عرض مشاركة واحدة
قديم 05-13-2012, 03:38 PM
المشاركة 567
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
(3)
ومن هذه الزاوية فقد ظهر الحوار وهو يحمل سمة فنية ثالثة تمثلت بمسألة تنوع موضوعاته وتشعب أفكاره عبر مضامين مقصودة ، فإذا سلمنا بأن الموقف الواحد يحتمل أكثر من وجهة نظر ويستلزم تناوله طرق آفاق مختلفة من الأفكار والموضوعات فرضتها طبيعة النقاش والجدل وتقلب الفكرة على وجوهها المختلفة فإن من البديهي أن تظهر أعمال هؤلاء الكتّاب مشحونة بالأفكار الفتية والآراء الصائبة ، ما داموا يهدفون إلى تحقيق التوازن المطلوب بين المستويات المتعددة للشخصية الإنسانية المعاصرة ، وهي تحث الخطى لتكوين شخصيتها الجديدة وهويتها المتميزة ، التي تؤهلها لإبراز دورها (الفاعل) المتفرد ضمن إطار الجماعة لخلق الغد المشرق لها ولمجتمعها ، معبرة عن أشواق الإنسان في كل مكان ، رغم تعدد صور العقبات وتنوعها .
فالحوار الدائر بين (عبد الرحمن ) و (سمير أحمد رؤوف ) في (الاغتيال والغضب ) تناول موضوعات عدّة ارتبطت بوشائج عضوية أبعدت الحوار عن مواطن التفكك والافتعال ، فضلاً عن السقوط في متاهات الوعظية المملة ، لتصل بالتالي إلى حقيقة واحدة تجسدت في تحقيق هدف الكاتب الرئيس في تشكيل معالم الصورة الثابتة للإنسان العربي الجديد ، إذ يبدأ الحوار بينهما من منطقة الصفر حيث يعلن (سمير ) هزيمته الكاملة في المهنة والحب وفي السياسة ومجمل العلاقات والمواقف ويعزوها إلى سوء الحظ ، غير أن (عبد الرحمن ) يحمل معوله ليهدم كل ركامات الخيبة وصخور الفشل والضياع من نفسه ، مبتدئًا بتقويم رؤيته المنحرفة عن تفسير الظواهر، عندما يدعوه للتواصل مع أصدقاء الأمس وأفكارهم ، مواقفهم ..، أخلاقيتهم .. فهم باعثو اليقين بالنسبة إليه .. وينتقلَ الموضوع إلى حال البلد ثم إلى نكسة حزيران وأبعادها على الروح العربية وما ستؤول إليه من نهارات مشرقة ثم ليتحول إلى مستوى جديد من الموضوعات هو أقرب إلى الفلسفة ، ذات النفس الرومانسي (18) .
ولنفس الدافع ظن ( أحمد ) وجماعتة بأن (حسن مصطفى ) في (المبعدون) رومانسي لا يقوى على الصمود والتحمل .
" -.. هل تظنني أنت الآخر رومانسيا ؟ بوغت حميد لحظة ثم هتف :
- في أعماق كلِّ واحدٍ منا أثر للرومانسية . وهذا ليس عيبًا . إننا بشر " .
ثم ينتقل الحوار من الخوف إلى العزيمة ، ثم العمل الذي يعتبره بديلاً من احتمال السقوط في متاهات الغربة ومجاهل الذات (19) .
والحوار الطويل الذي سبقت الإشارة إليه بين (مجدي) وضيفه (دكتور رائد) بمشاركة بقية الضيوف – خرج هو الآخر لمسارب جانبية عما كان يحتمله الموقف ، أوشك معه أن يفقد سمة الترابط والوضوح لولا تدارك القاص في لحظاته الأخيرة ، لِيُعيد إليه خيوطه العريضة ويصلُ به إلى هدفه الرئيس متمثلاً بتحديد معالم الإنسان العربي الأصيل . فقد أنتقل موضوع الحوار من الشعر والأدب إلى طبيعة النظرة الإنسانية للواقع من خلال مستوى الإحساس بأزمة زميلهم المُعتقل (سليم) ، ثم يعود ليتحول إلى بعض سمات الحضارة الغربية (صدقها وزيفها ) وما تفرزه من قيم متضاربة ومتداخلة قد تعمل على ضياع الإنسان في معمعة الآلة .. وهذا ما يقودهم إلى موضوع رابع يتعلق بالمشاعر والأحاسيس (20) .
