عرض مشاركة واحدة
قديم 06-29-2011, 09:27 PM
المشاركة 7
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ذكريات عن مؤنس الرزاز
محمود شقير - عن موقعه

وأنا أعيد قراءة "جمعة القفاري.. يوميات نكرة" المكتوبة بأسلوب هزلي ظريف، لاحظت كيف يكتب مؤنس رواية أردنية بامتدادات عربية وبأفق إنساني يتسع لهموم إنساننا العربي المعاصر.

لاحظت كيف يحتفي الكاتب بعمان دون مبالغة أو افتعال. كيف يعدد أسماء مدن أردنية وقرى، ما يعطي المكان في الرواية مكانة مرموقة ويسبغ على الرواية نكهة محلية خاصة. لاحظت كيف يسرد أسماء كتاب أردنيين وأسماء سياسيين أردنيين كان لبعضهم دور بارز في الماضي القريب، في حين أن بعضهم الآخر ما زال يؤدي دوراً بارزاً حتى الآن.
لاحظت كيف استوعب مؤنس، ولم يمض على عودته إلى عمان سوى بضع سنوات، التغيرات التي فعلت فعلها في النسيج الاجتماعي للمدينة وفي منظومة القيم. كيف استوعب ما يجري في عالمنا من تغيرات سلبية حادة، تركت أثرها علينا وعلى غيرنا. وكيف جسّد كل ذلك في عمل فني هزلي ممتع.
وأنا أعيد قراءة الرواية، لاحظت كيف أن معاناة مؤنس بسبب حساسيته المفرطة، تزداد تفاقماً، ولا ينفع فيها النصح الذي ورد في الصفحات الأولى من الرواية، حينما يقول الدكتور جوزيف، لجمعة، الشخصية الرئيسة في الرواية، التي تعبر عن مؤنس على نحو ما: تصالح مع نفسك يا جمعة، وتصالح مع الحياة، وإلا أصبت بانهيار عصبي أو جلطة مبكرة.

2

وأتذكر مؤنس حينما كنا ننهمك في التحضير لانتخابات رابطة الكتاب (كانت الرابطة تخلط السياسة بالثقافة، تتحدى الحكومة بين الحين والآخر على نحو ما، ولا تكف عن الدعاية لأفكار اليسار). قبل موعد الانتخابات بشهرين أو أكثر قليلاً، تبدأ اجتماعاتنا الدورية التي اعتدنا عقدها في البيوت. نلتقي في بيت هذا الصديق أو ذاك، لنضع خطتنا في التحرك لكسب الانتخابات. وهذا يتطلب بالضرورة اتصالات مثابرة بأعضاء الهيئة العامة للرابطة.
كان مؤنس يحضر هذه الاجتماعات أو أغلبها على وجه التحديد، والاجتماعات تستغرق وقتاً طويلاً لاشتمالها على تفاصيل كثيرة مملة. قبل نهاية الاجتماع بقليل، كان مؤنس يردد مطلع أغنية سيد درويش: أنا هويت وانتهيت! يرددها متلفظاً بها لا مترنماً، ولا يلبث أن ينهض متأهباً لمغادرة المكان (في رواية جمعة القفاري، لاحظت أن مؤنس يقول على لسان بطل روايته: تعلمنا ترديد مطالع الأغاني من دون أن نحفظ الأغاني بالذات).
استعان مؤنس بالكثير من تفاصيل حياته اليومية لكي يغني أدبه الروائي، بحيث يبدو أدباً مشخصاً طالعاً من حرارة التجربة وخصوصيتها.

3

وكانت لنا أمسيات كثيرة.
واحدة منها في بيت مؤنس.
ذات مرة، جاء وفد من الكتاب السوفيات إلى عمان، فاستضافهم مؤنس في بيته (كم كنا مغتبطين لوجودهم بيننا، لأنهم قادمون إلينا من بلد ثورة أكتوبر! وهذا وحده كان كافياً بالنسبة لنا لتوفير مساحة من الانسجام). لكننا جلسنا في البيت ونحن لا نعرف كيف نتفاهم معهم. وكنا ننتظر وصول زملاء لنا ممن يعرفون اللغة الروسية.
قمنا قبل وصول العارفين باللغة، بمحاولة لم تكن ناجحة. حاولنا إدارة حوار بيننا باللغتين الروسية والعربية، واعتقدنا أننا نتقدم في الحوار على نحو ما. حينما وصل زملاؤنا، روينا لهم تلك المحاولة المرتجلة، فاكتشفنا بحسب ما قالوه لنا، أننا كنا نحطب في واد، وأصدقاؤنا من الكتاب السوفيات يحطبون في واد آخر. لكننا مع وجود الترجمة التي تيسر التخاطب بين المتخاطبين، بقينا حتى ما بعد الساعة الثانية عشرة ليلاً ونحن نشرّق ونغرّب حتى أشفينا غليلنا إلى التفاهم مع وفد صديق، قدم له مؤنس في بيته كل أشكال الحفاوة والاحترام.

4

كتبت في دفتر اليوميات:
كنت ذاهباً إلى رام الله هذا الصباح. حينما اقتربت من حاجز قلنديا العسكري، أوقفت سيارتي خلف سرب طويل من السيارات. هنا يحكم العسكر قبضتهم على المكان. هنا أتعذب كل يوم وأنا ذاهب إلى عملي. أنتظر ساعة أو ساعتين كل يوم. جاءني صوت مؤنس من إذاعة مونت كارلو. مؤنس يتحدث عن الأدب، وعن الكتابة وعن هموم الحياة. يتحدث عن ابنته التي أصبحت صبية لها رأيها في أمور كثيرة.
مؤنس يتحدث بصوته الرخيم، يتحدث بتؤدة ووقار.
كانت مونت كارلو تعيد بث حديث طويل أجرته معه قبل الغياب.

صحيفة الاتحاد/ حيفا/ الجمعة 8 / 6 / 2007