواء "القديم والخدر، البائس والنحيل مثل كل شيء هرم" لينبئ باقتراب النهاية! وبذلك غادرها رونق الحياة، وسيطرت عليها رائحة صفراء هي رائحة الموت! وباتت "مطلية كلها بالتعاسة" ما إن يراها المرء حتى تصفعه الكآبة! حتى إن قسيس (كونتلا) يخبرنا "إننا نحيا في أرض تعطي كل شيء بفضل العناية الإلهية، ولكن كل شيء تعطيه حامض..." يؤكد كلامه (الأب رينتيريا) "هذا صحيح حتى البرتقال والريحان"‏

حتى أمطار (كومالا) لم تعد تجلب الفرح، بل صارت تجتثه وتمطر نجوم سمائها، فبات ليلها أشد سواداً، وأكثر كآبة، فلم يجد الأب (رينتيريا) اسماً يدعوها به سوى "وادي الدموع" فقد اختفت منها همسات الحياة التي عايشناها سابقاً.‏

حين هجر الإنسان القرية هجرتها الحياة وسكنتها أصداء الموتى، فتحولت الغرف الموحشة والمهجورة إلى قبور، كأن أصوات الحياة في القرية قد انطفأت، بعد أن أنهكها الاستعمال، وتبدلت معالم الفرح إلى حزن، حتى إن أصداء القهقهات التي توحي بفرح الحياة عادة باتت هرمة!‏

الغرائبية في رواية "بيدرو بارامو"‏

تعدّ رواية "بيدرو بارامو" مثلاً أعلى للغرائبية التي تنأى عن (الفانتازيا) لاقترابها من عالم الإنسان، وإن غامرت بدخول عوالم مجهولة، فهي تظل ملتحمة بهمومه وقضاياه، فقد عايشنا فيها إشكالية الموت الذي هو أحد إشكاليات الوجود الإنساني، بعد أن جعله الروائي جزءاً من الحياة فهدّم الحاجز بينهما! وأتاح الفرصة لاختلاط الموتى بالأحياء، فاستطاع أن يمنح شخصياته فرصة الحياة تحت الأرض وفوقها!‏

وقد رأى (ماريو فارغاس يوسا) هذه الرواية إحدى القفزات النوعية الأكثر فاعلية في الأدب اللاتيني الأمريكي المعاصر، إذ صيغت ببراعة، إلى درجة يصعب معها تحديد مكان القصة أو زمانها، وبالتالي تحديد أين ومتى حدثت النقلة (الزمانية والمكانية) فقد تمت شيئاً فشيئاً، وبصورة تدريجية من خلال تلميحات وإشارات مبهمة، وآثار باهتة، تكاد لا تسترعي انتباهنا حين نمر بها، لكننا سنلاحظها لاحقاً فقط وبصورة استرجاعية، خاصة حين نتأمل تراكم الأحداث القريبة التي تتيح لنا أن نعي بأن (كومالا) ليست قرية كائنات حية، وإنما هي قرية أشباح (8).‏

يدهشنا في رواية "بيدرو بارامو" تواصل الأموات مع الأحياء، فحين وصل الراوي البطل إلى (كومالا) تقول له (دونيا أدوفيخس) وهي صديقة أمه التي توفيت منذ أسبوع "أخبرتني بأنك ستأتي" فيجيبها الابن (الراوي) "أمي توفيت" فترد عليه قائلة "هذا هو إذن السبب الذي جعل صوتها ضعيفاً"‏

يتم التواصل بين الصديقتين الحميمتين، رغم موت إحداهما! فنعايش في هذه الرواية علاقة صداقة أشبه بحلم، إذ لم يتم التعاهد بين الصديقتين على الحب والوفاء بل على أمر لا يخطر على بال أحد، فقد تعاهدتا على الموت معاً، وبما أن أم الراوي قد سبقت صديقتها، لهذا تقرر اللحاق بها سريعاً!‏

يصل التوحد بين الصديقتين أقصى حدود اللامعقول، حين يتنبأ أحدهم لأم البطل أن عليها أن لا تضاجع زوجها (بيدرو بارامو) ليلة زفافها لأن القمر هائج، فتطلب من صديقتها النوم مكانها!!!‏

