عرض مشاركة واحدة
قديم 02-05-2012, 10:58 PM
المشاركة 237
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع،،
يحيى يخلف
مجلة نزوى


شخصيات الرواية:
لعل أهم شخصية من شخصيات الرواية هي شخصية الراوي، وقد حدد الروائي سمات هذه الشخصية التي اختفى خلفها، حيث تتطابق حياته مع حياة يحيى يخلف، فهو من سمخ، وولد قبل النكبة بأربعة أعوام، وهاجر مع أسرته طفلاً، ودرس في رام الله؛ حيث ترك شبابه «منذ سبعة وعشرين عاماً، عند تلة الماصيون في رام الله، ولم يرافقني إلى بلاد الغربة» (ص7) وقليلاً ما ضبط «متلبساً بالسرور» (ص 46)، وقد لا يبتسم إلا «رغماً عنه» (ص56) وهو يساهم في الأعمال الفدائية في الأغوار، ولبنان، ويعيش في تونس، ويعود إلى الوطن بعد أوسلو. وهو يعود إلى سمخ بعد ستة وأربعين عاماً من مغادرتها حين كان عمره أربع سنوات، وكذلك كان شأن يخلف عندما غادر وطنه مهجراً، فقد ولد يخلف عام 1944.
لكن الرواية ليست سيرة ذاتية، بل هي سيرة وطن، ومسيرة شعب، ومصير بلاد وقرى ومدن وبشر. لا أعتقد أن الكاتب كان يريد أن يسجل تجربته الذاتية فقط، بل أراد أن يسجل موقفاً يقفه كثير من المثقفين من اتفاقية السلام وما نتج عنها، بل إن بعضهم له موقف من فكرة السلام أصلاً. وفي هذا السياق أذكر ما كتبه غريب عسقلاني عن «الأشهر القمرية» و»عودة منصور اللداوي»، و»دحموس الأغبر»، وما كتبه أحمد رفيق عوض في «مقامات العشاق والتجار»، أو حتى ما كتبته سحر خليفة في بعض المقاطع من رواية «الميراث»، وغير هؤلاء.
وبالإضافة إلى الراوي هناك شخصية مجد، الفتاة المقيمة في القدس، وتربطها علاقة قديمة بالراوي، ولكن تلك العلاقة أصبحت فاترة بعد عودة الراوي إلى الوطن على الرغم من أنه كان يتواصل معها من المنفى، ويعبر له عن حلمه إلى زيارة سمخ. وتبدو مجد ضائعة ومحتارة في تحديد علاقتها بأكرم والراوي، فهي راغبة في تجديد علاقتها بالثائر أو بما بقي منه وبين الارتباط بمستقبل يحلم ببعث تعايش فلسطيني يهودي قديم. تحاول أن تجمع بين نقيضين، وتعمل على استرضاء كل منهما، وتفكر أن الحل مع الطرف الإسرائيلي يمكن أن يتم عبر المنظمات الحقوقية والدولية.
ومجد تقف في منتصف الطريق نحو أمل إحياء علاقة قديمة بالراوي وأمل في بناء علاقة جديدة مع أكرم، وهي تراوح بينهما، فمرة تميل لهذا ومرة تميل لذاك، وتلاطف هذا مرة، وتواسي ذاك مرة أخرى، وتراقص هذا مرة وتدنو من الآخر مرة أخرى. وهي تحاول أن توفق بين وجهتي نظر الراوي وأكرم والتقريب بينهما، غير أن ذلك لم يكن ممكناً، فأطروحات أكرم التعايشية تتناقض جذرياً مع معتقدات الراوي ومنطقه الثوري في الأساس، وإن كان هذا المنطق لا يطفو على سطح النص. وفي النهاية أظهرت ميلاُ واضحاً نحو أكرم وربما كان ذلك بسبب قرار مسبق كان الراوي قد اتخذه، فلا نجد منذ بداية الرواية ميلاً حقيقيا منه نحوها. لقد فقدت مجد الفرصة نهائيا كما فقد الشخصان الآخران الفرصة.
