عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2012, 12:12 AM
المشاركة 226
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
وقراءة فى رواية فتحى غانم: أحمـد وداود السلام المستحيل


نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
حلمى محمد قاعود
[1]
ولد "فتحى غانم" بالقاهرة عام 1924 لأسرة بسيطة، وتخرج فى كلية الحقوق جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا) عام 1944، وعمل بالصحافة فى مؤسسة "روزاليوسف"، ثم انتقل إلى جريدة "الجمهورية" أو مؤسسة دار التحرير رئيسًا لمجلس الإدارة والتحرير، ثم عاد مرة أخرى إلى "روزاليوسف" حتى وفاته عام 1999 عن خمسة وسبعين عامًا.
وقد أصدر عددًا من المجموعات القصصية والروايات، منها: مجموعة "تجربة حب" عام 1957، ورواية "الجبل" 1959 (أول رواية صدرت له)، ورباعية "الرجل الذى فقد ظله"، و"الساخن والبارد"، و"الأفيال"، و"زينب والعرش"، و"بنت من شبرا"، و"حكاية تو".. وقد ظهر بعضها فى مسلسلات ناجحة على شاشة التليفزيون، وقد لقيت هذه المسلسلات إقبالاً ملحوظًا، خاصة "زينب والعرش" التى تناولت الحياة السياسية فى فترة الستينيات، وكان معظم أبطالها من الصحفيين.
وقد ارتبط "فتحى غانم" ببعض التنظيمات السياسية، أبرزها "التنظيم الطليعي" الذى شكَّلته الحكومة فى فترة الستينيات لحماية النظام، ويبدو أنه كان مضطرًا إلى ذلك، فطبيعته كانت تميل إلى الاستقلال والتأمل والتفكير العميق، وهو ما يتناقض مع واقع التنظيمات السياسية من حركية واندماج وبراجماتية.
[2]
وتتناول روايته "أحمد وداود"، موضوعًا مهمّاً يرتبط بصراع الوجود بيننا وبين العدو النازى اليهودى فى فلسطين المحتلة، ويلاحــظ أن الرواية صــدرت فى فتــرة حساســة من تاريخنــا المعاصر، حيث ظن فريق من الناس أن توقيع بعض الدول العربية لاتفاقيات أو معاهدات مع العدو النازى اليهودى، قد هيأت المجال ليعيش العرب واليهود فى سلام، ويعود اللاجئون الفلسطينيون، إلى وطنهم السليب، وتنتهى مأساة الشعب الفلسطينى التى استمرت قرابة نصف قرن.
ولكن الواقع أخلف هذا الظن، فقد كشف اليهود عن وجههم الحقيقى الذى يحمل ملامح القبح والتعصب والجشع والدموية والرغبة فى الهيمنة على المنطقة العربية كلها، فضلاً عن عدم التسليم بحقوق الشعب الفلسطينى أو الموافقة على تنفيذ القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن الدولى أو الجمعية العامة للأمم المتحدة.
تكشف رواية "أحمد وداود" أعماق القبح والتعصب والجشع والخسّة، والتوحش فى الشخصية اليهودية، وتوضح مراحل اغتصاب فلسطين، وأساليب السيطرة عليها، والقفز على القيم الإنسانية، والقوانين الدولية وتكريس العنف والدم وذبح الفلسطينيين بلا رحمة.
يقدم لنا "فتحى غانم" من خلال شخصية "أحمد سالم" المسلم، وشخصية داود بن شالوم اليهودى، صورة مبسطة ولكنها عميقة؛ للصراع الذى فرضه النازيون اليهود على الأمة العربية والإسلامية بمساعدة الغرب الاستعمارى، وذلك عبر العلاقة الحميمة التى كانت تربط بين الشخصيتين منذ الصغر، ثم انتهت هذه العلاقة بالغدر والخيانة والقتل، والاستيلاء على الأرض واستباحة العرض، من جانب داود وأشياعه!
[3]
تبدأ رواية أحمد وداود هكذا..
