عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
1

المشاهدات
8192
 
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي


ريم بدر الدين is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
4,267

+التقييم
0.68

تاريخ التسجيل
Jan 2007

الاقامة

رقم العضوية
2765
09-09-2010, 04:57 AM
المشاركة 1
09-09-2010, 04:57 AM
المشاركة 1
افتراضي مارسيل بْروسْتْ
مجلة الموقف الأدبي حزيران 2006







مارسيل بْروسْتْ Marcel Proust ـــ لطيفة ديب

(أنا آخر)‏

في كتابه "ضدّ سانْتْ بوف"، يتهجم "مارسيل بْروسْتْ" على "الأسلوب الشهير" في النقد، الذي بموجبه يكون عمل الكاتب، قبل كل شيء، صورة حياته التي يمكن أن "يُوَضَّح" الكاتب من خلالها. في الواقع، بقدر ما تزداد الحساسية الخلاّقة غنىً وتعقيداً نقل قابلية تحليلها إلى المعطيات المرئية من سيرة حياتية. يقول "بْروسْتْ": "إن الكتاب هو "نتاج أنا آخر" غير الذي نظهره في عاداتنا وفي المجتمع وفي عيوبنا". هكذا إذاً، كل ما هو هام في ذات الكاتب تكشفه لنا أعماله أكثر من مظاهر العبث والدماثة التي تسم حياته (على الأقل خلال شبابه) التي تكاد أن تكون في الواقع دائمة الأمل والاضطراب. غير أن الاضطرابات والأسرار وحتى عيوب "الإنسان"، كالسنوبية مثلاً، تتبدّى عند "الرومانسي" في حقل لا ينضب من التحاليل والتجارب.‏

ولد "مارسيل بْروسْتْ" في "باريس" في العاشرة من يوليو 1871. وكان والده الدكتور "أَدْرِيانْ بْروسْتْ" Adrien Proust أستاذاً في كلية الطب أما والدته فهي "جانْ فييْ" Jeanne weil ابنة أحد الصرّافين.‏

فيما كان الدكتور "برْوسْتْ" يكرّس وقته لمهنة شاءها جميلة، أخذت والدة "مارسيلْ" وجدته على نفسيهما مهمّة تكوين نفسية "مارسيل" الطفل. فكانتا لـه قدوة في التحلّي بالفضائل النادرة، كالتواضع المتناهي وجعل التضحية ونبالة المشاعر طبيعة فيه.‏

ولد "مارسيل" ضعيفاً جداً، حتى إن بقاءه على قيد الحياة كان مشكوكاً فيه. وكان منذ نعومة أظفاره ناحل الصحة. ذهب يوما إلى غابة "بولونيا" مع أهله وعائلة صديقة، وكان عمره آنذاك تسع سنوات؛ وأثناء العودة، أُصيب بنوبة اختناق مخيفة على مرأى من والده الطبيب الذي اعتراه الهلع. فأصبح "مارسيل" منذ ذلك اليوم ولداً مختلفاً عن سائر الأولاد، لا يستطيع أن يركض أو أن يقفز أو أن يستسلم لحيويته.‏

فوجبت إحاطته بالرعاية وتجنيبه المعاكسات والقلق والامتناع عن مطالبته بأقل مجهود.‏

في شهر أكتوبر من عام 1882، دخل مدرسة "كونْدورْيهْ" Condorcet ، وقبل في الصف السابع. وقلما كانت حالته الصحية تسمح لـه بعمل منتظم، فكثيراً ما كان متغيباً، حتى إنه اضطر إلى إعادة الصف العاشر (1886 ـ 1887). إنما، هذه المرة، بدا واضحاً أن صحته تحسنت. فقد أمضى سنة ممتازة وأحرز تقدماً كبيراً، وفي نهاية الصف الحادي عشر (يوليو 1899)، حصل على الجائزة الأولى في الإنشاء الفرنسي.‏

اعتاد "مارسيل" الذهاب إلى "الشانزيليزيهْ" بعد الدوام وبعد الظهر من أيام الخميس.‏

وهناك كان يلقي زمرة صغيرة من أترابه فتيات وشباناً. وكان من بينهم "ماري دُبينارْدَكي" Marie de Bènardaky التي أصبها والتي قدّمت فيما بعد، إلى مؤلّف "البحث" معظم صفات "جيلْبرْتْ" Gilberte .‏

