عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
1

المشاهدات
4350
 
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية

اوسمتي


ماجد جابر is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
3,699

+التقييم
0.77

تاريخ التسجيل
Feb 2011

الاقامة

رقم العضوية
9742
10-06-2015, 09:50 PM
المشاركة 1
10-06-2015, 09:50 PM
المشاركة 1
افتراضي المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي.
المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي للدكتور رمضان عبد التواب.
الدراسة الوصفية
أما المنهج الأول: فيكتفي بوصف أية لغة من لغات عند شعب من الشعوب، أو لهجة من اللهجات، في وقت معين، أي: أنه يبحث اللغة بحثًا عرضيًا لا طوليًّا، ويصف ما فيها من ظواهر لغوية مختلفة، ويسجل الواقع اللغوي، تسجيلًا أمينًا، بل إن "أنطوان مييه" (A.Meillet) يذهب إلى أبعد من هذا، حين يرى أن المنهج الوصفي "يعني: بدراسة الاستعمال اللغوي في عمومه، عند شخص بعينه، في زمان بعينه، ومكان بعينه".
فالمنهج الوصفي يقول على أساس وصف اللغة أو اللهجة في مستوياتها المختلفة، أي: في نواحي أصواتها، ومقاطعها، وأبنيتها، ودلالاتها، وتراكيبها، وألفاظها، أو في بعض هذه النواحي، ولا يتخطى مرحلة الوصف، والأطالس اللغوية مثال من أمثلة تطبيق هذا المنهج الوصفي على اللغات واللهجات، فهي لا تعرض علينا سوى الواقع اللغوي مصنفًا، دون تدخل من الباحث بتفسير ظاهرة، أو تعليل لاتجاه لغوي، هنا أو هناك.
وغالبًا ما تنصب هذه الدراسة الوصفية، على اللغات واللهجات المعاصرة، "وإن كان بعض العلماء، قد قاموا بمحاولات لدراسة اللغة، دراسة وصفية في زمن معين في الماضي" فأية دراسة صوتية أو صرفية أو تركيبية أو دلالية، لإحدى اللهجات القديمة أو الحديثة، تعد دراسة وصفية.
وقد حقق علم اللغة الوصفي القرن العشرين، نهضة كبرى، أدت إلى كثير من التطورات المهمة، في علم اللغة المعاصر، وكان القرن التاسع عشر حاملًا لكثير من الإرهاصات، لهذا العلم الحديث.
وكان من أكبر الباحثين، الذين أثروا في مجال الفصل بين الدراسات الوصفية والتاريخية، العالم السويسري: "فردينال دي سوسير" F. de Saussure - الذي وضع حجر الأساس في الدراسات اللغوية البنيوية أو الوصفية، وأثار في كتابه: "محاضرات في علم اللغة العام" Course de Linguistique générale الذي نشر بعد وفاته سنة (1916م)، وجهة نظر جديدة "إذ اعتبر اللغويات الوصفية، لا تقل أهمية عن اللغويات التاريخية، كما حدد وظيفة كل منهج وحدوده".
وقد شهد القرن العشرون مدارس لغوية وصفية متعددة، أهمها:
1- المدرسة اللغوية البنيوية: .Structural Linguistics
2- مدرسة النحو التوليدي التحويلي: .Transformational - Generative Grammar
3- مدرسة القوالب: .Tagmemic Analysis

