عرض مشاركة واحدة
قديم 10-06-2015, 09:54 PM
المشاركة 2
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
عمل الدارس الوصفي:
بعد أن يجمع الباحث النصوص والعينات للغة أو اللهجة أو الظاهرة التي يريد بحثها بالكيفية السابقة القائمة على الاستقراء والصدق في تمثيلها لموضوع الدراسة، والمحددة زمانًا ومكانًا... يقوم بفحص تلك النصوص ووصفها وتحليلها إلى عناصرها اللغوية من الأصوات والصرف والنحو والدلالة. ثم يقوم بتحليل تلك العناصر إلى وحدات متناهية في الصغر، وذلك التحليل سوف يسفر عن الآتي:
(أ) في جانب الأصوات يستطيع الدارس الوصفي أن "يقرر أي الأصوات المتقابلة أو المتضادة تناسب موقعية معينة، وأيها لا يناسب، وأن يفضل الفونيمات الحقيقية للغة من الألفونات، وأن يكون صورة كاملة عن التركيب الفونيمي للغة، وعن الألفونات التي تكون كل فونيم، مع صورة واضحة عن الظروف المعينة التي بتحقيقها يقع الألفون المعين.
(ب) وفي جانب الصرف يحدد المورفيمات والألو مورفات، والوظائف التي تؤديها والسياق التي تظهر فيها.
(ج) وفي جانب النحو يقدم وصفًا لأنماط الجمل في اللغة أو اللهجة التي يدرسها.
(د) وفي جانب الدلالة يقوم الدارس بعمل قاموس بسيط لموضوع دراسته يبين فيه الكلمة ومعانيها.
ولا يفوتنا أن ننبه إلى أنه يشترط في ذلك الدارس أو المحلل اللغوي أن يكون موضوعيًا في تحليله، فلا يقع تحت تأثير عاداته اللغوية الخاصة، وإنما يستمد نتائجه من النصوص اللغوية وحدها، بأن يقف منها موقف العالم المتجرد لا يتعصب لها أو عليها ولا يتأثر في معالجتها والنظر إليها بعاطفة ما، ولا يحكم ذوقه الخاص وهواه في شيء من مراحل الدراسة، وبذا ينتظر أن تكون نتائج التحليل مطابقة للواقع اللغوي المدروس، ويمكن الاعتماد عليها في مجال التعليم أو في عمل الدراسات التاريخية والمقارنة.
في علم اللغة العام، لعبد العزيز علام.
الدرس التاسع
الدراسة الوصفية
إن من أحدث المناهج التي اكتشفها علم اللغة الحديث "المنهج الوصفي"؛ ذلك الذي يقوم على الملاحظة، والمشاهدة، وتتبع الظاهرة، واستقراء الجزئيات، ثم استنباط القاعدة، من خلال هذا الواقع، الذي تم توصيفه، وتقريره.
ولقد سلك نحاة العربية هذا المنهج بحذافيره، والتزموه، وهم يحاولون تقعيد النحو، وتقنينه:
1- من يوثق بعربيتهم؟ ومن لا يوثق؟:
لقد تمكن علماء اللغة العربية، من تجديد خطتهم لدراسة العربية، فكان أول ما فعلوه هو: "تحديد من يوثق بعربيتهم، ويُحتج بها".
واستطاعوا أن يحددوا القبائل العربية، التي لا تؤخذ عنها اللغة، بناءً على مقاييس علمية، يشيد بها علم اللغة الحديث، ألا وهي: "القبائل التي اختلطت" عن طريق المجاورة، أو عن طريق التجارة، أو التنقل والهجرة، هذه القبائل ليست صحيحة، ولا تؤخذ عنها اللغة. وذلك أمر له شأنه في منهج البحث العلمي؛ لأنه يشترط فيمن يكون رواية للغة ألا يكون قد تأثرت لغته بلغة أخرى.
أما "القبائل التي لم يحتك أهلها بغيرهم" من أصحاب اللغات الأخرى ولم يعرف عنها التنقل، والهجرة، والأسفار، من أجل التجارة وغيرها، ولم يغادروا بيئاتهم، فهي القبائل التي لم تفسد لغتها. فعنهم تؤخذ اللغة.