كان لطيفاً لدرجة الإزعاج والإيحاء بعدم الثقة. ولم تكن تأكيداته الكثيرة لصداقته تبدو معقولة، مما كان يغيظ رفاقه وكانوا يجدونه ثقيل الظل. وكان "مارسيل" يعرف ذلك ويحزن لـه. وقد كتب "كان إحساسي بكوني كذلك كابوسي الدائم".‏

كان "برْوسْتْ" يلجأ بكثير من الثقة إلى أستاذ الفلسفة "أَلْفونْسْ دارْلو" Alphonse Darlu الذي أثر فيه تأثيراً بالغاً. فقد كان تعليمه موجَّها ضد الماديّة وضد الأدب الطبيعي في آن، فجاءت دروسه لتوازن في عقل تلميذه، تأثير "جولْ لوميتْرْ" Jules Lemaitre و"أناتولْ فْرانْسْ" Anatole Jrance.‏

انتهى صف الفلسفة بنتيجة باهرة بالنسبة للتلميذ الفتي. فأدّى دون إبطاء واجباته العسكرية وذلك في فوج المشاة السادس والسبعين في "أورليان" Orlèans ، وسُرِّح في أكتوبر من العام 1890. فكان عليه بدء الدراسات العليا. ولو كان الأمر لـه لاختار الأدب أو الفلسفة. لكن والده فرض مشيئته. وفي العشرين من نوفمبر عام 1980، تسجّل "برْوسْتْ" في كلية الحقوق. وفيما كان يتابع الدروس فيها، كان يحضر الدروس في مدرسة العلوم السياسية بشكل منتظم تقريباً، فرسب في القسم الثاني من الامتحان وذلك في شهر أغسطس من عام 1982. ويكتب "برْوسْتْ" عن والديه أنهما مرضاً بسبب رسوبه.‏

آنذاك عزم على بذل جهد حقيقي؛ وفي لعام التالي، حصل على درجة مجاز في الحقوق.‏

فكان عليه من جديد أن يتخذ قراراً. ومن جديد تعارضت آراؤه مع آراء أبيه. كان هذا الأخير يريد أن يرى ولده في ديوان المحاسبات أو في السلك الديبلوماسي و"مارسيل" الشاب يتملّص إلى أن انتصر وتسجّل في "السوربون" Sorbonne وعمل فيها باجتهاد وفي السابع والعشرين من مارس 1895، تقرّر قبول "بْروسْتْ" في الامتحانات الشفهية للإجازة في الآداب، ونجح في الأيام التالية.‏

لم يكن "برْوسْتْ" قد انتظر نهاية دراسته كي ينخرط في المجتمع. فقد كان من بين رفاق صفه "جاك بيزيهْ" Jacpues Bizet و"جاك بينييرْ" Jacpues Baignères، تحتلّ أيضاً مركزاً مرموقا في المجتمع. دعت هاتان السيدتان الفيلسوف الشاب، صديق ابنيهما، وكان ساحراً للغاية بلطفه وذكائه. كما أن سيدات أخريات اجتذبنه بدورهن. فقد استقبلته السيدة "دُكايّا فيهْ" de Caillavet. ثم بدا يرتاد منتدييْن هما منتدى السيدة "أوبِرْنونْ" Aunernon ومنتدى السيدة "مادْلينْ لوميرْ" Madeleine Lemaire.‏

