عرض مشاركة واحدة
قديم 03-13-2014, 06:24 PM
المشاركة 17
روان عبد الكريم
كاتبـة مصـريّـة
  • غير موجود
افتراضي
الحلقة 7
شادن تتحدث
تركت الحديقة فى نحو العاشرة صباحاً ، وظل نادر الكئيب يخيم عليها ، ودخلت القصر الرمادى مرة أخرى ، لم يكن لدى درساً اليوم ، وقد خرج خورى ورفيقه بعد الإفطار بقليل ، وجوجى منشغلة فى مطبخها الأثير تعدالغذاء لعمال الضيعة الذين يعملون فى حقول التفاح والعنب الملحقة بالضيعة منذ السابعة صباحا حتى السابعة مساءاً .. ويربو عددهم على خمسين عاملا وعاملة ... يتناولون طعامهم فى باحة خلفية مغطاة صفت فيها منضدة خشبية كبيرة سمرت بالأرض ومقاعد قشية مهترئة ، ومازلت أذكر حينما تسللت خفية لأنظر لهم من فرجة بين الأخشاب العتيقة يتصاخبون فى سعادة للساعة اليتيمة التى يستريحون فيها ليأكلوا ما يجود به عليهم خورى العجوز ... وقد لوحت الشمس وجوههم البسيطة وارتفعت ضحكاتهم بينما سعدان القائم بتوزيع الطعام يطالبهم بالهدوء فلا يأبهون له ... هؤلاء البسطاء .... رغم الشقاء ...أحرارا.

غص قلبى وأنا أتجول بين جنبات القصر الباعث على الفزع بجدرانه الرمادية وأضوائه الخافتة وشرفاته المغلقة دائماً إلا فى حفلات العمل.

كان الوقت مازال مبكراً على الغذاء ، وقد فكرت أن أذهب لجوجى فى المطبخ لأحظ ببعض الصحبة الطيبة وأسمع خفية دعائها إ لىّ ، إلا أنى بعد أحداث الصباح استبعدت الفكرة ، وخشيت أن يلحق الأذى بالخادمة الحنون ، فتعاطفها معى لن يغيب عن حس العجوز الماكر .. ومما سمعت من عمال الضيعة عن قصص تروى عنه
إنه سريع الغدر ... سريع الغضب وقد وضع بين جنباته قلباً من حجر صوان لا يلين أبداً..وهذا اختبرته بنفسى كثيراً.

أخرجنى من أفكارى صوت فدوى ينادى على بسام فهرعت لشرفة القصر الأمامية لأراه مغادرا يحمل حقيبة سوداء صغيرة وفدوى تلحق به تعطيه حقيبة أخرى صغيرة .. ظنى بها طعام الغذاء فيأخذها ويمضى بينما تقف هى كالأم الرؤوم تلوح له مودعة
ناديت عليها ... إلا أنها تجاهلتنى عن عمد ... وسارت مبتعدة نحو الدار وأغلقت الباب خلفها دون أدنى إلتفاتة وكأنها تلومنى على رحيل بسام المبكر .... ولكن ظنى بها حسن ... فأمثال فدوى يملكن قلوب من ذهب .. تنير لمن حولها ولا يعلوها أبداً الصدأ ... أعرف إنها غاضبة ولكنها أملى الأخير هى وبسام

فى النهاية لم يكن هناك سوى شادن لأجلس معها وأتكلم معها وأحكى لكم عنها


... قد أكذب حينما أقول أننى لست حفيدة خورى ، ابنة لوسيا خورى ، تلك الأم التى تتراء لى صورتها من بعيد كطيف هلامى ، فقد انمحت ذكرياتى عنها منذ طفولتى المبكرة ولم يبق منها سوى بعض الصور القليلة التى تشهد بوضوح أن ما يجمعنا يكمن فقط فى عينيها ، عينيها التى تتراقص بالفرح وهى تضع يدها فى ذراع أبى فى صورة زفافهما الوحيدة.
وصو ر آخرى وهى تحملنى رضيعة ثم فى أعوامى الأولى بينهما ثم لا شئ بعد ذلك.