في مناهج البحث اللغوي، لأحمد طه حسانين.
الدرس التاسع
الدراسة الوصفية
مناهج البحث في اللغة- المنهج الوصفي:
تمهيد:
كان اكتشاف اللغة السنسكريتية في أواخر القرن الثامن عشر وترجمة الدراسات اللغوية التي أثرت عن الهنود إلى اللغات الأوربية في أوائل القرن التاسع عشر سببًا في تغيير مسار الدراسات اللغوية في أوربا، وفي ظهور المناهج الحديثة اللازمة لتلك الدراسة، وكان من أسبق المناهج اللغوية ظهورًا المنهج المقارن، الذي هيمن على الدراسات اللغوية طوال القرن التاسع عشر، وتلاه في الظهور المنهج التاريخي في أواخر ذلك القرن، ثم سيطر المنهج الوصفي على الدراسات اللغوية منذ العقد الثاني من القرن العشرين، وكان ذلك بفضل العالم السويسري: "دي سوسير" رائد الدراسات الوصفية الحديثة.
وقد أضيف إلى المناهج السابقة منهج رابع وهو المنهج التقابلي، وليس هناك من خلاف بينه وبين المقارن إلا في مادة الدراسة؛ حيث تكون المقارنة بين لغتين أو عدة لغات تنتمي إلى فصيلة واحدة كالسامية أو الحامية، أما المقابلة فتكون بين لغتين أو عدة لغات من فصائل مختلفة كالعربية والإنجليزية مثلًا، وقد يكون الفرق بينهما في الهدف أيضًا؛ حيث يهدف الدارس المقارن إلى التوصل إلى الصورة أو الصيغة الأصلية للغة الأم، أما الدراسة التقابلية فهي تخدم من يريد أن يتعلم لغة جديدة من غير فصيلة لغته.
وبعض الباحثين في علم اللغة ومناهج دراسته يضيف إلى قائمة المناهج اللغوية منهج الملاحظة، والمنهج الآلي، والمنهج التجريبي والمنهج الاستقرائي، وآخرون يرون أنه من الأولى ألا ننظر إلى تلك المناهج على أنها مناهج مستقلة وقائمة بذاتها، بل على أنها مكملة للمناهج السابقة، ومساعدة لها.
وأيًا ما كان الأمر فإننا سنعرض في الصفحات التالية لأهم المناهج التي ينبغي على الدارس اللغوي أن يلم بأصولها وقواعدها، وهي: المنهج الوصفي، والمنهج التاريخي، والمنهج المقارن.
التعريف بالمنهج الوصفي:
المنهج الوصفي هو الذي يقوم على أساس وصف اللغة أو اللهجة في مستوياتها المختلفة أي: في نواحي أصواتها، ومقاطعها، وأبنيتها ودلالاتها، وتراكيبها، وألفاظها، أو في بعض هذه النواحي ولا يتخطى مرحلة الوصف إلى تفسير الظواهر اللغوية وتعليلها.
وبذلك يفرق بعض اللغويين بين نوعين من المنهج الوصفي:
أولهما: المنهج الوصفي التقريري: وهو الذي يقف الباحث فيه عند حدود الوصف والتحليل والتصنيف، ولا يتدخل بتفسير ظاهرة أو تعليل لاتجاه لغوي هنا وهناك، وأي تدخل منه بالتفسير أو التعليل يدخل في نطاق الفلسفة.
وثانيهما: المنهج الوصفي التفسيري: وهو الذي يتخطى فيه الباحث مجرد الوصف إلى تفسير الظواهر اللغوية وشرحها يذكر عللها وأسبابها، ولنضرب على ذلك مثلًا يوضح الفرق بين الاتجاهين، وهو أنه إذا كان الواصف التقريري يصف صوت الرجل بالخشونة، ويصف صوت المرأة والطفل بالنعومة ويقف عند هذا الحد، فإن الواصف وصفًا تفسيريًّا يضيف إلى ما سبق أن العلة في خشونة أصوات الرجال ونعومة أصوات النساء والأطفال تعود إلى شكل الوترين الصوتين، فهما عند الرجال أطول، وأغلظ، وأكثر ارتخاءً، وذلك يؤثر على عدد اهتزازات الوترين، وعلى نوع الذبذبات الصادرة عنهما، كما أن قصر الوترين الصوتيين ورقتهما، وشدهما عند النساء والأطفال يؤثر على عدد الاهتزازات، وعلى نوعها، وهذا هو السبب المؤثر في خشونة الصوت أو نعومته.