واستطاع أن يتقرّب من الكونتيسه "دادِيوم دُشو فينْييْ" D Adhèaumede Chevignè فالتقى عندها "شارْلْ هاسْ" Charles Hass . وبواسطة "آل بينييرْ" تعرّف إلى "آلْ دوديهْ" daudet وأصبح أحد روّاد منتدى شارع "بيلّ شاسّ. وفي ضاحية "السانْ جرمانْ" Saint-Germain قُدِّر لـِ "برْوسْتْ" أن يلتقي عند السيدة "لوميرْ"، الكونْتْ" روبيرْ دُمونْتِسْكْيو" Robert de Montespuiou الذي شمله برعايته. وهذا ما يفسّر مقولة "بْلانْشْ" Blanche : "إن "مونْتِسْكيو" هو الذي أدخل "برْوسْتْ" في عداد النخبة الحقة". وتجدر الملاحظة أيضاً أن "برْوسْتْ" لم يدخل حقاً على "تكتل شارع أسْتورْ" إلى مجتمع الكونتيسه" غرْيفولْهْ" Greffulhe ، التي وصفها فيما بعد باسم "غِرْمانْتْ" Guermantes. فقد اكتفى "مونْتِسْكْيو" بإعطائه، عن هذا الوسط المغلق، المعلومات التي استخدمها فيما بعد في روايته. ولكي يشكر "مونْتسْكْيو" كان "مارسيل" يضاعف جهوده ليؤمّن نشر مقالات يجده فيها على صفحات "المجلة البيضاء" La Revue Blanche ، و"مجلة باريس" Le Revue de Paris و"الغولّوا" Gaulois.‏

في 28 مايو من عام 1985، تقدم "مارسيل" إلى مسابقة ملحق بالمكتب. فقُبل وعُيِّن في المكتبة "المازارينيّة" Mazarine كان الملحقون بالمكتبة ملزمين بالحضور خمس ساعات في اليوم ولمدة ثلاثة أيام في الأسبوع، ولم يكونوا يتلقّون راتباً. وفي الخامس والعشرين من أكتوبر عام 1895، ولسوء حظ "برْوسْتْ"، أُلحق بمكتب الإبداع القانوني. كان العمل فيه شاقاً.‏

فأسرع "برْوسْتْ" بطلب إجازة لمدة سنة، فحصل عليها ونجح في تجديدها لأربع سنوات متتالية. لكن، في 14 فبراير من عام 1900، أخطرته الإدارة بوجوب الالتحاق بمركز عمله.‏

فلم يتنازل بالإجابة. وفي الأول من مارس التالي، أُبلغ أنه اعْتُبِر مستقيلاً.‏

في العام 1896، طبع كتابه الأول "الملّذات والأيام" Les Plaisirs etles Joors وقد قدّم لـه "اناتولْ فْرانْسْ". لقد كشف هذا الكتاب في صفحات عديدة عن مواهب كبيرة لقيت تقدير الضالعين في تمييز الموهبة، أي الأدباء. غير أنه في الزمن الذي نُشر فيه، بدت تحاليله ذات دقّة لا طائل تحتها، وظهر أسلوبه ذا أناقة مائعة وباهتة، وكان العرض يُرثى لـه، والنص تطغى عليه، رسوم "مادلين لوميرْ" وموسيقا "رينالدو هاهْنْ" الملحقة به، فضلاً عن ذلك، كان ثمن الكتاب باهظاً فجاء الفشل تاماً.‏

وقام "بْروسْتْ، في سبتمبر من عام 1895 برحلة في مقاطعة "بريتانيا" مع "رينالْدو هاهْنْ" وهناك باشر العمل في روايته المقبلة وأنجز ثمانية فصول آنذاك وقد انتقى أشخاص روايته من بين الرجال والنساء الذين أُتيح لـه أن يُعاين، أمثال "رينالْدو هاهْنْ"، و"فْرانْسْ"، و"دارْلو"، والسيدة "سْتْراوْسْ"، و"مادْلينْ لوميرْ" والعديدين غيرهم. ولم يكن متملِّقاً في وصفه جميع هؤلاء الأشخاص.‏


