عرض مشاركة واحدة
قديم 05-13-2012, 03:37 PM
المشاركة 566
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
1)
وأول ما يطالعنا به الحوار تعبيره عن الواقع النفسي والشعوري للشخصيات داخل العمل الروائي والذي يمنح القارئ فرصة التعرف القريب على الدوافع الحقيقية التي تغلف مواقف الشخصيات وتفسر انفعالاتها الذاتية إزاء التحديات المختلفة على امتداد الرواية .
وهو من غير شك وثيق الصلّة بالهدف المحوري الرئيس لكتّاب الرواية عندنا ، والذي سبقت الإشارة إليه .
فـ(أنيسة) في رواية (تماس المدن) لنجيب المانع يجسد حوارها مع د. رائد مديرها في العمل حقيقة الدوافع الذاتية الكامنة خلف اتهامه إياها بتشويه سمعة الدائرة جراء علاقتها العاطفية مع (احمد) . فهي عندما وضعته أمام حقيقته اللاأخلاقية ، التي عبر عنها في مواقف دنيئة غير إنسانية تجلت واضحة باستحواذه اللصوصي على رسائلها المتبادلة مع احمد ، مجيبة على اتهامه قائلة : " قبل أن أجيبك يا أستاذ ، أريد أن أعرف كيف تصل مثل هذه الأمور الخاصة إليك ..؟؟ ويستمر الحوار ليكشف أبعادًا أكثر عمقًا في نفسية د. رائد إلى حد التصريح له بنواياه الخبيثة إزاءها قائلة : (( اسمع يا أستاذ ، أنا أمامك الآن هيا انتقم ..- ولماذا انتقم وعماذا . – ها ، - أ عليّ يجوز هذا الكلام ؟؟ . - .. لا تحاولي أن تكوني بطلة مرة واحدة حين أفلت من مخالبك .. )) (8) .
وحوار (سعاد) في رواية (رموز عصرية ) للقاص (خضير عبد الأمير ) مع رفيق صباها (خالد ) في لقائهما العفوي بعد غيبة سنوات في العمل الوظيفي عبر – هو الآخر- عن مكنونات المستوى النفسي في بناء المواقف السابقة والتنبؤ بطبيعة المواقف اللاحقة ، وبذلك فقد كان له دوره الفاعل في دفع مسار الفعل الدرامي داخل الهيكل العام للرواية :
" قال خالد بعد صمت : - أيام طويلة مرت .- كنت فيها أتابعك وأقرأ بعض ما تكتب في الصحف .
قال خالد :
- لكني لم أعرف عنك أي شيء .
ابتسمت وقالت : ستعرف .
- لقد كانت مجرد أحلام يحبكها خيال الشباب .
- من يدرينا من أن تلك الأيام كانت بداية لمستقبلنا)) (9) ، ويتواصل حوارهما بتدفق سلس ، مفصحًا عما كان يختزنه كل منهما للآخر من مشاعر دفينة ....حين تخبره بدوافع اختراعها لمسألة زواجها عندما تقدم لها قائلة : ((كنت أكذب يا خالد ... أردتك أن تبتعد عني وتجد طريقك في الحياة لا أن ترتبط بامرأة طلقت وأنت في مرحلة الصبا .
- إذ كنت تحبينني ؟
- سمه ما شئت)) (10) .
و( منذر ) في حواره مع (حمد السالم ) ، و( حميد مزبان ) رغم حرصه على إخفاء عاطفته المتوهجة إزاء (سليمة ) ، عندما قال لـ (حمد ) يشكره على حمايته الحانية وعطفه السخي له في عرزاله ، رغم مطاردة السلطة . " تعرف يا أبا زهرة ؟ .. رغم أنني أحببتك أخًا كبيرًا ، إلا أنني أتمنى لو أنني دخلت السجن بدلاً من المجيء إلى هنا .
ضحك حمد السالم بمرح ثم قال :
- ابن العم ؟ لا تهتم ! .. إذا كانت هذه الفتاة قد دخلت في أعماقِ قلبكَ بهذه الدرجة ، فستكون لك حتى لو أدى ذلك إلى موتي .
قال حميد : ماذا ؟ ... هل هناك سر لا أعرفه ؟
قال منذر : لا أدري يا حميد ماذا حدث حتى هذه اللحظة " (11) .
لقد أسهم الحوار هنا في ولادة عنصر جديد لفكرة الرواية كان له دوره الخطير في تجسيد البعد الدرامي عبر محور العلاقة العاطفية الواعده .
والحالُ ذاتها واجهها (حسن مصطفى ) في رواية (المبعدون ) للركابي عندما وشي حواره مع (نضال ) مقدار تعلقه الحميم وإحساسه النفسي المفرط تجاهها . مما دفعها إلى التلميح له عن تعاطفها المتكافئ قائلة بدلال : " لماذا تنظر إلي هكذا ..؟ - علي أن أذهب .
سأل باختلاج :
-هل آذيتُكِ يا نضال ؟
كانت آثار ضحكتها لا تزال على الشفتين .
- لا . " (12) .
إن هذه السمة الفنية الخلاقة للحوار بما تبعثه في جسد الرواية من علامات الصحة وطاقات النمو ، عبر تحكمها الواعي في بناء الفعل الدرامي ، كان لها رصيدها الظاهر من اهتمام سائر كتّاب الرواية وهذا ما جعل نتاجات بعضهم تحقق مستويات فائقة في مجال كتابة الرواية الحديثة .