وأكرم عابد فلسطيني مغترب في أمريكا، جمع ثروة في مهجره، ويحاول أن يظهر بسيماء الأرستقراطي، ويمارس الحياة الأمريكية في فلسطين، وهو مغرم بالشرب وملاطفة النساء، يبدي سروراً وبهجة غير عادية متمثلة في قهقهاته اللافتة للانتباه، وغليونه، يحمل فكرة عن إرساء السلام والتعايش عن طريق إحياء قصة حب قديمة بين عمه فارس الفارس وبيرتا، ويتصور أن يستثمر وسائل الإعلام الحديثة في إرساء أسس ذلك السلام، ولكنه يفشل إذ يجد بيرتا لم تعد صالحة للحياة، وأن الإدارة والعسكرية الإسرائيلية غير مستعدة له، فهي ما زالت مدججة بالسلاح وبالفكر العدائي الإقصائي حتى أسنانها، ويعود بالصراع إلى نقطة الصفر في نهاية الرواية.
ثلاثة شخصيات فلسطينية رئيسية من طبقة مثقفة وذات خبرات وتجارب متنوعة، تحاول أن تكون فاعلة في الأحداث على اختلاف في مقدار استعدادها للفعل، ولكنها كلها وجدت نفسها في قوالب مفروضة عليها وإرادتها مقيدة ومشلولة. تتميز شخصيات هذه الرواية بأنها مسطحة غالباً، وهي شخصيات ثابتة في جميع أحداث الرواية، إلا في نهايتها تقريباً، ويحمل كل منهم فكرة مسبقة عن شيء ما، أتى من أجل تحقيقه، أو محاولة البناء عليه.
لكل واحد من الشخوص الثلاثة قضية تكاد تكون في جوهرها قضية واحدة، فكل منهم يبحث عن مفقود. والمفقود متعدد، الوطن ممثلاً في سمخ، والماضي وذكريات الطفولة المرتبط بالأمكنة وتفاصيل البيئة، ويبحث عن خاله الذي تعلق به كثيراً، كما تتعلق به والدته وأخوه، أي والدة الكاتب، وهذا الخال كان قد قتل بعد احتلال فلسطين عام 1948 على ضفاف بحيرة طبريا حين أصر على العودة إليها ليموت هناك كما تموت الغزلان في وطنه بعد أن أحس بدنو الأجل. أما أكرم عابد فيبحث عن التعايش الفلسطيني الإسرائيلي. أما مجد فكأنما تبحث عن مفقود مجهول، ربما عن حب غامض يربطها بالثائر حيناً، وبالباحث عن التعايش حيناً آخر.
وهناك عائدون آخرون في الرواية، هما عائدان بين الحياة والموت، وهما الطيار اليهودي المحتفظ بملامحه على مدى ثمانية وثلاثين عاماً في قمرة طائرته، وعبد الكريم الحمد، خال الراوي، الفلاح الفلسطيني الذي حفظ في الثلاجة مثل هذه المدة.
وهناك المقاتل العائد الذي تحول إلى شرطي في وطنه، ويحمل هويته الفلسطينية ببذلته الرسمية، وفيه فرح العائد إلى الوطن والأهل، والمتخلص من ألم المنافي. وهناك عائشة التونسية التي تمثل جزءاً من ماضي الراوي، ويلجأ إلى ذكراها كلما شعر بنفوره وضيقه من الواقع، عائشة جزء من المنفى والذكرى الجميلة والحلم، وعلى الرغم من ارتباطها بالمنفى، غير أنها والمنفى تمثل ماضياً جميلاً في ذاكرة الراوي، لأن ذلك يشد الراوي بعيداً عن الواقع، يشده إلى الحلم بوطن حر. عائشة دائماً تُصوَّر بصورة الجميلة الرائعة، والتي ترتبط بالجمال والحيوية والفن والتراث. فهل كانت عائشة تمثل البعد العربي في معادلة الصراع الفلسطيني الصهيوني، ولا يريد الراوي أن يبقى في هذا الصراع فلسطينياً وحيداً منفصلاً عن جذوره العربية؟