في 26 نوفمبر من عام 1903 ، توفي الدكتور "برْوسْتْ" إثر إصابته باحتقان دماغي لم يمهله سوى يومين. وبعد أقل من سنتين، في 26 سبتمبر من عام 1905، ماتت السيدة "بْروسْتْ" بعد أن مرضت بضعة أيام. ويكتب ابنها "فقدتْ حياتي منذ الآن، هدفها الأوحد، وحلاوتها الوحيدة وحبها وعزاءها الوحيدين". وقد ارتاعت السيدة "دُنْوايْ" ليأسه المرير الذي قدم على البوح لها به بدون تحفظ، فتوسَّلت إليه ألاّ يعيد على مسامع الآخرين أسراراً يكشف البوح بها أعماق نفسه. وكانت أولى النتائج لهاتين المصيبتين أن صحة "برْوسْتْ" التي كانت حتى ذلك الوقت ضعيفة، أصبحت رديئة. وأصبح يبدي في الناس رأياً لا تَوَهُّمَ فيه ولا شفقة. فكان يلذّ لـه أن يكتشف جبروت الشرّ الفعّال وأشكال الرذيلة الأكثر قباحة. يُقال إنه موَّلَ دارا للقاء العابر حيث كان يلتقي "أرستقراطيو صودوم". وقد تفوّه الناس باسم الشخص الذي كان يدير ذلك البيت وباسم الشارع حيث يقع. ويؤكّد هؤلاء الناس أن "برْوسْت" كان يرتاده ليعاني عن كثب، وخفيةً، أشكال الفساد الأشد انحطاطاً، ولا يبدو استبعاد هذه المزاعم ممكنا وقد تحدّثت المجلدات الأخيرة من "البحث"، بشكل جليّ، عن جو الفساد والخساسة ذاك.‏

في العام 1919، عاوده المرض فشكا تشوّش النطق وأصابه تعثر في الإلقاء اعتبره أمراً خطيراً. كما أُصيب بأزمات قلبية كانت تتكرّر بازدياد. وفي العام 1921، ظلّ متمدّداً سبعة اشهر متتالية. وف ي17 نوفمبر، ظن أنه تحسّن، فعاود تصحيح التجارب المطبعية وزاد على النص بعض الإضافات. وفي الساعة الثالثة صباحاً، نادى "سيلسْتْ" وأملى عليها شرحاً مطوّلاً. وسُرَّ بذلك. وفي اليوم التالي، الثامن عشر من نوفمبر عام 1922، وفي الساعة الرابعة بعد الظهر، مات "بْروسْتْ". لكنه كان قد فاز بالمباراة التي استمرّت عشر سنوات، فلم يسبقه الموت. لقد توفّر لـه من الوقت ما يكفي لأن يصل بعمله حتى النهاية ويعطي العالم "البحث عن الزمن المفقود" La Recherche du Temps Perau .‏

يُقال إن "بْروسْتْ" كتب "البحث" كأنه يشيد نصباً لذكرى والدته. كما قيل وبحق إنه كان للسيدة "بْروسْتْ" بعض سمات الأديبة السيدة "دُسيفينييهْ" de Sèvignè التي أحبتها كثيراً. ومعلوم لدينا أن السيدة "بْروسْتْ" ووالدتها جلبتا لـِ "مارسيل" الشاب كنوزاً من الحنان المألوف والذكاء المتّقد وأيقظتاه على حياة القلب الدائم التأهب.‏

وقد أثرّ موتهما تأثيراً عميقاً في "بْروسْتْ" ـ الإنسان. وفي "البحث" "ماما" لا تموت، هي حضور وليست قدراً. فهذا الحضور وهذا النداء الذي لا تنفكّ الأم تطلق، هما أصل رواية "برْوسْتْ" وأصل اندفاعه. إن تحوّل السيدة "بْروسْتْ" هو انتقالها إلى "الأجسام" الرومانسية. فـ "كومْبْري" هي السيدتان ـ الأم والجدة ـ اللتان رافقتا طفولة "بْروسْتْ" وفترة شبابه. إنهما تجسدان، في نظره، نوعاً خاصاً من الفضيلة المتشدّدة ولكن المعتدلة بما يرافقه من حشمة وتواضع وقبول وألم؛ والإدانة التي أحسها الكاتب فيما بعد، أظهرها موت الجدة: إدانة صامتة قابلها بالتكفير بالعمل الفنّي، بجهده في إعطاء خيالَيْ جدته وأمه، الرضى الذي ما عرف أن يحققه لهما في حياتهما، وهكذا عمل الرجل متأخراً على دفع ثمن تقصيره ذاك بعمله الفنيّ مدوّنا في سجلّ البقاء، فيما استطاع انتزاعه من الخلود، ألم الموتى الذين أحبّ.‏