تبدو لنا هذه الصديقة (دونيا أدوفيخس) امرأة الحدس والتخاطر، مما يتيح لها التواصل مع الموتى، لهذا عاشت حياتها مؤرقة بسماع أنينهم! وهي تعي أنها تمتلك حاسة سادسة هبة منحها إياها الله، وربما لعنة بسبب معاناتها ذلك الأنين!.‏

تتسع قدرات هذه المرأة (الحدسية) التي تعتمد التراسل عن بعد (التخاطر) فنجدها تتواصل مع الحيوان كتواصلها مع الإنسان، حتى أنها تسمع وقع حوافر حصان (ميغيل بيدرو بارامو) رغم أنه قُتل إثر مقتل صاحبه! وقد تعدى ذلك إلى الغوص في أعماقه، والإحساس بمعاناته الداخلية، إذ "ربما المسكين لا يحتمل تبكيت نفسه". فهو قد يكون سبب مقتل صاحبه، وقد لاحظت (دونيا أدوفيخس) أنه أبدى من الحزن على صاحبه (ميغل) أكثر مما أبداه والده (بيدرو بارامو) فهو "لم يأكل ولم ينم ولا يفعل شيئاً سوى العودة إلى الطواف فحسب... كأنه يشعر بالتمزق والتآكل في داخله".‏

قدمت لنا آلام الحصان بصورة مدهشة، حتى إن جميع أهالي القرية أحسوا بها، وحين رأته إحدى النساء يجري وقوائمه منحنية كما لو كان سينكفئ على وجهه قالت "سيحطم هذا الحيوان رأسه" بعد ذلك رأته وهو ينتصب بجسده، دون أن يخفف من سرعته، وهو يلوي بعنقه إلى الوراء، وكأنه مرتعب من شيء خلّفه وراءه" (9).‏

وقد أثَّر حزن حصان (ميغيل) بأقسى القلوب (بيدرو بارامو) لهذا وجدناه يأمر بإنهاء أحزانه! وقتله كي يلحق بصاحبه!‏

يدهشنا حزن هذا الحصان على صاحبه وذكّرنا بحزن الحصان (مهيوب) على صاحبه (بدري) إثر مقتله في رواية "أرض السواد" لعبد الرحمن منيف (10).‏

عرفت (دونيا أدوفيخس) بين أهالي القرية ليس بحاستها السادسة فقط، وإنما بإيمانها بالخوارق أيضاً، لهذا يلجأ إليها (ميغيل) حين يعترضه أمر غير مألوف (ضياع قرية خطيبته: كونتلا) قائلاً: "لقد أضعت القرية. كان ثمة ضباب كثير ودخان، ولست أدري أي شيء.. لكني أعلم أن (كونتلا) لا وجود لها، ذهبت بعيداً، حسب تقديراتي، إنني آت لأروي لك أنت ذلك، لأنك تفهمينني، لو أخبرت الآخرين في كومالا لقالوا إني مجنون، كما يقولون عني دائماً" (11).‏

تعيش المرأة في عالم أقرب إلى الخيال، يعتمد قوانين خاصة، لا علاقة لها بالواقع، فهي تصدق الخوارق، (كاختفاء القرية عن سطح الأرض) في حين لا يؤمن أهالي القرية بذلك، ويعدّونه جنوناً!‏

وهكذا شكلت البنية الغرائبية لرواية "بيدرو بارامو" ملامح شخصياتها، وهدّمت الفاصل بين الحياة والموت عبر لغة تفيض حساسية، كما عبثت هذه الرواية بالملامح الطبيعية للمكان، فقضت على المعنى الجغرافي وما يحمله من دلالات ثابتة لهذا اختفت القرية عبر الضباب والدخان، كما اختفى الأشخاص وتحولوا إلى أشباح، حفيف صداهم يملأ أجواء القرية!‏