2- الارتحال والمشافهة:
وكانت الخطوة الثانية: هي"مشافهة هؤلاء الأعراب" فرحلوا إليهم: وهذه الخطوة منهجية في قيمتها، وحقيقتها، وهي التي نفذتها الدراسات اللغوية الحديثة، في صورة تسجيل المادة اللغوية، منطقة من أفراد نموذجين في نطقهم.
يزاد على ذلك: أن القدماء في مشافهتهم للعرب، لم يكونوا يسألون عن غرضهم، وطلبتهم سؤالًا مباشرًا، كثيرًا ما يدفع الناطق إلى الابتعاد عن الصورة الحقيقية، للغة المنطوقة.
وإنما كانوا يتركون الأعراب يتكلمون، دون أسئلة معينة توجه إليهم، وعلى العلماء أن يعرفوا: ماذا يريدون؟ وماذا يأخذون؟
وهذا هو المتبع الآن في حقل الدراسات اللغوية الحديثة، مما يسمى "بالكلام التلقائي" الذي يحفظ العينة اللغوية، من أي تغيير يفسدها.
ولذا قال أبو سعيد: إذا أردت أن تنتفع بالأعراب، فاستلغهم، أي: اسمع من لغاتهم من غير مسألة".
وتتابع "رحلات النحويين" إلى قلب الجزيرة العربية؛ حيث "بوادي الحجاز، ونجد، وتهامة" من أجل التلقي والمشافهة، وتبدأ هذه الرحلات مع بداية الطبقة الثالثة من البصريين، بزعامة الخليل "ت 175هـ).
فارتحل "الخليل" إلى بوادي الحجاز، ونجد، وتهامة، وطوّف بهذه البوادي، فلما أنهى مهمته، رجع إلى البصرة، واعتكف على ما حمل، من روايات، ومشافهات، فاستنبط منه الكثير والكثير، من قواعد النحو وأحكامه، وبذلك تكون علم الخليل بالنحو، ونبغ فيه، حتى قال الزبيدي عنه:
"وهو الذي بسط النحو، ومدّ أطنابه، وسبّب علله، وفتق معانيه، وأوضح الحجاج فيه، حتى بلغ أقصى حدوده، وانتهى إلى أبعد غاياته".
كما ارتحل "يونس بن حبيب" من طبقة الخليل، إلى البوادي كذلك، وواجه العرب، فسمع منهم، وأصبح بذلك مرجع النحويين في المشكلات".
ويتبع "نحاة الطبقة الرابعة" من البصريين منهج الخليل، فيرتحلون إلى البوادي: "كأبي زيد"، و"أبي عبيدة"، و"الأصمعي"، كما يسلك "الكسائي: ت 189هـ" زعيم الطبقة الثانية من الكوفيين، المنهج نفسه، وذلك أنه لما أعجب بالخليل -حين توجه إليه بالبصرة- سأله: من أين أخذت علمك هذا؟ قال: من بوادي: الحجاز، ونجد، وتهامة، فجاب هذه البوادي، ثم عاد بعد أن حقق طلبته.
وهكذا: تصبح الرحلة إلى بوادي الجزيرة العربية سنة متبعة لدى النحويين واللغويين، حتى منتصف القرن الرابع تقريبًا، أجهد العلماء فيها أنفسهم، وتحملوا من عنت السفر، ومشقة الترحال، ما استعذبوه في سبيل الغاية النبيلة، وهي التثبت من سلامة ما يروون:
"فشافهوا الأعراب في أوديتهم، وسمعوا منهم في أخبيتهم، ومراعيهم وأسواقهم، ومجتمعاتهم، وقدموا للعلم خدمة جلية، ويدًا لا تُنسى، فعن هؤلاء أخذت علوم العربية".
3- إسهام البيئة في تحقيق المنهج الوصفي:
بعد التأكد ممن يوثق في لغتهم، وبعد الترحال إليهم في بواديهم، تأتي "طبيعة البيئة" التي كان يدرس فيها النحو، إنها بيئة البصرة، وقد استطابها العرب، النازحون من القبائل الفصيحة، فاستوطنوها، ومعظمهم، من "قيس وتميم"، كما أنها على مقربة من "سوق المربد" الذي كان صورة مطورة "لسوق عكاظ"، فحفل بالأدباء، والشعراء، وقامت حلقات الإنشاد، والمفاخرة، ومجالس العلم، والأدب، وأمه العلماء، والأدباء، للمدارسة، وللرواية.