أما اونودا فهو المعادل والموازي للراوي، والذي جاء بقصته لكي يقوم بتحميلها أفكاره من جهة، ولكي يكون ضميره الذي يذكره بمواقفه الرافضة للهزيمة واستسلام. يستعير قصة ذلك الجندي الياباني الذي بقي في جزيرة معزولا في نهاية الحرب العالمية الثانية، ورفض تصديق منشورات تخبر بانتهاء الحرب، معتبرا ذلك من الحرب النفسية الأمريكية ودعاية الحلفاء، وأقام صلحا مع الطبيعة، وحين اكتُشف بعد البحث المضني رفض الاستسلام إلا بصدور أمر من قائده، وحين قابل قائده وقرأ عليه الأمر أصيب بصدمة. ثم «وجد نفسه بلا قضية». وبعد محاولات كثيرة أوصت الدراسات التي أجريت عليه بإرساله إلى الأراضي الفلسطينية من أجل تأهيله لقبول الأمر الواقع، أي التخلي عن بندقيته وجعبته ومنظاره وانتظاره للعدو. اونودا هذا لم يستطع في النهاية أن يقبل بالأمر الواقع وعلى الرغم من أن الراوي أراد له أن يظل حبيساُ بين أوراقه غير أنه احتج وهرب مقتحماً كل الأخطار تاركاً هذا الجو الذي لا يناسبه. أونودو كان يصر أن يظل بصحبة بندقيته ومنظاره القديمين، وأن يستمتع بماضيه وعزته. وجد اونودا نفسه «بلا قضية» ولكنه يهرب في النهاية من محاولات التدجين والتطويع.
أما الشخصية اليهودية في الرواية فلها مواقع وأدوار مختلفة، لعل أبرزها الدور العسكري الذي فصل فيه الراوي، ويظل هذا المشهد للجندي الإسرائيلي مواكباً للرحلة منذ أن وصل الراوي إلى الوطن، ثم عبر رحلته إلى سمخ وطبريا، وفي أثناء عودته من تل أبيب إلى القدس. ويُعرض فيها الجندي مدججا بالسلاح، متحفزاً لإطلاق النار، مستفزاً لكل طارئ، حذراً يدقق في الأوراق، ويفتش السيارات والأفراد، شخصية فيها قسوة وتجهم، ولا تفضل وجود الفلسطينيين في داخل الخط الأخضر، لذلك تنصح المرتحلين الثلاثة غيرما مرة بالعودة من حيث أتوا.
أما الشخصيات اليهودية الأخرى فتتراوح بين النادل في المطعم الذي يبدي حرصه على سعادة «العرب» والنادلة «يائيل» التي تساعد أكرم في الوصول إلى «بيرتا» ولا يهمها من ذلك سوى الحصول على مكافأتها لقاء خدمتها له، وتبدة صورتها في الرواية صورة نمطية لامرأة مبتذلة، تكشف معظم أعضاء جسمها. وهناك شخصية شلومو الموظف في النزل الذي يرفض مبيت الراوي ومجد في نزله لأنهم «من سكان المناطق» ولا يسمح لهم بالمبيت في داخل الخط الأخضر، ثم يقبل ذلك مقابل رشوة قدماها له. وهناك فريق العمل التلفزيوني الذي يوظفه أكرم لتصوير محاولته في إحياء التعايش، كما يحاول هذا الفريق أن يقيم حواراً حول السلام انطلاقاً من حادثة الطيار وعبد الكريم الحمد، ولكنه يفشل في ذلك.
أما بيرتا فإننا نعرف عن ماضيها من خلال أكرم والراوي، ونعرف حالها الحاضر من خلال الراوي، فقد كانت راقصة في ملهى الليدو يخطب ودها كبار القوم والأغنياء عرباً ويهوداً، لكنها رفضتهم وأحبت فارس الفارس، وهاجرت معه إلى لبنان إلى أن أعيدت رغم ارادتها، وقد أصبحت الآن عجوزاً، ملأت التجاعيد وجهها، ولا تسمع ولا تتكلم؛ فأصبح التعايش نتيجة ذلك غير ممكن.
