عرض مشاركة واحدة
قديم 05-13-2012, 03:38 PM
المشاركة 568
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي

(5)
إن هذا التفرد في المواقف كما جسده عنصر الحوار كان له فعله المؤثر في منح الشخصية بُعدها النفسي إلى جانب صدقها الفني . ولعل طبيعة اللغة التي اختارها هؤلاء – بما أتسمت به من واقعية تعنى بمستويات تكوين الشخصية النفسي والعقلي والعاطفي – كانت عنصرًا له أثره في نجاحهم فنيا – بتصوير حقائق الواقع – فهي وسيلة للتعبير عن لسان الحال ، ((فالواقعية لا تقتصر على واقعية الحال ، بل واقعية الحال والمقال جميعًا ، واللغة ليست أداة حوار حسب ، بل هي جزء من مكونات النموذج البشري وعنصر من صميم عناصره )) (24) .
وهذا لا يعني عندهم أن تتحدث الشخصية بلغتها البيئية الخاصة (العامية) بل قصدوا منها إلى أن تعبر عن الواقعية الإنسانية قبل الواقعة اللفظية ، فاللغة العربية الفصحى عندهم تمتلك القدرة على التعبير عن الأفكار والخواطر والمشاعر الرهيفة ضمن إطار الوعي الاجتماعي للشخصيات (( إذ جدير بكل روائي مسؤول أن يفهم أن هناك فارقًا مهمًا بين النموذج الذي يقدمه في الرواية وبين الفرد الحقيقي في الحياة )) (25) ، ومهما يكن الأمر فإن ما تميزت به لغتهم من خصائص فنية وجمالية تجسدت في وضوحها التام وميلهم في الغالب إلى البساطة والليونة والصدق واعتدادها بالفصحى المبسطة أو ما يُسمى باللغة الثالثة بصرف النظر عن الانتماء الطبقي والاجتماعي للشخصيات جعلها ذلك قريبة إلى نفوس القراء ، فضلاً عن اختراقها لحاجز (المحلية) إلى آفاق اللغة (القومية ) في كثير من الأحيان مع أن الفرق شاسع– بتعبير الدكتور محمد غنيمي هلال – بين معنى الواقعية الفني وواقعية اللغة ؛ فالواقعية يُقصد بها واقعية النفس البشرية ، وواقعية الحياة والمجتمع ... ولا ضير أن يُحاور صبي أو عامي باللغة العربية ، على أن لا يكون فيها تكلف أو فيهقة ، ولكن الضرر كل الضرر أن يجري الكاتب على لسان صبي أو عامي آراء فلسفية أو أفكار إجتماعية ، أو صورًا عميقة لا يُبررها الواقع ولا تنصل بالموقف (26) . فلم تعد القضية قضية فصحى وعامية ، بل أصبحت تُطرح باعتبارها قضية لغة فنية أو غير فنية .
ولعلَّ في الحوار الطويل الذي أداره القاص (موفق خضير) بلغته الفصيحة المبسطة بين (سمير أحمد رؤوف ) وبين (بدرية) المرأة الشعبية الأصيلة في (الاغتيال والغضب) ، الشيء الذي يعبر بصدق وعفوية عن طبيعة المشاعر النفسية لكلتا الشخصيتين ، على الرغم من اختلاف المستويات الثقافية والاجتماعية والنفسية بينهما ، وهذا ما دفع بالمواقف إلى التطور لتسهم في نمو الأحداث فيما بعد ، حيث استطاع الكاتب من خلال لغته الفنية أن يمزج بنجاح بين الرؤية الذاتية للشخصية والرؤية الموضوعية للراوي كلي العلم .
" – سمير .. أحقًا أراك بعد هذا الغيبة الطويلة ؟
- ماذا أفعل يا بدرية .. إنها الظروف الصعبة التي أواجهها ومشاغل الحياة والركض وراء لقمة العيش .
- ولو .. يا سمير .. لا تقل ذلك ، كان يجب أن تسأل عنا ..
- حقًا .. حقًا .. والصفح من سمة الأكرمين ..
- كيف أصفح عنك يا لئيم ؟ وضحكت مازحة ..
أجبتها بلطف :
- طبيعة السماح من خلقك .. أنا أعرفه ..
- أنت واحد ممن لا أنساهم في حياتي كلها يا سمير .
- وأنا كذلك .