واللغويون بين هؤلاء يأخذون اللغة، ويدوّنون، والنحاة يجدون في هذا المنتدى، وذلك المجتمع - العالم، المثقف، الذي يمثل أعلى مستوى ثقافي، وعلمي في الجزيرة- مادتهم الخصبة، وعيناتهم اللغوية الفصيحة، وكأنها رحلت إليهم في البصرة، حيث العمل، والدرس، والتقعيد، والتأليف بدلًا من أن يرحلوا هم إليها، فكأن هذه رحلة وارتحال من أجل النحو بصورة أخرى، ومن ثم كان يسمعون من هؤلاء الفصحاء: ما يؤيد مذهبهم، ويصحح قواعدهم.
4- التحري في الرواية:
ضرب القدماء المثل في الدقة، والتحري، فكانوا لا يكتبون إلا ما يثقون فيه، ولا يثقون إلا فيما تواردت به الأخبار، وتحققت منه الأسماع، وشاهد ذلك: أنك تجد في كتب النحويين، وبخاصة "كتاب سيبويه" عبارات مثل:
"سمعت فلانًا يقول: كذا" "أنشدني فلان: كذا" و"من العرب من يقول: كذا" و"حدثني من أثق بعربيته"، بإزاء عبارات أخرى تدل على ما وصل إلى العلماء بدرجة أقل من السماع، منها: "وزعم يونس كذا"، و"وزعم عيسى بن عمر كذا.."، "ورُوِي عن أبي زيد كذا...".
وكان "العدل والتجريح" للرواة الذين تؤخذ عنهم اللغة، كالعدل والتجريح في رواية الحديث، مما يدل على حرص النحويين، على التأكد من سلامة ما يدوّنون.
5- الشواهد:
الشواهد النحويين معروفة؛ منها: القرآن، والحديث، والشعر، والأمثال، والنثر، ومجيء الشواهد النحوية بهذه الكثرة الموجودة عليها -لدرجة أن تفردت كتب خاصة لشرحها، ودراستها، مثل "خزانة الأدب" البغدادي، وغيرها- نتيجة من نتائج المنهج، الذي سلكه النحاة، في استنباط قواعدهم، أنهم اتخذوا أسباب الدقة، والتحري، ليصلوا إلى النماذج الفصيحة، فيصفوها، ويستنبطوا منها القاعدة، والقرآن الكريم هو أعلى مستوى لغوي فصيح، معجز في نصه، ولغته، ومن كثر الاستشهاد بالآيات القرآنية، التي وصلت في "كتاب سيبويه" -مثلًا- أكثر من ثلاثمائة آية.
كذلك الأمر بالنسبة للحديث، وإن كانت نسبه وروده في كتب النحويين أقل بالنسبة للقرآن الكريم، ولعل السبب في ذلك، عند متقدمي النحاة، هو: "إجازة العلماء رواية الحديث بالمعنى".
وما أكثر الشواهد الشعرية، التي دعم بها النحاة قواعدهم، ولقد بلغت في كتاب سيبويه أكثر من ألف بيت، كذلك النثر والأمثال.
وكثرة الشواهد كانت شرطًا، من شروط الأخذ بالقاعدة عند البصريين، فكانوا لا يكتفون بالشاهد، أو الشاهدين، وإنما لابد من توافر الشواهد: من القرآن الكريم، والشعر العربي الفصيح، وأقوال العرب، الواردة بالطرق الموثوق فيها.
إن موضوع "الشواهد" النحوية، والصرفية، والبلاغية، واللغوية، التي هي عماد الدراسات اللغوية، والأدبية، والنقدية عند العرب، من أقوى الأدلة على الوجود القوي الكامل "للمنهج الوصفي" عند علماء العربية بعامة، وعلماء النحو بخاصة.
كما أن "الشواهد" التي تمثل ظاهرة في الدرس اللغوي بعامة، والنحوي بخاصة، تمثل استمرارية الاتصال، والأخذ عن الفصحاء الذين يوثق بلغتهم، وتؤخذ عنهم اللغة، فكأن "المشافهة" قائمة.
