عرض مشاركة واحدة
قديم 11-25-2020, 05:00 PM
المشاركة 14
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي رد: رحلة امرأة تخطّت الستين
( 2 )

( أخاف من النملة )
وقبلَ أن تغادرَ القابلة ُ بيتـَنا ، كان اسمي قد حضرَ واتـُّفقَ عليه , بإشارةٍ من القابلة ، فأسموني ناريمان ، وفي اليوم التالي سجلني أبي في دائرة الأحوال المدنية ، اسم المولود : ناريمان ، اسم الأب : محمد شافع ، اسم الأم : حنيفة المشهورة ب نهلة .وتاريخ الميلاد : الساعة الحادية عشر ليلة 1959/2/15م

وبعد سنوات وفي أول يوم لي وأنا أستعد للذهاب إلى المدرسة سألتُ أمي : لماذا أسميتموني هذا الاسم ؟ وماذا يعني ؟ قالت : يييي(1) ألا يعجبك اسمُكِ ؟ اسمُك أحلى اسم بالدنيا ، أصله فارسي، ومعناه الجميلة ذات القوام الممشوق كما أن ناريمان اسم مذكر عند الإيرانيين ويطلق على بطل أسطوري هناك.وتسمّت به زوجة الملك فاروق ملك مصر ، قالت هذا ، وهي تقبض على خديّ تداعبني بإصبُعيها تقرصهما.وتقول لي : انتبهي أريدك الأولى .

أرضعتني أمي الحنان ستة شهور - رغم ضعفها - فحصلتُ على ما يحتاجُه أي رضيع من صدر أمه من حنان وغذاء ، حيث أنّ جسدها بدا ضعيفاً بسبب الحمل المتكرر .
وبعد سنتين لم يَعدْ الزحفُ وسيلتي للتنقل من مكانٍ إلى آخر ، بدأتُ أدبُّ على الأرض مشياً وأختاي يعلمانني كيف أمشي ، وكلّما تعثـّرت وسقطت أرضاً تأخذ هيام بيدي وتساعدني على الوقوف مرة أخرى ، وأعاودُ الكَـرّةَ بلا ملل ، وعندما بلغت من العمر أربع سنوات بدأتُ أشارك أختيّ "حنان وهيام" في اللعب كانت أحلاها لعبة ( بيت بيوت ) (2) وطال لساني وأصبح - على رأي أمي - بأربع شُعب فصرت أشارك بالنقاش والمشاجرات الكلامية ،
حدثتني هيام كيف بدأت أمشي وكيف تعلّمتُه وكانت تختلط روايتُها بالضحك والقرقرة ساخرة مني ، وكأنها نزلتْ من بطن أمي تمشي على قدميها !، كان هذا الدرس الأول في حياتي وهو ( الطفل لا يمشي من أول محاولة ) ، كنا نبتلع نهار الصيف بطوله ما بين لعب ومشاجرة وعندما يحين موعد النوم ، تتدحرج البطة ، هذا هو لقبها ، لأنها كانت سمينة وقصيرة ، تسبقني إلى الفراش لتأخذ مكانها فألحق بها لأنام تحتَ قدميها ، فالإمكانيات لم تكن تسمح بأن يكون لدي فراش منفرد ، فكنتُ وإياها ننام على ذات الفراش بشكل متعاكس كسمكتين متآلفتين في علبة السردين ، هنا تعلمت المشاركة ، وكيف أقتسم الشيء مع الآخر من غير تذمر . فلم تكن رجلاها تؤذيني عندما ترفصني بهما أثناء النوم .
ولما شبت أعوادنا ، سرد الحكايات كان وسيلةً للتسلية والضحك ، كنا نجلس في حضير(3) بيتنا الأرضيّ بعد أن نُنهي عمل البيت وأمي تجلس معنا تحدثنا عن طفولتنا ، فقالت لي : سأحكي لك حكاية النملة ،
ذات مساء صرختِ فجأةَ وبقوةً وكنتِ ما زلتِ بالكوفليّة (4) حملتـُك ألملم فزعك المفاجئ ، وصرتُ أهزّك وأهدهدك بين يدي وأغني ( هيه هيه .. نني ننّي ) (5) ، قائلة في نفسي لعلّك تريدين أن تُحملي لتشعري بالدّلال وأنا أنظر في وجهك والدموعُ تملأ خديك ، فصراخك لم يكن مألوفاً ولا عاديّاً ، قلت لعلّه المغص الذي يصيبُ الصغار، لكن صراخك لا يدلّ على علةٍ بدنية ، ولما استمرّ صراخك بلا انقطاع ، دبَّ الرعب في قلبي خوفاً عليك ، فأسرعتُ إلى جارتنا جليلة علّها تفهم ما يجري ، فهي تكبرني بكثير ، وضعتْكِ على السرير وصارت تخلع عنك الملابس طبقة تلو الأخرى بسرعة وتتفحّص جسدك بكفتي يديها وعينيها ، وإذ بنملةٍ تقبض بأسنانها على إصبع رجلك الصغير ، أزاحتها بسرعة ، فتوقفتِ عن الصراخ ، وما زالت نبضات قلبك تتصاعد .
منذ ذلك الوقت وبعد أن سمعتُ هذه الحكاية من أمي وأنا أكره النّمل بكل أنواعه ، وأخاف منه ، حتى أنني أرتجف إذا قرأت كلمة ( النملة ) مكتوبة على سطر ،
وأذكر جيداً درس ( النملة العنيدة ) وأنا في الصف الثالث الأساسي ، يحكي عن النملة العنيدة التي تحمل حبة القمح بأسنانها وتصعدُ الصخرة ، فتسقطُ وتعاودُ المحاولة مرات ومرات حتى تصلَ إلى الهدف ، ومع كل صعود لها ونزول كنت أشعر أنها تتبختر على جسدي وأنا الصخرة البلهاء ، وعلى الرغم من الإحساس بالقشعريرة - الذي ينتابني كلما قرأت الدرس – إلّا أنني تعلمتُ جديداً ، العناد والتصميم ، وأنْ ليس بالضرورة أن يحصلَ المرءُ على الدرس ممنْ يحبُّ ، فقد تتلقى درساً ممن لا تحبُّ، أو ممن تكره.

(1) ييييي : باللهجة الفلسطينية ، تعني لا عليك
(2) بيت بيوت : لعبة شعبية فلسطينية ، خاصة بالبنات ، تلعبها الصغيرات وكأنهن جارات فيقمن بزيارة بعضهن بعضاً وتقدم كل واحدة بالضيافة اللازمة للضيفة ، وأحياناً تحمل إحداهن لعبتها معها .
(3) حضير : كلمة عامية تعني ساحة البيت الصغيرة .
(4) الكوفليّة : بطانية صغيرة خاصة بالطفل الرضيع ، يُلف فيها بإحكام .
(5) هيه هيه ، ننّي ننّي كلمات ترددها الأمهات الفلسطينة لكي ينام الصغير .