عرض مشاركة واحدة
قديم 08-14-2010, 09:21 PM
المشاركة 15
أحمد صالح
ابن منابر الـبــار

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي تابع
لقد كلفه كثيرا إقناعها بالعدول عن رأيها. إذ أنها بدأت منذ الصباح بتنظيم برنامج في ذهنها. للسنوات الثلاث القادمة التي سيمضيانها دون احتضار أيام الجمعة في انتظار البريد. وأعدت البيت لاستقبال التسعمائة بيزو، فنظمت لائحة بالأشياء الأساسية التي لا يملكانها، دون أن تنسي تسجيل حذاء جديد للكولونيل. وأفسحت مكانا في حجرة النوم للمرآة. إن هذه الضربة المفاجئة لجميع مشاريعها جعلتها تضطرم بإحساس من الخجل والحقد.
نامت قيلولة قصيرة. وعندما استيقظت كان الكولونيل جالسا في البهو.
ـ وماذا ستفعل الآن؟ سألته هي:
فقال الكولونيل:
ـ إني أفكر.
ـ إذن، فقد حلت المشكلة: سنحصل على تلك النقود خلال خمسين سنة.
ولكن الكولونيل كان قد قرر. في الواقع، أن يبيع الديك مساء هذا اليوم بالذات. فكر بدون ساباس، وتخيله وحيدا في مكتبه، يتهيأ أمام المروحة الكهربائية لأخذ حقنة الأنسولين اليومية. كان قد أعد ما سيقوله.
خذ الديك معك. فرؤية وجه القديس تصنع المعجزات قالت له زوجته وهو خارج.
رفض الكولونيل ذلك. ولكنها تبعته حتى الباب الخارجي بقلق يائس، وقالت:
ـ ليس مهما أن يكون هناك فيلق من الناس، خذه من ذراعه وتنح به جانبا ولا تدعه يتحرك قبل أن يعطيك التسعمائة بيزو.
ـ سيظنون إننا نعد الانقلاب.
لم تهتم هي بهذا. وقالت بإصرار:
ـ تذكر أنك أنت صاحب الديك. وتذكر أنك أنت الذي ستقدم له معروفا ببيعه الديك.
ـ حسنا.
كان دون ساباس في غرفة نومه مع الطبيب. فقالت زوجته للكولونيل: 'انتهز الفرصة الآن أيها الصديق. إن الطبيب يفحصه لأنه سيذهب إلى المزرعة ولن يعود حتى يوم الخميس'.
درس الكولونيل الأمر وهو بين قوتين متعارضتين تتجاذبانه فرغم قراره الحاسم ببيع الديك. رغب لو أنه وصل بعد ساعة حتى لا يجد دون ساباس.
ـ أستطيع أن أنتظر. قال لها.
ولكن زوجة دون ساباس أصرت عليه. وقادته إلى غرفة النوم حيث كان زوجها جالسا بسرواله الداخلي على سرير كالعرش، بينما ثبت على الطبيب عينيه اللتين بلا بريق. وانتظر الكولونيل حتى انتهي الطبيب من تسخين أنبوب زجاجي به عينه من بول المريض، ثم شم البخار المتصاعد منه وأشار إلى دون ساباس إشارة النجاح.
قال الطبيب متوجها إلى الكولونيل:
ـ يجب رميه بالرصاص. فالسكري يتباطأ كثيرا بالقضاء على الأغنياء.
'لقد فعلت أنت كل ما تستطيع لذلك بواسطة حقن الأنسولين اللعينة التي أعطيتني إياها'. قال دون ساباس وهو يربت على اليتيه المترهلتين، وتابع: 'ولكني مسمار قاس على الأكل'. بعدها اتجه نحو الكولونيل قائلا:
ـ اقترب أيها الصديق.. عندما خرجت في الظهيرة بحثا عنك لم أجد حتى ولا قبعتك.
ـ لا أستخدم قبعة كي لا أضطر لرفعها أمام أحد.
بدأ دون ساباس بارتداء ملابسه. ودس الطبيب في جيب سترته انبوبا زجاجيا به عينة من الدم. ثم رتب محتويات حقيبته. وظن الكولونيل بأن الطبيب يستعد للذهاب، فقال له:
ـ لو كنت مكانك يا دكتور لقدمت لصديقنا قائمة حساب بمئة ألف بيزو. فهكذا ستصبح همومه أقل.
قال الطبيب:
ـ لقد عرضت عليه هذه الصفقة، ولكني طلبت مليونا. فالفقر هو أفضل علاج للسكري.
ـ 'شكرا لهذه الوصفة'، قال دون ساباس وهو يحاول أن يحشر كرشه الضخم في البنطال الخاص بركوب الخيل، ثم أردف 'ولكني لن أقبل بها لأحول دون أن تصبح أنت غنيا وتصاب بالمرض'.
