عرض مشاركة واحدة
قديم 01-02-2013, 12:59 PM
المشاركة 52
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الأرواح الميتة

http://abuwabdallh900.googlepages.com/DeadSouls.jpg

عندما قرأ بوشكين الفصول الأولى من الأرواح الميتة, شاهده غوغول وهو يعبس وجهه شيئاً فشيئاً, وهو الذي كان يضحك عالياً عندما يقرأ أعمال غوغول. أصبح في منتهى القتامة عندما أكمل القراءة, وما إن انتهى حتى قال بصوت مسموع: يا إله السموات .. ما أتعس بلادنا الروسية!

نستطيع أن نقسم الأرواح الميتة إلى قسمين, القسم الأول هو القصيدة, والقسم الثاني هي الأزمة التي عصفت بالقصيدة. كانت حياة غوغول مكرسة لعمله الضخم الذي أسماه القصيدة. كان لهذه القصيدة هدف ورسالة واحدة, هي كشف معالم سر الحياة الروسية, ورسالة روسيا في التاريخ المعاصر. ولكن ما هي طبيعة هذه الرسالة التي يريد غوغول أن يكتب عنها؟ إنها ليست بيان سياسي, وإنما أعمق من ذلك بكثير, كان هدف غوغول هو فضح الإنحلال الأخلاقي والروحي الروسي في الحياة المعاصرة عبر نظام القنانة. بينما كان هذا النظام يسير على قدم وساق, هز غوغول أسس هذا النظام وشن هجوماً عليه. بطل الرواية, أو البطل الروسي كما يسميه دستويفسكي: بافيل تشيتشيكوف, ينتقل في رحاب الأرض الروسية من أجل هدفه الوحيد: شراء الأرواح الميتة ليتاجر بها. تبدو الفكرة ما يمكن أن يوصف حالياً بالواقعية السحرية - نفس الثيمة التي يكتب فيها أدباء أمريكا اللاتينية -. ليس هذا بشيء غريب, ف غوغول هو مؤسس هذا المذهب الواقعي الأدبي, والذي تفرع منه لاحقاً الواقعية السحرية والواقعية الرمزية, والواقعية الخيالية.

يبدأ غوغول في القسم الأول من الرواية بتصوير قصة عمل تشيتشيكوف ومقابلاته للإقطاعيين بهدف شراء الأرواح الميتة للفلاحين الذين في حوزتهم, وذلك لكي يقوم بعد شرائها بتسجيلها بعقد تمليك كما لو كانوا أحياء. وبناء عليه يستطيع أن يحصل على قرض من مجلس الوصاية مقابل رهن هذه الأرواح, ويستطيع بذلك أن يصبح مليونيراً. من خلال مقابلات تشيتشيكوف لخمسة أنماط من الإقطاعيين يعري غوغول بشدة الوجه الحقيقي لهؤلاء الذين تجردوا من كل ما هو إنساني, والذين يظهر عالمهم كعالم غريب يسوده الخداع والنفاق والفقر الروحي, رغم أن الشخصيات الإقطاعية في الرواية تظهر باستقلالية عن بعضها إلا أنها تلتقي جميعاً في تجسيدها للجشع في أبشع صوره, واللإنسانية في منتهاها. بعد أن يتم بطل الرواية إتمام الصفقات المزمعة, يأتي القسم الثاني من الرواية, وهي المرحلة اللازمة لإتمام الصفقات وتسجيلها ورهنها. وهنا يصطدم البطل بالعالم الثاني الذي يحاول غوغول كشفه أيضاً بالرواية, ألا وهو عالم الموظفين والجهاز الإداري البيروقراطي .. وكل هؤلاء, كل شخصيات المرحلة الأولى والثانية من الرواية, يمثلون الأرواح الميتة التي وصلت إلى الدرك الأسفل من النذالة والحقارة.

أسلوب كتابة الرواية متنوع رغم قتامة الفكرة و الموضوع. عبر شراء الأرواح الميتة يصور غوغول واقعه الروسي المعاصر. وهو أبرز مثال على فكرة الواقعية النقدية التي أرسى دعائمها. الحدث غير طبيعي - شراء الأرواح - وعبر هذا الحدث يرسم غوغول صورة للواقع الروسي المستعبد والمشغل للفلاح, والتي كانت علاقته بالملاك الإقطاعيين التناقض الرئيسي في ذلك العصر. لم يكن الإهتمام في الرواية منصباً على تقديم بطل نموذج, ولكن, عبر واقعيته النقدية, يفضل غوغول تقديمها على أنها نمط سائد وواقعي في المجتمع.