وانطلاقًا من هذا التصور اللغوي لدى العلماء، كان حرصهم على: "الشاهد، والمثال" وراء كل قاعدة، أو كل حكم.. بل كانت وفرة الشاهد أساس الحكم على "القاعدة" وعلى درجتها من حيث: -الاطراد. -أو الكثرة، -أو القلة، -أو الندرة، -أو الشذوذ: لهذا: كان مناط الاختلاف في الرأي بين القدماء: وجود شاهد أو أكثر؛ وذلك كانت قوة الرأي وضعفه تعتمد على وفرة الشواهد، وقلتها.
ولعل هذا كان السبب وراء تمسك البصريين بآرائهم النحوية، ذلك التمسك الذي بلغ في بعض صوره درجة التعصب.
وذلك لأنهم: لكي تصح القاعدة النحوية أو الصرفية عندهم، فلابد من توافر الشواهد، توافرًا يصل بالقاعدة إلى درجة "الاطراد".
ومن هنا كانت "كثرة الاستعمال" مقياسًا من مقاييس الحكم النحوي عند القدماء.
ولهذا عرف عن البصريين بأنهم أهل سماع: حيث إنهم كانوا يتمسكون بالشواهد، وكلام العرب، واستعمالهم. بينما عرف عنهم -فيما بعد أنهم أهل قياس: وذلك عندما تمسكوا بقواعدهم، التي استنبطوها من خلال أقوال العرب، وشواهدهم الشعرية، وغير الشعرية، وأخذوا يقيسون عليها كل الذي يتكلم به الناس، فما وافق قواعدهم اعتمدوه، وأخذوا به، وما خالف قواعدهم محصورة، فإن كان قابلًا للتأويل أوّلوه، وإن لم يقبل التأويل حكموا عليه بالشذوذ.
أما الكوفيون: فقد عرفوا بأنهم في أول الأمر كانوا أهل قياس، وذلك لعدم توافر الشواهد، وعدم المشافهة، ثم صاروا فيما بعد "أهل سماع"، حينما أخذوا يعتمدون كل ما يسمعونه من الناس، ويقبلونه، ولا يردونه، ولا يؤولونه.
6- الموضوعية:
من المعروف في تاريخ النحو العربي "التنافس" الذي نشأ بين البصرة والكوفة، والذي كان دافعًا قويًّا، وقوة محركة للعلماء؛ ليبذلوا أقصى الجهد في وضع النحو وتأصيله، واستيفاء أحكامه وقوانينه، وقد وصل هذا التنافس في آخر فتراته إلى "العصبية"، فظهر الأنصار للمذهب الكوفي، في مقابلة أنصار للمذهب البصري، وأصبح أنصار كل فريق، يتعصبون لآراء مذهبه، ومدرسته.
ولما ظهرت بغداد في ميدان الدرس النحوي، ورحل إليها كثير من النحويين، واستقروا بها، نزعوا ثوب العصبية، والتزموا "ألموضوعية والحيادية العلمية" في دراسة النحو، فما رأوه جيدًا متفقًا مع قواعد العربية، أخذوا به، بصرف النظر عما إذا كان هذا الرأي بصريًا، أو كوفيًا.
وقد سبق لنا ضرب أمثلة على ذلك، عند الحديث عن الطور الرابع، أو المرحلة الرابعة، من تاريخ النحو العربي.
وبهذا وغيره مما لم يتسع المجال له، تكون لدى نحاة العرب "المنهج العلمي" الدقيق، الذي قام على: الوصف، والتقرير، والملاحظة، والمشاهدة، والاستقرار، والتقصي لما هو فصيح، من قبائل العرب، وقد أيد هذا بالشواهد الكثيرة: من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وأشعار العرب، وأمثالهم ونثرهم.
وهذا المنهج بهذه الصورة الواقعية، في تاريخ الدراسات اللغوية والنحوية هو الذي طالعتنا به اليوم مناهج البحث العلمي الحديث، وهو "المنهج الوصفي".
المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي، لرمضان عبد التواب.
الدرس التاسع
الدراسة التاريخية
أما المنهج التاريخي: فيدرس اللغة دراسة طولية، بمعنى: أنه يتتبع الظاهرة اللغوية في عصور مختلفة، وأماكن متعددة ليرى ما أصابها من التطور، محاولًا الوقوف على سر هذا التطور، وقوانينه المختلفة.