المعمار الفني للرواية:
لعل التلخيص السابق يمكننا من تبيُّن بناء العمل وكيفية اشتغال التقنيات فيه بالتضافر مع لغة العمل وبنائه الفني. ويمكن القول إن رواية نهر يستحم في البحيرة تميل نحو رواية الحدث، حيث تكون العلاقات فيها «تراكمية أكثر منها سببية، ولذلك تعتمد على غيبة الحبكة، كما أن هيمنة الحدث تؤدي إلى التقليل من أهمية الشخصيات، ويعتمد القاص على إثارة الانفعالات الحادة كالتوقع والفزع والخوف من أجل شد انتباه القارئ وضمان متعته الفنية.»(10) وقد رأينا أن الشخصيات منفعلة أكثر منها فاعلة، وتقوم بردود أفعالها على الأحداث، ولا تبادر إلى فعلها.
وللراوي في هذه الرواية زاوية رؤية محددة مما يجري حوله، وهي رؤية سلبية غالباً وسوداوية وحزينة، وانعزالية، تغيب عما يدور حولها من أحداث في بعض الأحيان، ولا تعبأ كثيراً بالنتائج حين يتعلق الأمر بهدفها. والراوي المشارك في هذه الرواية يشارك في الأحداث، ويراقب ما يجري بانعزال عنها أحياناً كثيرة مكتفياً بالمراقبة وملاحظة ما يجري وتسجيله وروايته. وبالتالي فإن معرفته مساوية لمعرفة الشخصية الحكائية. وهو يتدخل أحياناً في سيرورة الأحداث، فقد أصر على الاستمرار في الرحلة عندما نصحهم رجل الأمن بالعودة، كما أنه تذرع بعدم حصوله علىى الأوراق لزيارة مجد في القدس، وبالتالي أجبرها على أن تزوره هي. وهو يدلي دائماً بتعليقاته وتأملاته، وبالتالي إلى تشكيل حركة السرد، فيوقف السرد، ويقطعه، ويقفز به، وينقله إلى نقطة أخرى.
والمكان، أو الفضاء الجغرافي في الرواية ممتد في أمكنة كثير، وعلى الرغم من احتفال الروائي بالأمكنة في الرواية، وجعل المكان هو الحافز الأساسي لتحرك الشخصيات وللأحداث، غير أنه بالإضافة إلى ذلك تم التركيز على المكان بما يحمله من دلالات سياسية ووطنية، ومن حيث هويته، فقد تم عرض المكان وفق رؤية الراوي من زاوية ما جرى عليه من تغيير ومحاولة محو هويته، إما بطمس معالمه، وإما بتغيير هويته بتسميته اسماً جديداً يحمل هوية ثقافية وحضارية مختلفة، ويرد المكان في صورتين متقابلتين: ما كان عليه، وما هو عليه الآن، صورته العربية الفلسطينية الأصيلة، وصورته المهودة، وتبرز الصورة الثانية غريبة مكروهة، في حين تبعث الصورة الأصيلة الارتياح والحلم الجميل، ولذلك أطلق الراوي على سمخ «دار الأمان» مقابل دار التخريب والدمار الذي فعلته الجرافات. ولكن يظل المكان يحمل ملامحه الأصيلة مهما جرت عليه من تغييرات، فما زال الراوي قادراً على تحديد مكان كل بيت ومعلم في سمخ وعلى شاطئ بحيرة طبرية، كما أن بحر غزة لم يغير ملامحه، وما زال يحمل هويته الأصلية، وكذلك يشعر الراوي أن حقيقة الوطن وأساسه لم تتغير، وكأنه يقول إن كل ذلك التغير طارئ ومفتعل ومؤقت.