استخدم غوغول الضحك كوسيلة لفضح الحياة الواقعية وكشف عيوبها, وإبراز تفاهة الحياة التي كان يعيشها السادة الإقطاعيون. أشار غوغول إلى ذلك وهو يتحدث عن خصائص روايته, الحياة الضخمة التي يتناول تصويرها تبرز من خلال الضحك المرئي للعالم, والدموع الغير المرئية والخفية بالنسبة له. سخرية غوغول تحتل كل ركن من أركان فصول الرواية. ف مثلاً, أحد الشخصيات كان بخيلاً جداً إلى درجة أن مروره في شارع ما يعني تنظيف الشارع بكل ما فيه, وليس بحاجة للتنظيف. كان يسرق ويأخذ حتى الأشياء التافهه من الأرض, ويدعي لاحقاً أنها ورثها من أبائه وأجداده. وهناك شخصية أخرى ثانية - نوزدريف - يسخر من خلالها غوغول من الطبقة الراقية وألعاب القمار والمراهنات. نوزدريف يجد سعادته الكبرى في اللعب والسكر إلى درجة الإنقلاب على أعز أصدقاءه, ولعل أشهر مثال على السخرية في رواية غوغول هي في فصل الحفلة الراقصة وشتائم نوزدريف تجاه بطل الرواية :

"إيه يا ملاك خارسون العظيم, هل مر عليك عهد طويل وأنت تتاجر بالأرواح الميتة التي انتقلت إلى رحمة الله؟ اسمع يا تشيتشيكوف, أني أقولها لك بروح الصداقة المخلصة, إن كل الموجودين هنا ليحبونك حتى سعادة حاكم الولاية, ولكن الأمر لو كان بيدي, لشنقتك بيدي, أقسم بالله, وإني لأفعل ذلك. هل تصدقني يا صاحب السعادة, إن هذا الإنسان طلب مني أن أبيعه ما لدي من الأروح الميتة, كان الضحك يقتلني ويا للعجب! ما أكاد أصل إلى هذا البلد حتى أسمع أنه أشترى أرواحاً بثلاثة ملايين روبل! لقد ساومني على أرواحي الميتة! اسمع يا تشيتشيكوف, إنك لخنزير, أقسم بالرب, أنت خنزير صرف. لن أدعك تفلت من يدي, لا , إلا إذا علمت ما هو معنى شراء الأرواح الميتة. استمع إلي, يجب أن تخجل من نفسك, أقول هذا لأنك أوفى الأصدقاء إليّ, هل تعلم ياسعادة الحاكم, لو جئت تسألني يوماً وقلت : استحلفك بشرفك أن تخبرني أيها أحب إلى قلبك, أباك أم تشيتشيكوف؟ قلت : تشيتشيكوف, أقسم بالله على ذلك!"

هناك ثيمات ورموز جعلت من الرواية عمل روسي كامل, مثل موضوع اللغة الروسية عند الطبقة الرفعية, وكيف أصبحت تستخدم للشتائم بشكل حصري, أما الكلمات الرائعة والغزل وكلمات العشق والحديث في السياسة, فيجب أن تُستخدم الكلمات الفرنسية والألمانية والإنجليزية التي أصبحت تعبر عن روح العصر والجمال. هناك ثيمة مشتركة غالباً ما يستخدمها الكتاب الروس في أعمالهم, أقصد الحفلات الراقصة, تولستوي استخدم هذه الثيمة في آنا كارينينا بشكل راقي ومذهل, ودستويفسكي استخدمها كذلك في الشياطين بشكل ساخر وعنيف, أما غوغول, فشن هجوماً عنيفاً على هذه الحفلات التي تقام في قصور حكام الولايات والطبقة الراقية. بقراءة فصل الحفلة الراقصة بإمكاننا أن نعرف لماذا قال بوشكين أن روسيا متوحشة, ولماذا قال الناقد الشهير بيلنسكي أن الأرواح الميتة عمل جبار لا مثيل له في الآداب الروسية. لن أخرج عن نطاق الحفلة الراقصة لأنها تستحق الكتابة عنها أكثر, هناك صوت واحد بالتأكيد في فصل الحفلة الراقصة, هو صوت بطل الرواية تشيتشيكوف. ولكن هناك صوت ثاني, هذا الصوت مخفي لا يظهر للعيان إلا إذا أعلن عن نفسه, هو صوت المؤلف بالتأكيد, ولكن إن لم يعلن عن نفسه, هل بالإمكان أن نقول أن هذا الصوت هو لصوتين وليس صوت البطل فقط. أعترف أن تحليل إيكو للأصوات الروائية استحوذ على تفكيري وأنا أقرأ في العمل الأدبي, أحاول اكتشاف الأصوات لأعرف كم صوت يتشارك في الحديث الدائر, وهل المؤلف هو أحد المشاركين في الصوت أم لا, في أحد صفحات فصل الحفلة الراقصة مونولوج داخلي للبطل يلعن فيه الحفلات الراقصة ويشن هجوماً عليها. ما لفت انتباهي هو أن تشيتشيكوف أصبح بصورة أو بأخرى مدافعاً عن الفلاحين العبيد, وهو في الرواية أبعد ما يكون عن خط الدفاع عنهم. إنه يشتري الأرواح لكي يكسب من ورائها, هل هذا الصوت دخيل على النص أم ثغرة وقع فيها غوغول؟ في الحقيقة أعتقد أن النص سليم لا تشوبه شائبة, وليس هناك ثغرة في النص كذلك, ولكن اختلط صوت المؤلف بصوت تشيتشيكوف.

" سحقاً لمن اخترع الحفلات الراقصة! أي إنسان يمكن أن يشعر فيها بالبهجة الخالصة؟ العوز والفاقة ماثلان في كل بقعة من هذه الولاية, والناس يقيمون الحفلات الراقصة! وهؤلاء النسوة السخيفات اللواتي يرتدين أغلى الملابس! إن كل واحدة منهن لا تحمل أقل من ألف روبل على كتفيها, ألف روبل جاءت من عرق الفلاح المثقل عبؤه بالضرائب, أو ما هو ألعن من ذلك ... الخ "