عرض مشاركة واحدة
قديم 12-14-2017, 07:39 PM
المشاركة 44
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
القصص المشاركة في مسابقة القصة لمنابر ثقافية اصدار 2017 :
عريس من العيار الثقيل

القاص سمير الاسعد

تجمعنا طاولة الإفطار كل ليلة آخر جمعة في رمضان، ونتحلق حولها كل في مكانه المعهود لا يتغير رغم مضي السنين. كنا نحن أنفسنا نلتقي في بيت العائلة. ورغم مضي العمر الذي أخذ منا الكثير وأعطانا التجاعيد والشعر الأبيض وأمراض السكر والروماتيزم والضغط، الا أن روح الشباب ما زالت تغلفنا ونعلق عليها الآمال في التحمل والبقاء. الأخت الكبيرة فاطمة تميل دائما الى الصمت، لا تتكلم كثيرا رغم زعامتها وضبطها لشؤون المنزل منذ وفاة الوالدين. لم تتزوج رغم قائمة طويلة من الخطاب الذين طلبوا يدها الا أن أيا منهم لم يعجبها واستساغت عيشة العزوبية، وقضت معظم أيامها على سطح المنزل تراقب المارة وتخيط الملابس وتسمع كلام الناس. والصغيرة مديحة دائمة التقطيب والتكشير بعد طلاقها، رغم ما كانت تتميز به من الفكاهة وحب النكت. تعيش في بيتها بعد أن غادرها زوجها وتزوج من أخرى. لا تحب المديح أو عبارات الثناء بل في طبعها خشونة وتصل إلى ما تريد دون مواربة. وربما كان هذا ما شجع طليقها على التخلص منها بسرعة خاصة بعد أن تأكد أنها عاقر لا تلد .
الأخ الأكبر يأتي متأخرا في كل مرة وتعزف نفسه عن الطعام رغم شراهته في الأكل التي تعودنا عليها من صغرنا. الأخ الأصغر أصبح له ذوق سيء في لباسه رغم شياكته المعروفة وحسن هندامه.
بعد الإفطار نجلس حول جهاز التلفاز نتابع حلقات مسلسل وادي الذئاب الذي نشاهده منذ سنوات طوال. مديحة أكثرنا تعلقا به وأصغرنا يشاهده على مضض .
في رمضان الحالي بدا على وجوهنا الكبر، ورغم الابتسامات وعبارات المجاملة إلا أننا لم نستطع أن نخفي عدم رضانا عن هذا الاجتماع السنوي رغم ما يتخلل السنة من فرص نرى بعضنا البعض ونلتقي ولو لدقائق معدودة . لقد تربينا على الوحدة وعلى المصلحة الذاتية الشخصية بعيدا عن المصلحة العامة للأسرة. كان أبونا يعمل تاجرا للخردوات ويقضي معظم وقته خارج المنزل، والأم مغرمة بجلسات النساء في بيوت الجيران . لم نكن نراها كثيرا وكبرنا كل لوحده .
أمّا أنا .. الوسطى.. كنت الأجمل والأكثر دلالا عند أمي، الا ان أبي كانت له وجهة نظر أخرى عني، ففي اليوم الذي ولدت فيه، خسر تجارته وكسرت رجله في نفس الليلة عندما وقع عليها لوح زجاجي وأصابها بالشلل.
- هذه البنت نحس. لعنة الله على اليوم الذي جاءت فيه.
كانت أمي تحاول دائما إقناعه بعدم وجود النحس، وان قضاء الله هو الغالب على أمره، ونصيبه محتوم لا دخل لبشري فيه دون جدوى.
كان أبي عصبيا وعنيدا جدا لا يحترم رأي النساء ولا يوليهن اهتماما بقدر ما كان يبحث عن المال الذي يستخدمه في الاستمتاع بشهواته المتعددة.
كان خلافه مع أمي يزداد كلما كبرت. كان يضربني كلما يراني العب في البيت ويحاول إحراجي دائما أمام الغرباء. لم يتأثر لدموع أمي او توسلاتها، بل حرمني من التعليم بعدما أنهيت الصف الخامس ابتدائي.
- سأزوجها لأي كلب يتقدم لخطبتها عندما تبلغ السن المناسب للزواج.
عانيت من الوحدة وهجرني إخوتي واستثنوني من كل شيء، وكانوا دائما يتندرون على لساني الذي أصبح ثقيلا تخرج منه الكلمات تجر بعضها بعضا في مزيج من التأتأة وعدم التركيز.
كانت لعبتي المفضلة عيدان الثقاب التي كنت اجمعها واصنع منها أشكالا عديدة. كانت هذه اللعبة الوحيدة التي يسمح لي بها أبي لعل وعسى ان احرق نفسي ويتخلص مني.
وفي ذلك اليوم الذي جاءني فيه عريس هرم يكبرني بثلاثين سنة على الأقل ومطلق، وافق أبي دون مشورة من احد. وفي يوم الزفاف اسرّ له أبي بسر النجاح في زيجته الجديدة- عروس غبية منحوسة لا تفهم الا بالضرب والاهانة، ودون ذلك يفلت عنانها ويصعب السيطرة عليها. عندما سئل عن ذلك بعد وقت برر خوفه من ان افضحه أمام أهل زوجي الغريب عن العائلة.