لقد كانت الأمكنة التي تحدث عنها الراوي أمكنة واقعية سماها بمسمياتها الحقيقية، مما جعل وصفها يتصدر السرد في بعض الأحيان، إذ وصف الراوي شوارع غزة، وأسواق القدس، وبعض الأماكن في بيسان وسمخ، وقد أراد الروائي بذلك أن يجعلنا نقر معه أنه يروي أحداثاً حقيقية، مما يساعد في إدماج الحكي في نطاق المحتمل والواقع. وقد توقف عند وصف هذه الأمكنة أحياناً لوقف السرد أو الإبطاء به. وفي الوصف للأمكنة كان يصبغ الراوي تلك الأمكنة بمسحة حزينة مبعوثة من مشاعره، فقد طغى الحزن والبؤس والسلبية على بعض الأمكنة تبعاً لرؤية الراوي وشعوره النفسي، مما يجعل المكان يصطبغ بصبغة إنسانية يصبح طرفاً يحاور الراوي، كما فعل عندما تذكر تجربة سابقة في بردلة، وحينما فصل في وصف البحيرة. وغالباً ما كانت الأمكنة التي تحدث عنها الراوي أمكنة مفتوحة، شوارع وطرقات، وآفاق، وشواطئ، وقرى، وقليلاً ما كانت الأمكنة مغلقة، ولكنها مزدحمة بالناس، كما المطاعم والمقاهي، وحتى بيت بيرتا أصبح مفتوحاً لفريق التلفزيون. وحتى حينما يكون المكان مغلقاً كالغرفة حيث أقام الراوي ومجد، لم تكن فيه تلك الخصوصية أو السرية. ولكن قمرة الطيار كانت مليئة بالأسرار، وكذلك الثلاجة التي تحتفظ بجثمان عبد الكريم الحمد. فقد يكونان هذان المكانان مليئين بأسرار الحرب، وإرادة العودة إلى الوطن.
أما الزمن في الرواية فلا يتجاوز أسابيع محدودة إلا فيما كان يستذكره الراوي بين حين وآخر، فقد انحصر زمن القصة في الفترة الواقعة بين دخول الراوي إلى الوطن ومكوثه ما يقارب أربعة أسابيع في غزة ثم قيامه بالرحلة إلى سمخ وعودته منها في ثلاثة أيام إلى القدس، وان كانت الرحلة قد انتهت على مشارف القدس، ولم يكملها الراوي إلى غزة. وبين حين وآخر كان الراوي يعيدنا إلى ذكرى أحداث قديمة بعضها يعود إلى ذاكرة الأربعينات، والستينات إلى التسعينات، في لقطات سريعة تضيء بعض جوانب حياة أهل سمخ، أو بعضاً من حياة الراوي في رام الله والأردن ولبنان وشمال إفريقيا. وبالتالي يمكن القول إن زمن القصة أطول من زمن السرد. وفي حين تقوم أحداث القصة الرئيسية على تتابع الأحداث تتابعاً زمنياً، كان يقطعها سرد الاستذكار من الماضي، كما يقطع هذا التسلسل سرد أحداث قصة أونودو، وبالتالي نصادف هنا توظيف تقنية القصة داخل قصة، وإن كانت قصة أونودو لم ترو بشكل متسلسل، بل رويت في مشاهد تتخلل سرد القصة الرئيسية.
ولقد ميز الراوي هذه المفارقات الزمنية عن طريق الانتقال من حالة سردية إلى أخرى إما عن طريق وضع عنوان لتلك الحالة السردية، أو فصلها عن الحالة السردية السابقة بأربعة نجوم. وهو في ذلك يستخدم تقنيات التلخيص والقفز عن أحداث معينة، وقطع السرد والعودة إليه في مكان آخر. كما أنه لجأ إلى تسريع السرد أو الإبطاء به موظفاً الوصف التفسيري التوضيحي الرمزي أحياناً.
يستخدم الكاتب تقنية مسرحية في روايته، هذا التكنيك الذي عرض فيه يحيى يخلف في هذه الرواية مشاهد مسرحية كاملة على خشبة المسرح ممثلة في اونودو. كما أنه وظف الحكاية والأسطورة والخرافة توظيفا جيدا سواء كان ذلك في أوساط المجتمع الفلسطيني أو في الأوساط الإسرائيلية، وبهذا يسقط الكاتب مقولة الفرق العلمي والحضاري لدى الشعبين، بل إنه يجعل من الرعب والفزع الذي يعيشه المجتمع الإسرائيلي مقابلاً للفرح وبهجة الاستبشار بعودة الغائبين وبمستقبل أفضل في الأوساط الفلسطينية.