وقد أمعن الراوي في وصف هذا الصدى الذي أضاع قواه، فبدا مخنوقاً، يخرج من شق ما، ومن عالم بعيد، لكنه واضح يمكن التعرف عليه، ويبدو مترافقاً أحياناً مع الحضور الجسدي لا الشبحي، فمثلاً نجد الأخت (داميانا) تلتقي مع أختها (سيستينا) التي توفيت منذ سنوات طويلة، وتسمع رجاءها في أن تتوسل من أجلها إلى الله!‏

يستعيد المكان عبر الوصف المؤثر بعض ملامحه الطبيعية، فبعد أن هجرته الحياة! وعلاه غبار الزمن! وبدت شوارعه خالية ونوافذه مشرعة للسماء، تتخللها تفرعات العشب الناشف، أما جدرانه المقشرة فتكشف عن طوبها المتفتت، لكنه سرعان ما ينتقل إلى عالم غرائبي حين يجعل الكاتب حشود الأرواح تهيم في الشارع ليلاً فيغلق الأحياء الأبواب على أنفسهم خوفاً، إذ "ليس هناك من يحب رؤيتهم".‏

تتسع حدود الغرائبية فتغمر أرض (كومالا) أشباح الموتى "إنهم كثيرون ونحن قليلون جداً، حتى إننا لا نتكلف مشقة الصلاة من أجلهم، ليخرجوا من أحزانهم، لأن صلواتنا لن تكفي لهم جميعاً" (12).‏

وهكذا يختلط الواقع بالغرائبي اختلاط الأموات بالأحياء، وإن كنا قد لاحظنا طغيان عالم الموتى على الأحياء، فلم يعد ممكناً مساعدة الموتى بالصلاة من أجلهم، إذ عجز الأحياء لندرتهم عن القيام بواجبهم تجاه الأموات لكثرتهم!! مما جعل الحياة أكثر قتامة وبؤساً!‏

تبدو الغرائبية أيضاً حين يحس الأحياء برائحة الموت لدى مفارقة أحد أبناء قريتهم للحياة، لهذا وجدنا بائعة النبيذ تقول لابنها "أشم أن أحداً في القرية قد مات". فيأتي الحوذي، الذي يسكن بعيداً عنها، ليخبرها بأن زوجته قد ماتت!‏

ـ لكن الغرائبية الأكثر إدهاشاً في هذه الرواية، باعتقادنا، هي معايشة هموم الموتى داخل القبر، فنفاجأ أن الآلام التي نغصت حياتهم لم تنتهِ بموتهم، بل صحبتهم إلى القبر، فالمرأة التي آلمها عدم تحقق حلمها بإنجاب طفل ستشكو همها للراوي (خوان بريثيادو) حين دفنت إلى جانبه، بسبب العوز الذي لاحقها في حياتها ومماتها، حتى أنها لم تستطع الاستقلال في قبر خاص بها، وقد شكت له أيضاً وحشة الوحدة التي لاحقتها في قبرها، كما لاحقتها في حياتها!‏

أكسبتها تجربة الحياة والموت حكمة، وأدركت قيمة التفاؤل، لهذا لن تسمح للمخاوف بتدمير حياتها داخل القبر، فلو قارنا بين تفسيرها لأصوات تسمعها فوق القبر بـ (أصوات المطر) وبين تفسير الراوي لها (خطوات تدوس على القبر) مما يثير الخوف في نفسه!‏

إذاً علّمتها التجارب الحياتية القاسية ومعايشتها للموت ضرورة أن يبحث الإنسان عما يفرحه! لهذا تنصح الراوي ألا يستسلم للمخاوف، ولا يدع الأفكار السوداوية تسيطر عليه وتنغص إقامته الطويلة في القبر! لأن الإنسان ابن أفكاره التي تنعكس على مشاعره وأحاسيسه سواء في حياته أم في مماته!! فتنغص أيامه سواء أكان فوق الأرض أم تحتها، حين يرى الأمور بمنظار التشاؤم!‏

لا أحد يموت في هذه القرية وتنتهي صلته بالحياة، لهذا شاهد الناس روح (ميغل) تتجول في أنحاء القرية، وتقرع نافذة إحدى النساء، كما كان يفعل أثناء حياته، والمدهش أن روحه كانت ترتدي ملابسه نفسها (السروال الجلدي).‏