(4)
هذا التنوع الخلاق في موضوعات الحوار ومضامينه ، كما طرحته الرواية العراقية، أتاح للروائي فرصة الوقوف على المواقف ( المتفردة ) للشخصيات والآراء الحرة المستقلة ، المتطابقة والمفترقة ، المستوحاة من عمق إحساس الفرد بالظروف المادية والموضوعية التي تُحيطه في واقعه المعاش .. وبذلك فقد حقق هؤلاء الكتّاب جانبًا حيويًا وحضاريًا من معالم الشخصية العربية الجديدة بمنحها القدرة على التفكير والتحليل لمجمل ظواهر الحياة ، وبذلك أسهموا في تصحيح النظرة (غير الموضوعية ) لبعض علماء الاجتماع والأجناس البشرية الأوربية ممن أجحفوا بحق العرب عندما اعتبروا العقل العربي ذا مستوى واحد ، يتعامل مع الظواهر من جانبها الحسي فقط (21) .
ولهذا فقد جعل هؤلاء الكتّاب من الحوار وسيلة لإظهار خصائص الشخصية (المتفردة ) وعرض وجهة نظرها المتميزة والمبتكرة إزاء الأحداث والمواقف المحيطة ، وبالتالي فإنه يرسم للشخصية نفسها موقفًا فاعلاً ومؤثراً من مجريات الواقع . ولا شك في أن هذا التوضيح لطبيعة تشكيل الأبعاد الخاصة للشخصية وتقنين حركتها الحرة المستقلة والمبدعة في الواقع ، يكشفها حوارها المتصل عبر طريقة استخدامها للغة وتنسيق الأفكار وزوايا الرؤية ومجالات المواقف الخاصة والعامة .. وبالتالي فإنه يدل على ردود فعل مميزة للشخصية ، وهو من هذه الزاوية يتصل اتصالاً وثيقًا بالمواقف بصورة مقنعة فيطور المواقف ويكشف طبيعة الشخصية –المتحدثة والفاعلة – في آن واحد ، ولهذا فقد لجأ الروائيون إلى تنويع أسلوب الحوار وفق ما يتحمله وعي الشخصية وواقعها الحياتي .
سوى بعض الأعمال الروائية التي سقطت في منزلق (الصوت الواحد) . رغم اجتهاد كتّابها لأبعاد رؤيتهم الذاتية الطاغية عن دواخل مخلوقاتهم الفنية ، كما فعل (نجيب المانع) خلال بنائه لشخصيتي (أنيسة وسليم الصابري) ، اللتين عبرتا بمنطق واحد ولغة واحدة هي لغة المؤلف (الراوي كلي العلم) ، غير أن بعضهم الآخر ممن أسعفتهم قدراتهم الفنية وإحساسهم الحاد بجزيئات الواقع وخصوصياته لم تنزلق بهم أقدامهم عن جادة الواقع المحتمل لمنطق الشخصية وموقفها . فحوار حسن مصطفى في (المبعدون ) أظهر بجلاء الصورة الصحيحة لتفرد الرأي واستقلالية الموقف المبتكر ، مسترشدًا بتجاربه النضالية العريقة ، عندما اقترح تكليف البنت الخبازة (نضال) مهمة القيام بنقل المنشورات المعادية للسلطة وتسليمها لرؤوف في المدينة ، باعتبارها متعاطفة مع المبعدين وبخاصة بعد استشهاد أخيها على يد السلطة ، من ناحية ، وإنها ليست موضوع شك من قبل سلطات الأمن من ناحية ثانية ، وبذلك استطاع المؤلف أن يمنح هذا الموقف المتفرد للشخصية – على الرغم من أنه لم يجد قبولاً حسنًا بين جماعته – مبررات نجاحه الذاتية والموضوعية ، مما أكسبه صفة الإقناع بالواقع وألبسه رداء الصدق الفني ، دونما سقوط في لجة الافتعال والمبالغة ، على الرغم من معارضة الآخرين له (22) .
وحوار (سعاد) في (رموز عصرية) هو الآخر جسد بعمق الموقف الواعي والمتفرد للشخصية عندما رفضت دعوة ( خالد ) للزواج منها عندما التقى بها في احد شوارع مدينتها رغم تقديمه لكل المبررات ، متذرعة بقرب زواجها ، رغبة منها في صرف اهتمامه بمستقبله الواعد غير أنها تلتقي به بعد سنوات في إطار العمل لتكشف له عن حبها وطبيعة الدوافع التي دعتها لاتخاذ مثل ذلك الموقف رغم حبها الجامح له (23) . ولا شك في أن الروايات الأخرى قد أشارت إلى العديد من مواقف التفرد وسيادة الرأي الشخصي (الحر) ، المبني على منطلقات موضوعية ، والذي كان له دوره الفاعل ضمن حركة الأحداث وتطورها الفني في الرواية .