"عندما قال لى الطبيب إنى مريض.. قابلت ما سمعت بوجوم وبلادة، وكأنه يتحدث عن شخص آخر لا أعرفه، أو ربما أعرفه ولكننى لا أستطيع أن أحدد نوع علاقتى به، ومع ذلك لابد أنى كنت خائفًا بل مذعورًا دون أن أدرى، فقد عانيت من تقلصات فى بطنى، وكنت ألهث وأنا أمشى كما لو كنت أجرى هاربًا من شيء مجهول يجرى خلفى ويطاردنى، وأنا أرفض أن أواجه أن الذى أريد أن أهرب منه قابع فى أعماقي".(ص7)
ومن خلال هذه البداية يقوم الكاتب بعملية تخييل ليوهم القارئ أن ما يكتبه يمتزج بالخيال، "فأنا أكتب لأسجل تجربة شخصية غريبة بعد أن راودتنى تلك الأحلام الليلية ولا أدرى كيف بدأت"(ص7)، ثم يوضح سببًا معقولاً لحكاية هذه التجربة يتلخص فى أن المرض الذى أصابه ويوشك أن يخرجه من هذه الدنيا قد ساعد على إفراز نوع من الهرمونات حولته إلى شخصين. أحدهما المريض، والآخر ذلك الذى تراوده أحلام الليل وهو "أحمد سالم" الذى يعيش فى بلدة "د" على مقربة من القدس "ولا أدرى كيف تتقمصنى شخصية أحمد، ولا أدرى كيف عرفت القدس التى لم أزرها قط، ولكنى واثق أنى رأيتها من خلال هذا الشخص الآخر الذى هو أحمد". (ص7)
وفكرة التقمص هذه، أو انقسام الشخصية إلى اثنين، سبقت معالجتها، ولعل أبرز من لجأ إليها "نجيب الكيلاني" فى روايته "عمر يظهر فى القدس"، و"لويس عوض" فى روايته "العنقاء أو قصة حسن مفتاح"، وهى وسيلة من وسائل التغلب على بعض مصاعب السرد بالضمير الأول ـ أو ضمير المتكلم ـ والتمكن من تقديم صورة أكثر شمولاً واكتمالاً لبعض ملامح الشخصية أو جوانب الحدث. وهو ما نلاحظه على امتداد الرواية التى صاغها الكاتب عبر فصول مرقمة تبلغ ستة عشر فصلاً تتضمن مراحل استلاب فلسطين وذبح أهلها وطرد معظم من تبقى منهم بعد تدمير بيوتهم وقراهم، كما تصور تحول اليهودى الغريب البائس إلى كائن دموى لا يعرف غير القتل والسلب والنهب والإرهاب والترويع!
ويكون الحلم عادة هو الآلية التى يلجأ إليها الروائى لإطلاق عملية التقمص، حيث يتجاوز الزمان أو المكان، ليعبر من خلال الشخصية المتخيلة أو المستدعاة عبر الحلم، عما يريد من تصورات أو أفكار أو مفاهيم، وهو ما يشير إليه "فتحى غانم" فى روايته. "ولقد رأيت فيما يرى النائم، أنى أجرى لاهثًا نحو قريتى "د" فى يوم قائظ وهلع كبير ينهش صدرى، لأن أمى وأبى وإخوتى وأطفالهم يذبحون بالخناجر بينما ينسف الديناميت بيوتنا، ولا أعرف كيف جاءنى النبأ، وقد أتبين تفاصيل ذلك فيما بعد(ص9)".
كما يستعين الكاتب بالخيال الذى يطلق له العنان لينقل القارئ إلى الزمان البعيد والمكان البعيد أيضًا، وها هو ينقلنا إلى الشام والماضى الذى شهد المأساة الفلسطينية من خلال الجّد/الإنسان الذبيح الذى قضى عليه اليهود غدرًا وغيلة:
"وكان خيالى يسرح مع جسده المسجى على الفراش فأكاد أراه ممتدّاً حتى الشام. تلك البلاد التى لم أزرها والتى يسكنها أشقاؤه. وقبل أن أنتبه جذبتنى الأيدى بعيدًا عن فراش الموت بينما ارتفع صوت النواح والبكاء يزلزل أرجاء البيت، ومع غياب جدى لم يعد أحد يذكر شيئًا عن أهلنا فى الشام، ولكن شيئًا ما ظل محفورًا فى أعماقى كما لو كان سردابًا فى نهايته عالم مسحور يقف فيه جدى بحكاياته وأهله وعياله فى الشام. وأصبحت الشام ذلك الأفق الذى يمتد إليه الخيال، والذى تعيش فيه الذكريات المنسية، وذلك الاتساع أو تلك الرحابة التى تهفو إليها النفس عندما تحاصرها هموم الواقع وأحزانه (ص8)".