أما (سوزانا) التي تعيش بعيداً عن والدها فقد أحست بزيارته لها ليلاً، وفي الصباح أخبرتها خادمتها بوفاته، فتقول لها لقد جاء لوداعي!‏

يختلط في تصرفات (سوزانا) الواقع بالكابوس، فتصبح ملامحها أقرب إلى الشخصية الغرائبية، فحين يزورها الأب (رينتيريا) "تقترب منه، فنظر إليها وهي تحيط بيديها الشمعة المشتعلة، ثم تدمج وجهها بالفتيلة المحترقة، حتى اضطرته رائحة اللحم المحترق على هزّها وإطفائها بنفخة واحدة" (13).‏

كأن المحتضرة تريد أن تنبئ الأب (رينتيريا) بأنها باتت تعيش قوانين حياة أخرى، لذلك لم تعد تبالي بالقوانين الدنيوية المألوفة، لهذا تلتحم بنار الشمعة دون أن يهمها الاحتراق!‏

حين تموت (سوزانا) تختلط طقوس الحداد بالفرح بصورة غرائبية، مما يجعل المتلقي يعيش عالماً غير معقول! فقد توافدت الناس كأنهم في موسم حج، وجاء سيرك ومغنون، وامتلأ فضاء القرية بالألحان وصرخات السكارى، حتى أصيب الجميع بالصمم! في حين غرق بيت (بيدرو بارامو) بالصمت، حتى التجوال كان يتم بأقدام حافية، والكلام بصوت خافت!!!‏

هنا نتساءل: ما السبب في اختلاط طقوس الحداد بالفرح؟ هل هو انتقام من (بيدرو بارامو) وتدمير لهيبته، بعد أن كثر فساده! أم هو تعبير عن الفرح بخلاص (سوزانا) من آلامها ومن حياتها مع زوج مثل (بيدرو)؟‏

جماليات الخاتمة:‏

أوحى لنا مشهد موت البطل (بيدرو بارمو) في الخاتمة بان الرواية تنسجها خيوط بناء فني محكم، فقد أنهت حياة الشخصية التي كانت الافتتاحية تبحث عنها بناء على وصية أم لابنها في ضرورة أن يرى أباه (بيدرو) في كومالا.‏

عايشنا في الخاتمة لحظات احتضار هذا البطل، وتأملاته وهو يراقب موت كل عضو من أعضائه على حدة! فيحس في تلك اللحظة بوحدة مع الكون، فهو يتماثل مع شجرة تفلت أوراقها ورقة ورقة! فتنطقه تلك اللحظات بحكمة بسيطة لكنها تشكل حقيقة أزلية "الجميع يتخذون نفس الطريق، الجميع يذهبون".‏

تحث الخاتمة المتلقي على التأمل، ومما أكسب هذه الدعوة فرادة أنها جاءت على لسان محتضر، فتتيح للمتلقي فرصة عيش هذه التجربة على صعيد تخييلي قبل أن يعيشها على صعيد واقعي! فربما يصل إلى حكمة تجعله يتقبل الموت بهدوء، إذ ثمة عدالة إلهية توحّد نهاية الجميع، فالموت ينتظر كل الكائنات الحية! لا يمكن لأحد أن يفلت منه!‏

المدهش في الخاتمة هذا التنوع اللغوي، فبدت اللغة الحكيمة (المستمدة من معاناة اللحظات الأخيرة للمحتضر) إلى جانب اللغة الشعرية (المستمدة من تجربة حبه لـ (سوزانا)، فقد صاحبته ذكراها الجميلة حتى آخر لحظة من حياته).‏

أمام الموت لم يجد (بيدرو) أمامه سوى ذكرى الحب يلجأ إلى ظلالها يتفيؤها، رغم ما حملته له هذه العلاقة من إحباطات، تجلت في قوله "فقدت عيني وأنا أتطلع إليك" إذ لم تتغير أحاسيسه بعد موت (سوزانا) واقترابه من النهاية ذاتها! فمازالت حلماً جميلاً، يسعده الاستسلام له، لعله ينقذه من وحشته وبؤسه!‏