ويمكننا لذلك القول: بأن عرض نحو أية لغة، يكتفي إن أراد الاقتصار على هذه اللغة بوصفها. غير أن تعليل الظواهر التي توجد في هذه اللغة، يظل أمرًا بالغ الصعوبة، إذا لم يعرف لهذه اللغة فترات تاريخية متباعدة، يمكن المقارنة بينها، ومعرفة صور التطور الناتجة عبر الأجيال الكثيرة. وعندئذ يمكن الكشف عن السر الذي يكمن وراء إحدى صور هذا التطور.
ولنأخذ مثلًا على هذا: اللغة العربية العامية، التي نتحدث بها اليوم في البلاد العربية؛ فإن وصف هذه اللغة من نواحيها المختلفة، أمر سهل ميسور؛ إذ يُقال مثلًا: إن الاستفهام يعبر عنه بنبر أحد أجزاء الجملة، وإن النفي يكون بالأداة: "مُِش" مثلًا، وإن ترتيب الجملة فيها: فاعل + فعل + مفعول...إلخ إلخ. ولكن معرفة سر وصول هذه النواحي المختلفة؛ من صوتية، وصرفية، وتركيبية، ودلالية، وغيرها، إلى ما وصلت إليه، كان من الممكن أن يظل لغزًا، لولا معرفتنا بالعربية الفصحى. وكان من الممكن أن يزداد وضوح التطور وأسراره في هذه اللغة العامية، لو أننا توصلنا إلى معرفة حلقات التطور المختلفة، منذ الجاهلية حتى الآن.
فالمنهج التاريخي في الدرس اللغوي: عبارة عن تتبع أية ظاهرة لغوية في لغة ما حتى أقدم عصورها، التي نملك منها وثائق ونصوصًا لغوية، أي: أنه عبارة عن بحث التطور اللغوي في لغة ما عبر القرون، فدراسة أصوات العربية الفصحى دراسة تاريخية، تبدأ من وصف القدماء لها من أمثال الخليل بن أحمد، وسيبويه، وتتبع تاريخها منذ ذلك الزمان، حتى العصر الحاضر، دراسة تدخل ضمن نطاق المنهج التاريخي. ومثل ذلك يُقال عن تتبع الأبنية الصرفية، ودلالة المفردات، ونظام الجملة.
وإذا كان علم اللغة الوصفي، يمكن أن يوصف بأنه "علم ساكن static"، إذ فيه توصف اللغة بوجه عام، على الصورة التي توجد عليها، في نقطة زمنية معينة، فإن علم اللغة التاريخي "يتميز بفاعلية مستمرة "dynamic" فهو يدرس اللغة من خلال تغيراتها المختلفة. وتغير اللغة عبر الزمان والمكان خاصة فطرية في داخل اللغة، وفي كل اللغات، كما أن التغير يحدث في كل الاتجاهات: النماذج الصوتية، والتراكيب الصرفية والنحوية، والمفردات. ولكن ليس على مستوى واحد، ولا طبقًا لنظام معين ثابت. هذه التغيرات اللغوية تعتمد على مجموعة من العوامل التاريخية. وبينما يمكن دراسة هذه التغيرات دراسة وصفية، هي محض تعريف بأشكال التغيرات الحادثة، فإنه لا يمكن عزلها عن الأحداث التاريخية التي تصاحب وجودها. وإذا كانت الوظيفة الأولى لعلم اللغة الوصفي، هي أن يصف، ولعلم التاريخي هي أن يعرض التغيرات اللغوية؛ فمن الصعب كثير الفصل بين النوعين في مجال التطبيق العملي، وذلك لأن كل المصطلحات، التي استعملت تحت العنوان الوصفي، قابلة من الناحية العملية للاستعمال مع الفرع التاريخي".
"وعلى الرغم من أسبقية علم اللغة التاريخي، في ميدان البحث اللغوي، ومن التقدم المطرد، الذي أمكن تحقيقه خلال القرنين الماضيين، فما زالت هناك جهود ضخمة يمكن بذلها، حتى بالنسبة لتلك اللغات، التي لاقت اهتمامًا كبيرًا، فإن هناك اكتشافات ضخمة لكتابات مسجلة، ما تزال يتوصل إليها. ويجب كلما اكتشف شيء من ذلك، أن يعاد النظر في النتائج المقاربة المسابقة، التي كان بعضها فرضيًا، ويدخل عليها من التعديلات ما هو ضروري، بعد الاستفادة من تلك الشواهد الجديدة... وهنا نجد المنهجين: التاريخي، والوصفي، يدخلان في شكل انسجامي تعاون مثمر".