تنبأنى صورها عن سعادتها وحبورها ، تلك السعادة تضع أمامها علامة استفهام كبيرة لأختفائها من حياتنا ، وتجعلنى اتساءل هل خطفها الجد البغيض ، لكن دوماً كان هناك اتصالات متباعدة كل عام بأبى وهو يكظم غيظه ويطالبها بتفسير لموقفها ... فلا يسمع منها سوى النحيب ... حتى يأتى العام اللاحق وقد قاربت العام هنا ... وينبؤنى حدسى أنها ستتصل بأبى وتعرف منه إختفائى .. ولكن أين هى .. وإذا كان خورى أبوها .. فلم لا تقيم معه ؟ !.. وتزداد حيرتى أضعافا ... إن القصر ببنيانه الضخم وحوائطه الجرانتية يحمل العديد من الصور ولا توجد صورة واحدة لها ، من بين العديد من الصور التى تزخر بها تابلوهات الحوائط لعائلة خورى العتيدة وقد زادت رهبتى وأنا أغوص فى القصر للمرة الأولى ، إنها صور لنساء ورجال وقد أتشحت بالسواد حتى صورة ذلك الطفل الصغير الوديع ، الذى يحمل الكثير من ملامحى ... بل يكاد يكون صورة طفولية منى ... كان ثمة كلمات بخط أسود صغير أسفل الصورة لم استطع قراءتها من بعيد

حاولت مرارا الوقوف على أطراف أصابعى وأنا أقرأ إيلى خورى ، وإذا بصوت هامس يقول

- دع الموتى يرتاحون يا بنيتى

كان صوت خديجة وهى تربت على ظهرى ثم تنصرف لتأخذ ساعة القيلولة بعدانتهاءها من إعداد

الطعام.

تبعتها ببصرى وهى تدلف حجرتها الصغيرة وتنظر لى نظرة مشفقة ثم تغلق الباب خلفها... تتركنى لأعاصير تصارع بداخلى وعلامات أستفهام تدور فى رأسى وكأبة الموت تحيط بى تكاد تلتهم الجماد المحيط حتى ذاك البيانو فى الركن رغم أنه يقبع نظيفاً وبراقاً يفضح صمته الطويل الصرير الصادر من مفاتيحه المهجورة منذ زمن بعيد ... ويخبرنى نشاز أوتاره أن وجوده فقط من عوامل الترف فى القصر ليس إلا ..., ابتسمت فى ملل ويدى تعابث البيانو فى قسوة ضارية فتصدر أصواتاً تؤرق موتى القبور إلا الزر الأخير لم يعمل... حركته يمنيا ويسارا ثم نزعته بشئ من العنف الذى يفور فى أعماقى وأنا أهتف:-
لابأس هو مهمل .. فلن يضيره المزيد من التخريب .. ثمة حشية قرمزية اللون محشورة فى ثنايا البيانو استرعت انتباهى .. فاخرجتها بلطف فإذا بها تحوى بين أطرافها أوراق صفراء معنونة بلغة فرنسية تحمل عنوان "أوراق سيلين" يبدو أن شخصا ما وضعها هنا
هناك عبارة كتبت بخط منمق فى الصفحة التالية
إلى ابنتى وبين طيات الأورق وجدت صورة ضوئية بالأسود والأبيض لسيدة أجنبية الملامح وفتاة فى نفس عمرى...كانت المذكرة الصغيرة تربو على ثلاثين صفحة كتبت بالفرنسية وقد أصبحت نوعا ما جيدة فى اللغة بالإكراه....وضعتها بجيبى .. اعتقد أنه مع الإستعانة بقاموس استطيع حل رموزها ثم تذكرت خطأ العجوز فى الصباح
تشبهين سيلين
ترى من هى ...أهى إحدى ضحايا خورى العظيم وقد بنت يوماً على شواطئ الأمانى قصوراً من الأمل اينعتها أحلام المطر الكاذبة ثم هوت وخلفت من ذكراها مجرد أوراق مهترئة ... استيقظت من أفكارى على خطوات رتيبة تذرع البهو فخبأت الأوراق فى جيبى واستدرت لأجد جانو تقف فوق رأسى وتسألنى فى لهجة محايدة:-