كما أنقذت هذه الذكرى (بيدرو بارامو) من بؤس لحظاته الأخيرة أنقذت لغة الخاتمة من القتامة التي ترافق الاحتضار، قد أحاطها (بيدرو) بصفات مدهشة (مضمخة بقمر، فمك مقزّح بالنجوم، جسدك يشفّ في مياه الليل) مما يوحي للمتلقي أنه أمام جمال مستحيل لهذا حاول جاهداً "رفع يده ليوضح الصورة، ولكن قدميه أوقفاها وكأنها قدّتا من حجر، أراد رفع اليد الأخرى فسقطت ببطء إلى جانبه، حتى استندت على الأرض مثل عكاز يسند كتفه المتعرق عظماً.‏

"أهذا هو موتي؟"‏

لم يجدِ (بيدرو) الهروب إلى الحلم، إذ لاحقه الموت، وأُحبط مسعاه في الإمساك بصورة (سوزانا) والاستمرار في تأملها، أي الإمساك بخيط يشدّه للحياة! فقد تحجّرت قدماه، ومنعت يده من الحركة، فحاول تحريك يده الأخرى لكنها سقطت جانباً مثل عكاز، باتت وظيفته حماية كتفه من السقوط!‏

تدخل صوت الراوي ليصف لنا زحف الموت على جسد (بيدرو) بلغة محايدة! أمام هذا العجز الحركي تأكد أنه يواجه موته، لهذا عمد المؤلف إلى إتاحة فرصة أخيرة أمام صوت (بيدرو) كي يعبّر عن أفكار تراوده، فيتساءل متحسراً عن حقيقة بات متأكداً منها! لهذا أبعد صوت الراوي، ليعود ثانية إليه، فيضفي مع تبدل الضمائر (غائب ومتكلم) حيوية على الفضاء السردي!‏

ومثل هذا التبدل يتيح للمتلقي فرصة تأمل المتغيرات التي حدثت في الفضاء الخارجي، الأمر الذي لن يستطيعه (بيدرو) المشغول بعالمه الداخلي وبتأمل موته، مما منعه أن يرى مشاركة الطبيعة لـه في هذا الاحتضار! فيأتي صوت الراوي ليصف ذلك "كانت الأرض الخراب أمامه خاوية" من مظاهر الحياة، وكيف حاولت الطبيعة مساعدته حين بدأت أعضاء (بيدرو) بالتلاشي، وانتشرت البرودة فيها فـ "كان الحر يحمّي جسده".‏

أتاح لنا صوت الراوي تأمل تجليات احتضار البطل! وتدرج موته، فتابعنا ضعف حركة عينيه اللتين "تقفزان من ذكرى إلى أخرى، معيدتين رسم الحاضر" وكيف تغيّرت مع ملامسة الموت زاوية الرؤية للأشياء والذكريات!‏

وكذلك عايشنا تلك اللحظة المصيرية في حياة المحتضر حين يبدأ نبض الحياة (القلب) بالتوقف فـ "كأن الزمن يتوقف أيضاً، ويتوقف هواء الحياة".‏

هنا يتغلغل الراوي إلى أعماق المحتضر، لينقل إحساسه بالزمن وكيف فقد معناه مع توقف القلب، ولم يعد هواء الحياة من نصيبه، فقد أبعدته عنه يد الموت!‏

بدأ المحتضر يضيق ذرعاً بعذاباته، لهذا بات يستعجل الموت، كي يتخلص من أشباح تلاحقه، ولم يعد يستطيع الخلاص منها، وبذلك تحولت حياته إلى سجن رهيب، تملؤه الأشباح!‏

حاول المؤلف أن ينوّع في رصد مشهد الاحتضار، فلم يكتفِ بتقديمه عبر لغة السرد، بل لجأ إلى اللغة المشهدية (الحوار) "أحس أن يدين تلمسان كتفيه، فقوّم جسده مصلباً إياه، وقالت داميانا...‏

إذاً يأتي صوت الخادمة (داميانا) ليصله بالعالم الخارجي، ويذكره بحاجته إلى الطعام، لكن (بيدرو) كان قد حزم أمره، وقرر مغادرة هذا العالم، لهذا يخبرها برحيله، ويؤكد لها عزمه عن طريق تكراره جملة "ها أنا ذاهب".‏