كما أن يحيى يخلف يوظف الاستذكار سبيلاً لإضاءة ما كان عليه المجتمع الفلسطيني من عز واستقرار في وطنه تحول مع الهجرة إلى عذابات وأهوال ومنافي، وعلى الرغم من التغيرات الديمغرافية والبنية العمرانية غير أن الملامح الفلسطينية الأساسية ما زالت ماثلة في مكانها على الرغم من كل محاولات الطمس والتغيير وسياسة الهدم والنفي المادي والبشري، فالهوية العربية ما زالت قائمة ممثلة بالسائق الفلسطيني الذي ما زال يتحدث اللهجة الفلسطينية الأصيلة والمقيم في داخل فلسطين، وفي ذلك إشارة إلى تجذر الهوية الفلسطينية على الرغم من الممارسات المستمرة لطمسها.
لقد سيطر تيار الوعي على الراوي الذي ينتقل بذاكرته من الحدث الآني إلى الماضي ومن المكان الواقع إلى المكان الحلم، فهو ينتقل من فلسطين الحالية المثخنة بالجراح إلى الصورة السابقة للنكبة، ومن مجد إلى عائشة، ومن أزمة وطن محتل إلى تونس. هذا التداعي في الأفكار يسيطر على عقل الرواي على امتداد الرواية.
التوافقية بين الأحداث والأشخاص تقنية أخرى، فأكرم عابد ومجد والراوي كل منهم يبحث عن تعايش: أكرم يحاول تعايشا سياسيا مع بيرتا وصلحا قائما على أساس التاريخ والتسامح بطرق أقرب إلى الرومانسية. والراوي يبحث عن سمخ وجذوره التي تربطه بهذا الوطن، ومجد تبحث عن التعايش العاطفي وهي تعيش بين الماضي والمستقبل، بين الراوي الفلسطيني، والفلسطيني الثري المغترب الأرستقراطي ولكنه يخيفها من حيث انفتاحه المندفع مع النساء. وتوافقية أخرى بين فقدان الخال العائد إلى الوطن والطيار المحارب ثم العثور على جثة الطيار في قاع البحيرة، والعثور على بيرتا وجثمان الفلسطيني الغزال. وكما كانت بداية هذه الأحداث متزامنة في بداياتها كانت متزامنة في نهاياتها: فتشييع جثمان الطيار يتوافق معه انتهاء الأمل بالحصول على جثمان الفلسطيني آنيا، وسوف تظل هذه قضية عالقة شأنها شأن غيرها من قضايا الوضع النهائي.
هذه التوافقية تناقضها الارتطامات بين الحلم والواقع، فأكرم يعد العدة لاحتفالية بمقابلة بيرتا، وعمل برنامج حواري بين الطيار وخال الراوي، والرواي يفكر أين وكيف يواري جثمان خاله، ثم تقع الكارثة، فبيرتا تهدم الفصل الأول من المسرحية والإجراءات الإسرائيلية بخصوص الجثمان تهدم الفصل الأخير منها.
نحن إذن أمام رواية فكرية سياسية، رواية فيها عمق كبير وتحتاج لكثير من التاريخ وفهم تعقيدات القضية الفلسطينية لفهمها. إن العودة للوطن في الرواية حتمية مقابل إمكانية تحقق الحلم، والبديل للعودة هو معسكرات النفي في الدول العربية البعيدة. الواقع قائم ولا خيار غيره، والحلم أمل بمستقبل أجمل، ولكن الرحلة في الوطن –كما في الرواية- تبعث الألم والأشواق الحزينة والشعور بالاغتراب والانكفاء على الذات واستجلاب الماضي وتصور أملا قادما وفي كل معاناة وتمزق داخلي. رحلة يحيى حقي في الوطن بعد العودة كانت جارحة، وتسيل الدم في القلوب وفي العيون. رحلة قاتمة وباعثة على الأسى لأن الوطن لم يتحرر فعلا وإنسانه ما زال أسير الخوف والمراقبة والتفتيش والاحتجاز ومقيداً. والخراب عم المكان، والهوية تكتسحها جنازير جرافات المدن السياحية على النمط الأوروبي، والمعالم الأصلية مهملة وصدئة ومهترئة. فماذا بقي من بواعث فرح؟ ولذلك كان لا بد أن يصل الراوي (يحيى يخلف) وأكرم عابد في النهاية إلى النتيجة نفسها. التعايش غير ممكن؟ ما الحل إذن؟ ربما سيأتي في رواية أخرى.