أنسة ، أعلمك أنك ستعاودين دروسك بانتظام من غد باكر .... وإذا كنت فى حاجة إلى و..
لم أنتظرسماع بقية جملتها .... ودون أدنى إلتفاتة صعدت الدرجات الرخامية إلى حجرتى كى أخبأ كنزى الثمين أوراق سيلين.

وضعتها أسفل حافة فراشى واستلقيت فى كسل أتساءل ترى ماذا تخبئ الأوراق؟
ترى ماذا تخبئ لى الأيام ؟ ... ويؤرق شئ فى ضميرى معاملتى الفظة لجانو... بيد أنها تكاد تحصى أنفاسى لتخبرها للعجوز ... تنهدت مرة أخرى ثم حدقت فى السقف البعيد وخيالات تتراء لى والنعاس يخدرنى ويخرجنى من واقع العذاب لأحلم مجددا بالمطر ... آه المطر

لاهية فى أحلامى والمطر الحنون يغمرنى وبين أطياف الغيم يضوى وجه بسام .. مبتسماً وثمة خصلة عابثة تتراقص على جبينه بينما يتمتم بشئ يبعث الإرتياح فى نفسى ويغمرنى بعذوبة ... نمت تلك الظهيرة دون أن ادرى أن فى هذه اللحظة كان هناك صراعا مريرا يعتلج فى نفس بسام وأن مصيرى سيتحدد نتيجة هذا الصراع






بسام
مالى ومال هذه الطفلة أن نادر على حق وهو أدرى بخطورة وضعنا فى لبنان ليس فقط وظيفته لدى خورى .. ولكنها طفلة بريئة تتعرض لظلم بشع ...عرفت من حكى فدوى عنها أنها ابنة لوسيا الابنة الوحيدة لغسان خورى التى هربت منه ذات يوم وتزوجت مصرى مسلم ، وهناك فى القاهرة وضعت طفلتها وأن الجد لم يكن يعرف عنها شيئا حتى العام المنصرم ، وأن اكتشاف وجودها جاء بمحض الصدفة ، حينما وقع فى يده خطابا عن طريق الخطأ ارتد للضيعة من لوسيا إلى ابنتها ، يومها وجد أن أمله فى حفيد تجدد ودبر لاحضارها لبيروت بأى وسيلة وهو يستميت فى بقائها بكل قوة ويحاول تصحيح خطأ ابنته من وجهة نظره وفى سبيل ذلك هو يدمرها وينزع جنسيتها وهويتها لتصبح ناتالى المسيحية الديانة اللبنانية الجنسية وقد اخبرتنى أنه يقال أن ناتالى فتاة أحبها فى ريعان شبابه وأنها هاجرت عن لبنان كلها هى وعائلتها ولم يعرف لها طريقاً
تنهدت وأنا أمسك سور النافذة حيث أقطن فى أحد البنايات التى توفرها لنا الشركة فى قلب بيروت وقلبى يتملكه الضيق .. وصورة نادر تتراء لى .. إننى أدرك أن تنزع جذورك وتزرع فى بيئة غير بيئتك وشمس غير شمسك ، فى النهاية تنتج مسخا إنسانيا لا يحمل سوى الكراهية والإنتقام بأبشع صوره إذا ما سنحت الفرصة .