"وليس المنهج المقارن إلا امتدادًا للمنهج التاريخي، في أعماق الماضي السحيق، وينحصر في نقل منهج التفكير، الذي يطلق على العهود التاريخية، إلى عهود لا نملك منها أية وثيقة".
ومع أن المنهج المقارن يولي وجهة شطر الماضي السحيق، فإنه في الواقع لا يؤتي ثمرته، إلا في اتجاه عكسي؛ لأنه يوضح تفاصيل اللغات الثابتة بالوثائق. وأظهر نتيجة لنحو اللغات "الهندو-أوربية" المقارن، تنحصر في تحديد صلات القرابة بين هذه اللغات، فكل اللغات الفارسية، واللغات السلافية، والجرمانية، والرومانية، والكلتية، إذا اعتبرت من الوجهة الزمنية، تبدو للعالم اللغوي نتيجة لسلسلة متتابعة من التباين لحالة لغوية واحدة سابقة عليها جميعًا وتسمى باللغة "الهندية الأوربية".

المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي، لرمضان عبد التواب.
الدرس التاسع
الدراسة المقارنة
"ويتضمن المنهج المقارن أساسًا؛ وضع الصيغ المبكرة المؤكدة، المأخوذة من لغات يُظن وجود صلة بينها جنبًا إلى جنب؛ ليمكن إصدار حكم فيها بعد الفحص والمقارنة، بخصوص درجة الصلة بين عدة لغات، والشكل الذي يبدو أقرب صلى إلى اللغة الأم.
ولعل الباحث يكون آمنًا حين يقرر انتماء لغات متعددة إلى أصل مشترك، إذا وجد بينها تماثلًا كافيًا في تركيباتها النحوية، ومفرداتها الأساسية، وإذا لاحظ ازدياد قربها بعضها من بعض، كلما اتجهنا إلى الوراء".
"ويقدم لنا النحو المقارن نظامًا تُصنَّف فيه اللغات في أسرات تبعًا لخصائصها، فبمقارنة الأصوات، والصيغ، تتجلى ضروب التجديد الخاصة بكل لغة، في مقابلة البقايا من حالة قديمة، وقد نجح اللغويون في أن يحددوا ما قبل تاريخ اللغات "الهندو-أوربية"، ولكنهم لم يصلوا إلى معرفة من كانوا يتكلمونها، ولم يستطيعوا أن يحددوا أسلاف الإغريق أو الجرمان، أو اللاتين، أو الكلتيين، وإنما يعرفون فقط التغييرات التي مرت بها الجرمانية والإغريقية واللاتينية والكلتية، حتى وصلت إلى الحالة، التي تكشف عنها النصوص. أما الأسماء التي أطلقوها على اللغات، التي أعادوا بناءها فتحكمية، قد اتفقوا عليها مجرد اتفاق؛ فكلمة: الهندية الأوربية، إذا أخرجت من الاستعمال اللغوي، لم يبق لها أي معنى".
ومنذ نشأة طريقة المقارنة بين اللغات -وهي أصلًا طريقة تاريخية- وهي تحظى بمكانة مرموقة في علم اللغويات -كما صارت البحوث اللغوية التاريخية- وقفًا على كبار العلماء والباحثين، على حين استمرت الطريقة الوصفية كما كانت من قبل، طريقة عملية ذات نفع عاجل، تعالج تعلم الناس اللغات الأجنبية، وتعرفهم بالطريقة الصحيحة لاستخدام لغاتهم.
هذا هو المنهج المقارن، وتلك هي حدوده. وقد تأثر به دارسو اللغات السامية، وقطعوا فيه شوطًا ليس بالقصير.
وإن من يلج ميدان الدراسة السامية المقارنة يدرك على الفور مدى الصعوبة التي تقابل الباحث عندما يريد الرجوع بظاهرة ما في هذه اللغات إلى أصلها؛ ذلك لأن هذه اللغات السامية ليست حلقات متصلة في سلسلة لغوية واحدة، يمكن اعتبار إحداها أقدم اللغات، والثانية أحدث منها... وهكذا، بل هي على العكس من ذلك، تُعدُّ خلفًا للغة واحدة، هي ما اصطلح العلماء على تسميته "بالسامية الأم"، وهذه اللغة لا وجود لها الآن في صورة وثائق أو نقوش مكتوبة.