تقوم تقنية السرد في هذه الرواية على اصطناع راو موازٍ للكاتب في حالاته كلها، ولكنه يجرد من نفسه ذلك الراوي الذي يروي حكايته وتجربته الآنية المباشرة وذكرياته وتجاربه السابق. والراوي في هذه الرواية راوٍ مشارك، يقص على القارئ الحكاية، ويوهمنا الروائي أنه يقدم رؤية مختلفة عن رؤيته من خلال الراوي المتمثل للقارئ.
لقد استخدم الروائي ضمير المتكلم وضمير الغائب حين يروي عن أونودو ومواقفه من الحرب والسلام بعد الحرب العالمية الثانية. إن ما نصادفه في هذا العمل هو «أنا الراوي» بدون أن نعثر على صوت آخر ذا معنى. لقد شارك أكرم ومجد في رواية بعض الحكايات الصغيرة، وطرحا بعض التساؤلات، ولكن الراوي الأساسي كان هو أنا المتكلم المشارك في الأحداث. صحيح أن مساهمة الشخصيات جميعها في الأحداث كانت هامشية، وكأنها كانت منفعلة بالأحداث أكثر منها فاعلة، وكأن الأحداث مُسيَّرة قدرية، ولذلك كانت أفعالهم هامشية، ومحصورة في رد الفعل أكثر منها قائمة على الفعل، إلا ما كانوا يمارسونه في رحلة عادية.
وقد تركت نزعة اللايقين أثرها في الرواية مضموناً وبناء «ومن نزعة اللايقين هذه، التي تشدد عليها الرواية العربية الجديدة، تنهض التطويرات الشكلية التي تقوم على تشييد سرد متشكك يعرض العالم أمام أعيننا بغموضه وهلاميته وعدم ترابطه.»(11)
وللحلم دوره في الرواية؛ فقد لجأ الروائي إلى هذه التقنية لكي يعبر عن مكنونان نفسه، فعندما استلم تصريح الزيارة لسمخ، أخذ يستذكر بوعيه ما ارتبط بذلك المكان من ذكريات حبيبة إليه، وذكريات أخرى مؤلمة كموت خاله عبد الكريم الحمد الذي عاد ليموت في «دار الأمان» حينما شعر بدنو الأجل، فيقتل على الحدود. هل خشي الراوي أن يموت قبل أن يرى سمخ؟ ربما. لكنه يحلم، ويرى فيما يرى النائم عالماً خيالياً يعرج فيه الراوي عبر السماوات إلى السماء السادسة حيث «يتجمهر اللاجئون والمعذبون والمحرومون» (ص33). صورة من صور الغفران ويوم الدخول إلى الجنان في ظل الرحمن ومالك الملكوت. حلم بالجنة. الوطن هو الجنة، فظل الله الظليل حيث يرث النور الأرض والبحيرة. (ص33).
وفي أجواء الأزمة النفسية الداخلية التي يتصارع فيها الحلم الجميل مع الواقع الصادم المحبط، يلجأ الراوي إلى الحلم هارباً من الواقع، وهو في جوه المشحون بالأسى على ما حل ببلدته، يأخذه اللاوعي إلى الماضي الجميل الذي يحن إليه، ماض مليء بالتفاصيل الصغيرة التي يتذكرها في ذلك الحلم، ويروي ذلك بكل حب وانجذاب إلى ذلك الماضي، «وخيل إليَّ أنني رأيت فيما يرى النائم عائشة بثوبها المغربي المطرز تجلس قرب المدفأة في بيتها الريفي في أعالي جبل عين دراهم، في ذلك الشتاء البعيد، عندما كان الثلج يتساقط، والنيران تأكل بعضها بعضاً، وخشب البلوط يطقطق، ومن جهاز التسجيل تأتي موسيقى رافيل حاملة معها ضجيج وصخب الحياة.» (ص85).