ما أفظع هذا .. هتفت فى خمول وألم .. إننى أدرى الناس بقيمة أن تكون للك هوية حتى وإن لم يكن لديك وطن ، فأنا سليل عائلة الجارحى الناصرية أشهر العائلات الفلسطنية الفدائية بالناصرة وقد أكون أخر أفرادها على الإطلاق


وعصفت بى أعماقى وأنا أمضى كالسجين فى شقتى البيروتيه الصغيرة التى أقطنها مع صديق لى يدعى أياد سورى الجنسية .. أحاول كل جهدى إلا أحدث ضوضاء كي لا أوقظه فمازال الوقت مبكرا

ثم تراء لى وجهك يا فدوى الحبيبة ... آه يا فدوى كم أحتاج رفقتك الآن فلست أعتبرك شقيقتى فقط بل كثيرا ما لعبت دور الأم رغم فارق الأعوام بيننا ...أحتاج للتركيز للخروج من المأزق الذى وضعتك فيه بأنانية ..كنت أطوق فى زيارتى هذه لحل المشكلة بيننا ووضع الأمور فى نصابها .. كيف لى أن أظلمك بهذه القسوة .. لكن ذلك النحيب يقلق مضجعى ويشتت تفكيرى .. يا له من نحيب لفتاة تشتاق لنفسها ووطنها

أتساءل فى أسى ماذا يمكننى أن أمنحه لها فى حالتى هذه... أقف و أرجع شعرى للوراء فى حركة رتيبة محملقاً من النافذة وقد بدأت الحياة تدب فى الشارع .. وثمة رغبة تجتاحنى أن أهرع لقصرخورى ..وأحطم الأبواب وأذهب بشادن للقاهرة ..أعطيها الحرية التى أفتقدها دائماً

لكن هناك نادر ..نادر الذى طالما حاولت أن أعيده لدائرتنا فيقترب حينا ويبتعد أحيانا .. إنه يقيم مع غسان منذ خمسة عشر عاما..ولن يضحى بحياته أو ظيفته من أجل فدوى نفسها

جل ما يخشاه أن يخسره ويصبح ابن العم عدواً شديد المراس صعب الطوية

انتابنى صداع رهيب فى هذه الليلة ونمت محموما

تنتابنى شتى الأحلام
شادن تغرق فى بحر مظلم عميق تصارع الأمواج
بينما أقف أنا على الشاطئ أدير رأسى أتلفت بين الحين والآخر لعل البحر أن يبتلعها ويخلص ضميرى من صراخها
ويأتينى فى أحلامى من بين أطياف الغيم فارسا نبيلاً أمراً بصوته الفولاذى

-انقذها
أسال .. من أنت ؟ ! .. من أنت ؟!
- ألا تعرفنى ؟
- بل أعرفك ولكن لا أتذكر اسمك ..
- فيقول أمرا أذهب .. أنجدها
- من أنت ؟! ... فيصفعه ويقول
- يلا مرؤة العربى
التفت مرة أخرى صوب البحر ليجد فجوة عميقة سوداء تبتلع شادن ومعها فدوى لأعماق الظلمة فتمتد يدي بسرعة كيدى عملاق تتشبث الفتاتان به
ثم اجد وجه الفارس يمتزج بغيم الحلم وهو يقول
لا تتركها أيها الناصرى لا تتركها ابداً


استيقظ مذهولاً وآذان الفجر المنبعث من المذياع يدور فى أذني ، بينما تمتد يد شريكى فى السكن وصديقى أياد وهو يهزنىبلطف أن استيقظ ويهتف به وقد انتابه الهلع لصراخه
- استيقظ يا بسام ... ما بك يا بسام ؟ .. استيقظ يا صديقى
يناولنى كوب ماء وهو ينظر لى فى حيرة متنهدا وهو يرقب صدرى يعلو ويهبط
تساءل وهو يجس جبينى الغارق فى العرق .. من الأفضل أن نذهب للمستشفى حالتك سيئة
ازحت يده برفق .. فقط أحتاج للراحة .
نظر لى بشك
أردفت أبلغهم فى العمل بحاجتى لإجازة اليوم
عقد حاجبيه فى شك وعناد .. تحتاج طبيب
اشحت برأسى ستمر علىّ فدوى فى الظهيرة لا تقلق
عقد يديه فى حزم .. هناك خطب ما
اغمضت عينى وأنا أروى له .. إنى أحتاج من يساعدنى ... أحتاج الأمر بشدة