رأي الطبيب أسنانه التي انعكست على غطاء حقيبته المعدني. ثم نظر إلى ساعته دون أن يبدو عليه الاستعجال. وعندما بدأ دون ساباس بلبس جزمته اتجه نحو الكولونيل الذي أتي في وقت غير مناسب.
ـ حسنا أيها الصديق، ما الذي حصل للديك.
وانتبه الكولونيل إلى أن الطبيب أيضا سيسمع جوابه. فضغط على أسنانه ودمدم:
ـ لا شيء أيها الصديق. أني آت لأبيعك إياه.
انتهي دون ساباس من لبس الجزمة، وقال دون تأثر:
ـ حسنا أيها الصديق.. أنها أعقل فكرة خطرت لك.
وأمام تعابير عدم الفهم التي ظهرت على وجه الطبيب، قدم الكولونيل تبريره قائلا:
ـ لقد أصبحت كبيرا على هذه الأمور. ولو أن عمري أقل بعشرين سنة مما أنا عليه لكان الأمر مختلفا.
فرد الطبيب: أنت دائما أصغر من عمرك بعشرين سنة.
استرد الكولونيل أنفاسه. وانتظر من دون ساباس أن يقول له شيئا، ولكنه لم يفعل، وإنما ارتدي سترة جلدية لها سحاب وتأهب للخروج من غرفة النوم فقال الكولونيل:
ـ يمكننا أن نتحدث بهذا الأمر في الأسبوع القادم إذا شئت.
ـ هذا ما كنت سأقوله لك قال دون ساباس، ثم أردف:
ـ لدي زبون قد يدفع لك أربعمائة بيزو ثمنا للديك.
ـ ولكن يجب الانتظار حتى يوم الخميس.
ـ كم؟ تساءل الطبيب.
ـ أربعمائة بيزو.
فقال الطبيب:
ـ لقد سمعت بأنه يساوي أكثر من هذا المبلغ بكثير.
استغل الكولونيل استغراب الطبيب ليقول لصديقه:
ـ كنت قد حدثتني عن تسعمائة بيزو.. إنه أفضل ديك في الناحية كلها.
رد دون ساباس على الطبيب شارحا:
ـ 'في وقت سابق كان يمكن لأي كان أن يدفع ألف بيزو ثمنا له. أما الآن فليس هناك من يتجرأ على إطلاق ديك جيد. فثمة خطر دائما في أن يخرج من حلقة المصارعة صريعا بالرصاص'.
ثم التفت نحو الكولونيل بحزن مفتعل بإتقان وقال:
ـ هذا ما كنت أنوي قوله لك أيها الصديق.
أشار الكولونيل برأسه موافقا، وقال:
ـ حسنا.
تبعهما في الممر وهما خارجان. ولكن الطبيب ظل في الصالة بدعوة من زوجة دون ساباس التي طلبت منه علاجا 'لتلك الأشياء التي تصيب المرأة فجأة ولا أحد يعرف ما هي'. انتظر الكولونيل في المكتب. بينما فتح دون ساباس صندوق الخزنة، ودس نقودا في جميع جيوبه ثم مد إلى الكولونيل أربع أوراق نقدية. وقال:
ـ هذا ستون بيزو أيها الصديق. وعندما يباع الديك نصفي الحساب.
سار الكولونيل برفقه الطبيب عبر متاجر شارع الميناء وقد أنعشتهما برودة المساء، بينما كان مركب شحن محمل بقصب السكر ينزلق مع تيار الماء البارد. لاحظ الكولونيل احتقانا في وجه الطبيب:
ـ وأنت كيف حالك أيها الدكتور؟
هز الطبيب كتفيه وقال:
ـ لا بأس. ولكني أعتقد بأني محتاج لاستشارة طبيب فقال الكولونيل:
ـ إنه الشتاء، فهو يجعل أمعائي تتعفن.
تأمله الطبيب بنظرة خالية تماما من أي اهتمام مهني. وحيا السوريين الجالسين أمام أبواب متاجرهم واحدا واحدا. وأمام العيادة عرض الكولونيل موقفه في صفقة بيع الديك، إذ قال مفسرا:
ـ لم أعد قادرا على عمل شيء آخر. لقد أصبح الحيوان يتغذى باللحم البشري.
قال الطبيب:
ـ إن الحيوان الوحيد الذي يتغذى باللحم البشري هو دون ساباس.. إني متأكد انه سيبيع الديك بتسعمائة بيزو.
ـ أتعتقد ذلك؟
ـ إني متأكد.. فهذه صفقة تجارية مكشوفة مثلها كمثل صفقة التحالف الوطني مع العمدة.
رفض الكولونيل تصديق ذلك، وقال: 'لقد قام صديقي بذلك التحالف مع العمدة لكي ينقذ جلده. وهكذا استطاع البقاء في القرية'.