ولذلك: فمن الممكن دراسة كل لغة من اللغات السامية على حدة دراسة وصفية وتاريخية منتجة إلى أقصى حد، غير أن استنباط الأصول الأولى للظواهر اللغوية المختلفة في هذه اللغات أمر بالغ الصعوبة. وقد حاول العلماء استخدام الطرق العلمية، التي كشف عنها المنهج المقارن، وعلم اللغة الحديث، في الوصول إلى هذه الأصول الأولى "لكن لا يجوز للمرء، أن يطلب الكثير في هذه الناحية؛ فإن سير تطور اللغات غامض في تفاصيله بالنسبة لنا غالبًا، وذلك في المرحلة السابقة للمرحلة، التي وصلت إلينا منها وثائق لغوية".
لقد أدى اكتشاف اللغة السنسكريتية -في القرن الثامن عشر- إلى نشوء علم اللغة المقارن -كما ذكرنا، وطمع علماء الساميات في تطبيق المنهج المقارن للغات "الهندو-أوربية"، على مجموعة اللغات السامية، وحاولوا بالمقارنة الاهتداء إلى الأصول الأولى، وأطلقوا عليه اسم: "اللغة السامية الأم" غير أنهم كانوا يدركون تمامًا: أن هذه اللغة الأم، لا تخرج عن كونها افتراضًا قابلًا للتعديل في أي وقت، طبقًا لما تؤدي إليه بحوث المستقبل.
ولقد كان "نولدكه" Nöldeke" على حق، عندما قال: "وإننا نريد أن نوجه سؤالًا لمن يظن أن إعادة البناء الكامل للغة السامية الأولى -ولو بالتقريب- أمر ممكن. والسؤال هو: هل يستطيع أحسن العارفين باللهجات الرومانية كلها (الإيطالية، والفرنسية، والإسبانية) أن يعيد بناء الأصل القديم لهذه اللهجات، وهو اللغة اللاتينية، لو فرض أنها غير معروفة الآن؟".
ومع كل هذه الصعوبات، أثمرت الدراسات السامية المقارنة في القرن الماضي، والقرن الحالي، ثمرات عظيمة، وأصبحنا نقف في كثير من المسائل فيها، على أرض ليست هشة. والفضل في كل هذا للمستشرقين من علماء الغرب.
ولم تكن اللغات السامية مجهولة تمامًا، بالنسبة للعرب؛ فقد فطن الخليل بن أحمد (المتوفى سنة 175هـ) إلى العلاقة بين الكنعانية والعربية، فقال: "وكنعان بن سام بن نوح، ينسب إليه الكنعانيون، وكانوا يتكلمون بلغة تضارع العربية".
كما عرف أبو عبيد القاسم بن سلام (المتوفى سنة 224هـ) اللغة السريانية، وأداة التعريف فيها، وهي الفتحة الطويلة في أواخر كلماتها.
وكذلك أدرك ابن حزم الأندلسي (المتوفى سنة 456هـ) علاقة القربى بين العربية والعربية والسريانية، فقال: "من تدبر العربية والعبرانية والسريانية؛ أيقن أن اختلافها إنما هو من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان، واختلاف البلدان، ومجاورة الأمم، وأنها لغة واحدة في الأصل".
ويقول الإمام السهيلي (المتوفى سنة 581هـ): "وكثيرًا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي، أو يقاربه في اللفظ".
كما عرف أبو حيان الأندلسي (المتوفى سنة 754هـ) اللغة الحبشية، وأدرك العلاقة بينها وبين العربية، وألف فيها تأليفًا مستقلًا؛ فقال: "وقد تكلمت على كيفية نسبة الحبش، في كتابنا المترجم عن هذه اللغة، المسمى بـ: "جلاء الغبش عن لسان الحبش". وكثيرًا ما تتوافق اللغتان: لغة العرب ولغة الحبش، في ألفاظ، وفي قواعد من التركيب نحوية، كحروف المضارعة، وتاء التأنيث، وهمزة التعدية".