(2)
أما السمة الثانية التي لونت طبيعة الحوار وعناصر تكوينه فهي تعبيره عن المستويات الفكرية والثقافية بأسلوب تمثيلي مركز لا يجنح إلى التقرير أو الوعظ ، فقد حرص هؤلاء على أن تظهر مفرداتهم دالة مدببة ، تحمل في طياتها مخزونًا ثرًا من الأفكار والقيم المؤثرة ، فأن قدرة الكاتب الموهوب تتجلى في مقدار ما يطرحه من أفكار عبر تعمقه فيما وراء المظاهر السطحية ، فيعبر من خلال الرؤية الموضوعية الخارجية عن خوالج الناس التي يشعرون بها – إزاء أنفسهم وعالمهم – ويعجزون عن الإفصاح عنها، فيتولى هو عنهم ذلك (13) .
ولعلَّ هذه السمة بما تمتلك من خاصية موضوعية كانت موضع اهتمام رواد الرواية ذات المضمون الثقافي والسياسي قبل غيرهم ، ذلك أن هذا النوع من الروايات يتميز بقدرة رهيفة على ربط (المتعة بالوعي) مما يساعد على تألق وثراء المضمون .. فضلاً عن أنها تشف عن الخط السياسي لشخصياتها – التي ترمز لشخصيات المجتمع – وبما أن النظام السياسي لا ينفصل عن النظام الاقتصادي والاجتماعي فإنها بالضرورة ستكشف عن شخصيات روائية تولد وتتحرك وتتحدث ، كثمرة للوضع الاقتصادي والاجتماعي وتعبير عن أبعاده ومستوياته(14) . سواء ما جرى ذلك ضمن الرؤية الموضوعية الخارجية عن طريق الراوي كلي العلم ، أم جاء عن طريق الرؤية الذاتية الداخلية المحدودة للشخصية نفسها .
فالحوار الدائر بين (علي سعيد ) وبين فتاة المقهى (سيبلا) في برلين يتعرض لمشكلة تكاد تبدو همًا عصريًا يُعاني منه مجتمعنا العربي ، وهو في تطلعه لِآفاق النهضة الأوربية ، وطموحه لاحتواء جوهرها ، ليزاوج بينه وبين معطيات تراثه العريق :
(( - أستطيع القول أنك عربي .
- أجل أنا عربي ، ولكن كيف تمكنت من معرفة هويتي بهذه السرعة .
- صديقي في براغ أيضًا عربي من الأردن .
... هل أنت أردني ؟
- أنا عراقي .. أُفضل القول دائمًا أنا عربي .
- عرفت منذ جلست على المائدة أنك عربي ، الحقيقة إن أشكالكم متقاربة .. لكن صديقي الأردني لا يُريد العودة إلى وطنه ، يقول : الحياة صعبة هناك..
- أستطيع فهمه لكن لا يمكنني التسليم بحقه في موقفه .. إن بلاده بحاجة إلى خبراته ومعارفه )) (15) . ويتواصل الحوار مع تدخل شخص ثالث ، ليتعرض إلى هموم العربي وهموم الأوربي حيث القيم الأصيلة هناك ، والمادة المعبودة هنا في أوربا ويصل إلى حد إقناع الشابين الأوربيين )).
لقد أجتهد الروائي – كما هو واضح من سير الحوار المتنامي – أن يمنح المفردة الواحدة طاقة حية واسعة ، مستثمرًا كل أبعادها الفكرية والنفسية . فهو عربي إذن ، وهو لهذا كريم في عطائه بمختلف أشكاله – عطاء الفكر والتراث ، وعطاء البساطة (الواعية) والوفاء المحسوب . انه ليس (غربيًا ) يستنزف القيم ويهدر الأحاسيس ، يغتال الوجود الإنساني بمقصلة المادة . وهنا يبدو جليًا دور الحوار للتعويض عن الوصف السردي في عرض المتن الحكائي .
وللموضوع ذاته يتشعب الحوار القائم بين (مجدي ) وضيفه (الدكتور (رائد) العائد من باريس في رواية (تماس المدن) ، الذي آثر الانغماس في المتع المتهافتة والمظاهر السلبية خلال دراسته ، عبر حوار طويل أتسم بالحيوية والسيولة مما دفع بالمواقف إلى التطور باتجاه خلق القيم والأفكار الرائدة في هذا الجانب أو ذاك(16) .
وحوار ( خالد ) مع (سعاد) في (رموز عصرية) أفرز هو الآخر آفاقًا عريضة من المفاهيم الِإنسانية والأفكار المتحفزة عبر اختيار فني مقصود للمفردات والجمل ، بشكل حقق معه قدرًا كبيرًا من التركيز والإيحاء ، الذي تميز به القاص (خضير عبد الأمير ) عبر تراثه القصصي . فشخصية (خالد) ذاتها تعترف بما أوحته كلمات (سعاد) المحدودة في تعقيبها على موقفه من الماضي تصورات جديدة على الرغم من قلة مفرداتها .
" – أوافقك يا خالد .أن الجيل الجديد يعيش ممتلئًا ، ألا تذكر عبثنا القديم ، إنني أعتبره نتيجة أو إفرازاً لذلك الواقع الذي لم يكن يشد وجودنا إلى أي تطلع حقيقي .
أبتسم خالد لاكتشافه بأن سعاد تمتلك الحس والرؤية التي يجب أن تمتلكها كل امرأة وقال : أنا سعيد وفرح لوجودك بيننا (17) .
إن هذا المنحى الفكري من مهمات الحوار وجد طريقه السليم لدى سائر كتّاب الرواية (الحديثة) مما دفع الرواية في العراق آنئذ إلى طرق آفاق فكرية أشمل ومدارات فنية أعمق وأرحب .