كما يعود الراوي إلى الحلم قبيل نهاية الرواية، حين يخرج أونودو من دفتره ويهرب، فيتابعه الراوي حيث يصطدم بباب كهف دخله أونودو، وكانت تلك الصدمة هي التي أعادت إليه الوعي، وهي التي أعادته من الحلم إلى الواقع. وجعل نتيجة الحلم واقعية، فقد أصيب بجرح في جبهته، كما انغرست الأشواك في قدميه وأصابعه ولحمه. إنها صدمة الواقع، واقع الاحتلال القائم، والتحرير الناقص المجتزأ، وواقع أن التعايش غير ممكن مهما حاول الفلسطينيون من طرق؛ فالفلسطيني لا مكان له في عرف الإسرائيليين في وطنه حتى ولو كان ميتاً، فيمكن أن يُدفن خارج فلسطين، بعد سلسلة من التأكيدات والإجراءات المطلوبة.
الحنين إلى المكان الأصلي الذي ولد فيه الراوي، وهو مكان مليء بالذكريات الجميلة، وكما يقول باشلار عن البيت «المأوى الطبيعي لوظيفة السكنى. إننا نعود إليه فقط، بل نحلم بالعودة إليه»(12) وهو بيت مسلوب «هش ولكنه يدفعنا إلى أحلام يقظة الأمان»(13). ولا ينحصر حنين الراوي إلى مسقط رأسه فقط، إلى المكان الذي عاش فيه أهله وأقرباؤه ووالده ووالدته وخاله عبد الكريم الحمد الذي دفع حياته عائداً ليموت فيه. هذا المكان كان بعيداً عنه، كان هناك «وراء الريح»، وحين وصل إليه وجده مختلفاً عما يحمله من ذكرى وصورة بقيت في ذاكرته سنوات طويلة. بل هو يحن لمكونات الوطن جميعها، يحن إلى المكان وإلى العائلة، بحيث يشمل ذلك الحنين الحياة بكاملها في الوطن: البيوت، والنباتات، ومحطة القطار، والبحيرة ومياهها وأسماكها، والأبقار والعجول والسمن والثياب ونوافذ البيت ومحطة القطار والأشخاص الذين كان لهم أدور في تلك الحياة التي يحن إليها. وحين يصل إلى ذلك المكان شعر بمرارة الغربة في الوطن أكثر مما كان يشعر به في المنافى. لقد انتظر العودة أزماناً «لقد قضيت ردحاً طويلاً من عمري وأنا أنتظر.» (ص 25)، وبعد أن وصل غزة، ووقف في شارع عمر المختار آلمته مرارة الاغتراب «أنا العائد أقف ضائعاً في شارع من شوارع وطني، أشعر بالغربة والوحدة أشعر برغبة في البكاء.» (ص 26).
كما يستدعي الراوي قصة الضابط الهندي كارانج العامل في قوات حفظ السلام في قطاع غزة قبل حرب 1967، وحين يقتل برصاصة إسرائيلية يصر قائده على حرق جثمانه بناء على تقاليد هندية، يستدعي الراوي تلك القصة ليشير إلى حالته النفسية بسوداوية «تعانق الفراشات الملونة المصباح لتموت موتاً صاعقاً، ويحترق (كارانج) بالنار ليعانق الخلود، وأنا هنا أحترق وحيداً ... أنا هنا لا أحيا ... لا أموت.» (ص 32).
يستدعي يحيى يخلف التراث الشعبي الفلسطيني، فحالة الانضباع التي مرَّ بها الراوي وجريه خلف أونودو لا تخلصه منها إلا الصدمة في جبهته بباب المغارة التي لجأ إليها أونودو هارباً من دفتر الراوي ومنطلقاً هارباً إلى الخلاء بدل البقاء كنص في دفتر الراوي. لقد انتقل الراوي من حالة الانضباع إلى حالة الوعي، إلى حالة الصحو. إنها دعوة الكاتب للتخلص من حالة الذهول والهذيان، إلى حالة تجاوز ذلك إلى محاولة فهم الواقع «ليس من أجل التسليم بواقعيته، بل للثورة على الواقع وإن بذور ذلك متوفرة داخل الصدور وفي الواقع الذي يصنعه الآخر الجلاد، وأن البحر الذي يدخل للبحيرة، لا يدخل للركون والنوم، بل للاستحمام كما يقول الكاتب للاستحمام الذي يطهره من محطاته السابقة»(14)، وكأن زيارته لسمخ نوع من التطهر من عذابات الماضي، وآلام المنافي