أما المستشرقون: فقد بدأت دراساتهم الأولى، في أحضان كليات اللاهوت، فأدركوا العلاقة بين العبرية والعربية والسريانية، وبدأت هولاندة في القرن الثامن عشر، على يد "شولتنس" Schultens بمقارنة العبرية بالعربية، وجاء بعده كل من: "إيـﭭـالد" Ewald، و "ألسهوزن" Olshausen فألفا في اللغة العبرية مستخدمين العربية في المقارنة، كما حاول مثل ذلك "نولدكه" Nöldeke في الآرامية. وفي عام 1980م ألف "وليم رايت" W.Wright كتابة: "محاضرات في النحو المقارن للغات السامية" Lectures on the comparative Grammar of the Semitic Languages كما ألف بعده بعام كل من: "لاجارد Lagarde" و"بارت Barth": "بحوث في أبنية الأسماء السامية" Untersuchungen über die semitische Nominalbildung كما ألف "لند برج Lindberg": "النحو المقارن للغات السامية" "Vergleichende Grammatik der semitischen Sprachen" وألف "تسمّرن Zimmern" كتابه الذي سماه: "النحو المقارن للغات السامية" كذلك، ونشره في برلين سنة 1898م.
وجاء بعد هؤلاء جميعًا، عملاق هذا الفن، المستشرق "كارل بروكلمان C.brockelmann فألفَّ كتابه الضخم: "الأساس في النحو المقارن للغات السامية" "Grundriss derverglenenden Grammatik der" في جزأين، يضم الأول منهما دراسات، عن أصوات اللغات السامية وأبنية الأسماء والأفعال فيها، كما يختص الثاني بدراسة الجملة في اللغات السامية. وأكثر موضوعات هذا الجزء جديد، لم يسبق إليه مؤلفه. وقد نشر الجزء الأول في برلين سنة 1908م، ونشر الثاني فيها سنة 1913م.
ولبروكلمان نفسه كتابان صغيران، يقتصران على موضوع الجزء الأول من "الأساس" يسمى الأول: "فقه اللغات السامية" "Semitische Sprachwissenschaft" نشره في ليبزج سنة 1906م. وقد ترجمناه إلى العربية، ونشرناه في جامعة الرياض سنة 1977م. أما الكتاب الثاني فيسمى: "مختصر النحو المقارن للغات السامية" "Kurzgefasste Vergleichnde Grammatik der sdemiticsnden Sprachen" نشره في برلين سنة 1908م.
وكل من جاء بعده عالة عليه، أمثال: "أوليري De lacy O'Laery" الذي نشر في سنة 1929م، كتابًا بعنوان: "النحو المقارن للغات السامية Comparative Grammar of the Semitic Languages" و "برجشتراسر" Bergstrasser الذي ألف في عام 1928م، كتابًا بعنوان: "المدخل إلى اللغات السامية Eniführung in die semitischen Sprachen" كما ألقى في الجامعة المصرية القديمة، محاضرات عن التطور النحوي، مقارنًا العربية باللغات السامية. وقد طبعت هذه المحاضرات تحت عنوان: "التطور النحوي للغة العربية" بالقاهرة سنة 1929م. وقد قمت أنا بتصحيح أوهامه والتعليق عليه، وطبع القاهرة 1981م. "موسكاتي S.Moscati" الذي نشر في روما سنة 1960م كتابًا بالإيطالية، عنوانه: "محاضرات في اللغات السامية": Lezioni di linguistica Semitica ثم ترجمه بعد تنقيح إلى الإنجليزية، بالاشتراك مع: "أنطون شـپـيتالر" A.Spitaler و"إدوارد ألندورف"ونشر تحت عنوان: "مقدمة في النحو المقارن للغات السامية"E. Ullendorf An Introduction to the Comparative Grammar of the Semitic Languages في ﭬـيسبادن بألمانيا سنة 1964م.
هذا إلى مئات المقالات التي تعالج موضوعات مفردة في شتى المجالات العلمية، الأوروبية والأمريكية - كل هذه المؤلفات تعالج اللغات السامية، وفق المنهج المقارن. ومع تقدم هذا العلم في الغرب، فإنه ما يزال -مع الأسف- جديدًا غض الإهاب في الشرق، وسيمضي وقت طويل، قبل أن ينهض على قدم وساق؛ لأنه يتطلب معرفة كاملة بكل لغة من اللغات السامية، وهو أمر لما يتح إلا لقلة من الدارسين.
منقول
يتبع