وهكذا كان ..عندما يريد زوجي ان يستمتع ويشغل وقته، يحضر حبلا محشوا بقطع رصاص صغيرة الحجم ويضربني به. وكان علي ان لا اصرخ وان اقبل يده واطلب منه السماح واشتم نفسي بما كان يردده بلسانه القذر.
بدأنا بالطعام وكلنا في عالمه الخاص، كنت أعيش بالمنزل بعدما جاءت رحمة الله تعالى وشنق زوجي نفسه بالخطأ. لم ارثه بشيء ورجعت الى دار أبي بعد ان عملت في مشغل لصناعة الأحذية.
والآن وبعد ان انهينا طعام الإفطار وجلسنا نتناول القهوة تنحنح أخي الكبير ليشد انتباهنا إليه وهو يوجه الخطاب لي:
- سائدة.. تقدم لخطبتك عريس له ظروف خاصة، له من العمر ثمانون عاما ولديه ثروة كبيرة. يعيش وحيدا بعد ان ماتت زوجته. يريدك ان تخدميه في ما تبقى له من العمر..أعطيته كلمة رجل بصفتي مسئولا عنك واعلم بمصلحتك.
لم اسمع بقية الكلام وغابت عني الوجوه والكلمات وأنا أبحلق بصورة أبي المعلقة على الجدار وأنا أراه يهز رأسه برضا وكأنه يشير بفضله على ما سيؤول لي من ثروة وجاه وعز. ولو كان حيا لطالبني بنصيبه او أخذه مني غصبا.
وكأنما فتحت يأجوج ومأجوج، انسلت الكلمات من كل حدب وصوب من أفواه الجميع. لأول مرة أرى اهتماما بهذا القدر في أمر يخصني. وبدأت تعليقات غريبة تركزت معظمها في ما قد يكون مفاجأة سارة للجميع من ترك زوجي لي ثروة تكون من نصيبي. الغريب ان إخوتي بدأوا يفكرون في كيفية استغلال المال القادم بل تقاسموه فيما بينهم حتى دون ان يحسبوا حسابي فيه.
سهرنا حتى الحادية عشرة ثم انسحب الجميع الى بيوتهم وتسللت الى غرفتي دون ان أمد يد المساعدة لأختي كما هي العادة في ترتيب المنزل.
لم اعتد على التفكير والتحليل والتخطيط وعقلي كان على (قدي) كما يقولون، لا اذكر ان أية فرصة أتيحت لي كي اتخذ قرارا خاصا بي، وكنت أنفذ كل ما يطلب مني دون مناقشة او اعتراض. في تلك الليلة نمت كما في الليالي السابقة غير مشغولة البال وكأن الأمر لا يعنيني.
في صباح اليوم الخامس بعد العيد اصطحبني أخي الى المحكمة وعقدنا القران على ان اذهب في اليوم التالي الى بيت عريسي. وفي الليل جاء أخي وقدم لي ورقة وضعت بصمتي عليها دون ان اعرف ما بها كوني لا اعرف القراءة او الكتابة باستثناء اسمي الأول.
أوصلوني الى بيتي الجديد مساء اليوم التالي وهناك رأيته عن قرب، عجوز يمشي بصعوبة ويستعين بعكاز خشبي قديم، طويل القامة، محني الظهر، مغضن الوجه واليدين ويلبس نظارة طبية سميكة، قدميه كبيرتين تتقدمها أظافر سوداء طويلة مقوسة وتغلفها شقوق سوداء منفرة. كانت بداية محبطة تختلف عن بيته الأنيق. ما وجه المقارنة وأين الأموال التي يتحدثون عنها؟
قضيت في خدمة زوجي سنة وسبعة أشهر طويلة قضيتها بالردح والتعب بعد ان تدهورت صحته وأصبح غير قادر على المشي او الكلام. وفي ليلة شتاء باردة توفي بين يدي وأنا اسقيه الحليب بملعقة بلاستيكية صغيرة.
عدت الى بيت العائلة انتظارا للذهب والمال الذي اهتمت به فاطمة كثيرا، ولطالما استعجلتني على الاتصال بأخينا الأكبر لإكمال إجراءات الإرث. ثم اتخذت قرارا بزيارته في بيته. وعندما عادت كانت شفتاها متبرمتان ووجها يميل الى السواد واكتست خدودها بالحمرة القاتمة. لم تكلمني ودخلت الى غرفتها
وفي الصباح أيقظتني بهزات عنيفة بعد ان سحبت الغطاء عني ورمته الى الأرض.
- قومي يا منحوسة. أخوك اخذ أجرته من المحروق بعد ما بصمك على تنازل عن كل حقوقك. كنت مجرد خادمة. استغلنا جميعا وإخوتك الباقين استيقظوا الآن من سباتهم، تركتهم وقد عاد لهم شبابهم.
لم اشغل بالي كثيرا فيما حدث، أخرجت عيداني المفضلة ورحت العب فيها عسى ان اركب شكلا جديدا يعيدني الى عالم تغلب عليه براءة الطفولة.
بقلم: القاص سمير الاسعد