كذلك أَضفى وجود الخادمة حيوية، إذ منح (بيدرو) إمكانية الحركة واختبار قواه "استند على ذراعي داميانا وحاول المشي وهوى بعد بضع خطوات وهو يتضرع في داخله. دون أن يقول كلمة واحدة.‏

وارتطم بالأرض ارتطامة جافة، وأخذ ينهار، وكأنه كومة من حجارة" (14).‏

عايشنا هنا مشهداً سينمائياً، فتجسدت لنا تلك اللحظة الحرجة لمفارقة الحياة (استند، حاول المشي، هوى، ارتطم، أخذ ينهار).‏

يلفت نظرنا تضرع (بيدرو) الصامت، دون أن ندري المبتغى من تضرعه، مما يحفّز أفق التوقع لدى المتلقي، فيتساءل هل يدعو ربه أن تكون في هذه السقطة نهايته؟ أم أنه يتضرع من أجل العفو عما ارتكب من أخطاء وآثام؟‏

وقد حرص الروائي أن يكون التشبيه "وأخذ ينهار كأنه كومة حجارة" هي آخر ما يتلفظ به الراوي، ليثبت بؤس المصير الإنساني الذي ينتظر الجميع، فتتحول حياة إنسانية بأكملها إلى مثل هذه الكومة، لهذا جاء اسم (بيدرو الذي يعني الحجارة والأرض) منسجماً مع هذا المعنى! فرغم جبروته وعدوانه حوّله الموت إلى كومة حجارة!‏

كأن (رولفو) في هذه الخاتمة يريد أن يذكر المتلقي بالمصير الذي ينتظره في نهاية حياته، لهذا يحفّزه على التأمل في هذا المصير، لعله يحاول تنقية حياته من الأذى! ويبحث عما يمنحها معنى!‏

يجدر بنا أن نلفت النظر إلى أننا لم نعايش مشهد الاحتضار في الخاتمة فقط بل في المتن الروائي، حين تحدث الراوي البطل (خوان بريثيادو) عن احتضاره دون أن نلمح تكرار مشهد احتضار (بيدرو) فهنا عايشنا افتقاد المحتضر للهواء، ومعاناته من همس الأشباح، كما عايشنا احتضار (سوزانا) بصوت الراوي تارة، وعن طريق حوارها مع خادمتها ومع (الأب رينيريا) فتعرفنا على الطقوس المسيحية المصاحبة له.‏

هنا لابد أن يتساءل المتلقي: لِمَ عني (رولفو) بمشاهد الاحتضار وبعالم الموتى؟ أ بسبب مقتل والده وهو ما يزال طفلاً؟ أم معايشته لاحتضار أمه أو أحد أحبائه؟ ترى هل كانت هذه المشاهد ترياقاً له ينقذه من ذكريات تجارب مؤلمة!؟ هل كان الإبداع تفريغاً لتلك الآلام الداخلية التي عاناها بسبب تجارب مرت معه في طفولته!؟‏

مهما يكن نعتقد أن (رولفو) بتقديمه عالم الموتى ومشاهد الاحتضار قد افتتح فضاء جديداً للرواية، سيترك أبلغ الأثر في الرواية العالمية وخاصة في رواية أمريكا اللاتينية، فقد لاحظنا أثر ذلك لدى الروائي (ماريو فارغاس يوسا) خاصة في خاتمة روايته "الفردوس على الناصية الأخرى" (15) إذ عايشنا مشهد اللحظات الأخيرة للفنان الفرنسي (غوغان) لكن (يوسا) امتلك بصمة خاصة به، فلم نجده أسير مشهد احتضار (بيدرو بارامو).‏

في الختام يمكننا القول إن هذه اللغة التي أرّقها الموت والإحساس بالإثم هي التي شكلت جماليات رواية (خوان رولفو) ومنحت إبداعه بصمة خاصة! وأدت إلى سيطرة عالم الموتى على فضاء الرواية بصورة مدهشة!‏