- ولكنك نسيتنا . أما صاحبك فلم ينسنا .
أنت لا تختلف عنه لولا بعض اللؤم فيك ..
- بدرية .. عبد الرحمن معتقل الآن .
ندت عنها آهة وصرخة ،
- ماذا تقول يا سمير ؟ " (27) .
((وهنا يُجيد موفق خضير في الإغتيال والغضب القص ، ويدل على تمكن واستفادة من التجربة )) (28) .
ويستمر الحوار بهذا الجريان الطبيعي ، دونما افتعال أو تصنع ليعبر بعمق عن حقيقة المشاعر الصادقة فضلاً عن تجسيده الأمين لملامح المستوى الاجتماعي مستعينًا باللغة الفصحى (المبسطة ) – كما هو واضح من التراكيب اللفظية فيه – رغم الهوة الواسعة بين المستويين .
والحوار السابق بين (سعاد) و(خالد) في رواية ( رموز عصرية ) ، هو الآخر جاء محتفظًا بسمته الفنية ، ذلك أنه جاء متلائمًا مع وعي الشخصية وظروفها الزمانية والمكانية ، فضلاً عن إحساسها الباطن باللحظة الآنية وخاصة بعد لقائهما الثاني على صعيد العمل الوظيفي (29) .
لقد أستأثر هذا المنحى الفني في اختيار لغة الحوار باهتمام سائر كتّاب الرواية (الحديثة) فأولوه رعايتهم الخاصة ، كما كان يوفره لهم من فرص متميزة لتحقيق الرؤية الإنسانية الشاملة للواقع ، عبر كشفه لجزئِيات أوجه التطور فيه وعناصر الصراع في حركته المستمرة ، المنظورة وغير المنظورة .
غير أن بعضهم لم تسعفه أداته التعبيرية لاستخدام اللغة الفنية المطلوبة، عندما انطق شخصياته بما يتجاوز وعيها الاجتماعي في (التفكير والتعبير ) .
فظهرت تردد أفكار المؤلف من دروس ورؤى فلسفية عبر لغة ملتوية ومفردات غريبة أعاقت سير الحوار وترابط أفكاره .. وهذا ما حدث للكاتب (نجيب المانع) حيث ظهرت شخصية (حارث) في بعض مراحلها وشخصية (سليم) نفسها ، التي ظهرت وكأنها تتحدث بلسان (أنيسة ) لولا اختلاف الأسماء(30).
وعلى أية حال ، فانه استطاع مشاركة أقرانه في مهمة توظيف الحوار لمهمات فنية ، تمثلت بتعبيره عن بيئات مختلفة ، فضلاً عن قدرته على تحقيق الذاتي والموضوعي في تبرير حركة الصراع المتنامي بين الأصالة والزيف عبر مناجاة النفس البشرية ، المعتمدة على الإحساس الباطني ، الخاصة بالأشياء وبالإنسان ، وما يمور في أعماقه – ضمن دائرة النزعة الإنسانية الرحيبة في أكثر من موقف ، كما لمسنا ذلك في الجزء المقتطع من الحوار الطويل الدائر بين المدعويين في بيت مجدي فخر الدين (31) .
أخيرًا – ومهما تكن طبيعة الحوار ووظائفه ودلالات لغته – فإن ما يمكن قوله هو أن الرواية الواقعية (الحديثة ) ضمن مرحلة البحث قد وضعت لهذا العنصر مكانة خاصة بين بقية عناصر الرواية ، فقد تأثر – عندهم – وبشكل مباشر وحاد بالهدف المحوري الذي أجمع عليه هؤلاء ، والذي سبقت الإشارة إليه .
فقد كان ذلك ضروريًا للاستدلال به عن وعي الشخصية وتفردها فساهم في تطوير الأحداث وبعث الحيوية في المواقف المتميزة ، بشكل حقق معه تصورًا متكاملاً لظواهر الواقع ، معتمدًا التنوع في الرؤية والشمول في آفاق التفكير ، ذلك أن هذه الأعمال حاولت أن تجسد الأوضاع التي تدينها أو التي تتبناها وتعمل على تطويرها ، من خلال عالم غني متنوع من الشخصيات المتفردة والمواقف المتنوعة (حوارًا ووقائع ) ، عالم ينتظمه تلاحم البنية والرؤية على السواء لصالح الاتجاه الذي تمثله لأسباب أدبية وجمالية .