فرد الطبيب:
ـ 'وهكذا استطاع أيضا شراء أملاك أعضاء حزبه الذين طردهم العمدة من القرية بنصف ثمنها'. ثم دق على باب العيادة لأنه لم يجد المفتاح في جيوبه. والتفت بعد ذلك ليلتقي بوجه الكولونيل الذي لم يصدق كلامه، وقال:
ـ لا تكن ساذجا. فصديق دون ساباس يهتم بالمال أكثر بكثير مما يهتم بجلده.
خرجت زوجة الكولونيل في هذه الليلة للتسوق. وقد رافقها زوجها حتى متاجر السوريين وهو يجتر في تأملاته ما قاله الطبيب.
قالت له زوجته:
ـ أبحث حالا عن الشباب وأخبرهم بأنك قد بعت الديك.. يجب ألا تبقيهم على الأمل.
أجابها الكولونيل:
ـ لا يمكن اعتبار الديك مباعا إلى أن يعود صديقي ساباس.
عندما ترك زوجته ذهب إلى صالة البلياردو وهناك وجد ألفارو وهو يلعب الروليت. كان المحل يعج بالناس ليلة الأحد. والحر يبدو أكثر كثافة بسبب جهاز الراديو الذي يبث بأعلى صوته. سرح الكولونيل في الأرقام ذات الألوان الحيوية المكتوبة على بساط مائدة الروليت الذي من الشمع الأسود،و المضاءة بمصباح بترولي موضوع على صندوق وسط الطاولة. كان الفارو وكأنه يصر على الخسارة يكرر المراهنة على الرقم ثلاثة وعشرين. وبينما كان الكولونيل يتابع اللعب من فوق كتف الفارو لاحظ أن الرقم أحد عشر قد كسب أربع مرات من أصل تسع. فهمس في أذن الفارو:
ـ راهن على الأحد عشر، فهو الذي يكسب أكثر من غيره.
تفحص الفارو البساط. ولم يراهن في الدورة التالية. وإنما أخرج نقودا من جيب بنطاله، وبين النقود كانت توجد ورقة مطوية، قدمها إلى الكولونيل من تحت الطاولة، وقال:
ـ أنها من اغوستين.
أخفي الكولونيل الورقة السرية في جيبه، وراهن الفارو على الرقم أحد عشر بنقود كثيرة. فقال له الكولونيل:
ـ ابدأ بالقليل.
ـ 'ربما تكون إصابة جيدة'، رد عليه الفارو. سحبت مجموعة من اللاعبين على الرقم أحد عشر بنقود كثيرة. فقال له الكولونيل:
ـ ابدأ بالقليل.
ـ 'ربما تكون إصابة جيدة'، رد عليه ألفارو. سحبت مجموعة من اللاعبين على الرقم أحد عشر عندما بدأت العجلة الكبيرة الملونة بالدوران. شعر الكولونيل بالتململ، فهو يجرب للمرة الأولى فتنة،و ذعر، وقلق الحظ.
كسب الرقم خمسة فقال الكولونيل خجلا:
ـ إني آسف أشد الأسف.
ثم تابع بعينيه الذراع الخشبية وهي تسحب نقود الفارو، وقد سيطر عليه إحساس لا يقاوم بالشعور بالذنب، وقال:
ـ أن هذا يصيبني لأني أحشر نفسي فيما لا يخصني. ابتسم الفارو دون أن ينظر إليه، وقال:
ـ لا تهتم أيها الكولونيل. جرب حظك في الحب.
وفجأة قاطع الجميع نفير أبواق. فتفرق اللاعبون وقد رفعوا أيديهم إلى الأعلى. شعر الكولونيل بالصرير الجاف والبارد لأقسام بندقية تتهيأ من ورائه ففهم انه قد وقع وقعة مشئومة في مصيدة للشرطة وهو يحمل المنشور السري في جيبه. دار نصف دورة دون أن يرفع يديه. وعندها رأي بالقرب منه، ولأول مرة في حياته، الرجل الذي أطلق النار على ابنه. كان يقف مقابله وفوهة بندقيته مصوبة نحو بطنه. كان صغيرا، قصير الشعر، ويعبق برائحة طفولية. ضغط الكولونيل على أسنانه وأبعد عنه برفق وبأطراف أصابعه ماسورة البندقية، وقال:
ـ بعد إذنك.
فواجهته عينان صغيرتان ودائريتان كعيني خفاش. وأحسٌّ لبرهة بأن هاتين العينين قد ابتلعتاه. ومضغتاه وهضمتاه، ثم لفظتاه مباشرة:
ـ تفضل بالذهاب أيها الكولونيل.

ما أعظم أن تكون غائبًا حاضر ... على أن تكون حاضرًا غائب