ولا ريب في أن اللغويين القدامى كانوا يجمعون في دراستهم للغة العربية بين المنهجين: الوصفي التقريري والوصفي التفسيري، فسيبويه عندما تحدث عن مخارج الحروف كان منهجه وصفيًا تقريريًا، وعندما تناول بالحديث قضية الإدغام كان منهجه وصفيًا تفسيريًّا؛ لأنه في الكلام على المخارج لم يتجاوز تحديد المخرج، وذكر ما يخرج منه، أما في الحديث عن الإدغام فقد كان مولعًا بتقديم التفسير والتعليل لجواز الإدغام أو وجوبه أو امتناعه أو حسنه أو قبحه.
ولعل تعصب بعض المحدثين من اللغويين للمنهج التقريري على حساب المنهج التفسيري بمثابة رد الفعل للمآخذ الكثيرة على المنهج الفلسفي الذي وصم به اللغويون والنحويون العرب القدامى.
وإذا كان المنهج الوصفي في العصر الحديث قد نشأ وتطور نتيجة ارتباطه بدراسة ما يسمى بلغات الشعوب المتخلفة التي لم تعرف الكتابة بعد، فقد استدعى ذلك أن يمانع بعض الباحثين من استخدام المنهج الوصفي في غير حقول اللغات الحية المنطوقة بالفعل، ودعا الباحثين الوصفيين إلى تجنيب الاعتماد على المادة المكتوبة؛ لأنها قد أسست جزئيًا على لغات قديمة بطل استعمالها.
وإذا كان هذا صحيحًا بالنسبة إلى كثير من اللغات، فإن الأمر جد مختلف بالنسبة للغة العربية التي جمعت مفرداتها بطريق السماع والمشافهة، ووضعت قواعدها على أساس من الملاحظة الدقيقة والاستقراء التام الذي لا نظير له في تدوين لغة من اللغات، وفي جو بالغ الدقة من الحيطة والحذر، سواء بالنسبة لمن تؤخذ عنه اللغة أو بالنسبة لمن يرونها، هذا فضلًا عن أنها لغة كتاب مقدس... ولهذا فإننا لا نتردد أبدًا في القول باعتماد المنهج الوصفي في دراسة نصوص اللغة العربية، سواء أكانت مكتوبة أم منطوقة، قديمة أم حديثة.
الخطوات اللازمة لتنفيذ المنهج الوصفي:
الخطوة الأولى:
وتتمثل في جمع المادة اللغوية أو العينة الكلامية التي يراد وصفها وتحليلها، وحريّ بالباحث الوصفي أن يطمئن إلى التحقق من وجود صفتين هامتين في المادة العلمية التي يزمع إجراء الدراسة الوصفية عليها:
إحداهما: أن يتأكد الدارس من أنه قد قام بجمع النصوص اللغوية التي يريد وصفها بطريقة استقصائية، بحيث يغلب على ظنه أنه لم يترك أية نصوص تمس الظاهرة أو الموضوع، مهما كانت قيمة تلك النصوص، ومهما بدا من عدم أهميتها؛ لأنه إن ترك شيئًا ما من النصوص فقد يكون في ذلك المتروك ما يناقض رأيه، أو ما يغير فكرته، أو ما يعدلها، أو ما يعزز أدلته بصورة أقوى..
والأخرى: أن يطمئن الباحث إلى وثاقة المادة العلمية التي جمعها، وذلك بأن يأخذها عن مصادرها الأصلية بالمباشرة وليس بالوساطة، لا سيما إذا كانت النصوص مدونة ومكتوبة، فلا ينقل كلامًا لعالم عن مرجع وسيط ناقل، ما دام المرجع الأصيل موجودًا، وفي متناول يده لنفي احتمالات الخطأ في نقل آراء الغير، أو في فهمها أو في تصحيفها وتحريفها.
وأما إذا كانت الدراسة ميدانية وتعتمد على النصوص الحية المنطوقة؛ فإن الدارس الوصفي يعتمد في جمع مادة الدراسة على ما يُسمَّى فنيًّا بالراوي اللغوي، ولابد فيه من توافر الشروط الآتية:
- أن يكون ممن يحسن تمثيل المستوى اللغوي المدروس المراد وصفه وتحليله، وذلك بأن يكون من بين المتكلمين باللغة أو باللهجة موضوع الدراسة.
- ألا يكون قد عاش في غير موطن اللغة أو اللهجة مدة طويلة تأثرت فيها لغته أو لهجته بلغات أو لهجات أخرى.
- ألا يكون من ذوي العيوب الكلامية والنطقية، فلا يعتمد على راوٍ ألثغ، أو أشغى، أو أضجم، أو أفلج، أو أروق، أو أفقم، أو أشدن أو ألكن، أو لجلاج، أو تمتام، أو فأفاء، أو ذي حبسة، أو ذي حكلة أو ذي لفف.
- وأن يكون على قدر مناسب من الثقافة، وكلما كان أقل ثقافة كان أفضل حتى لا يقع تحت تأثير ثقافته.
وعلى فرض أن كل هذه الشروط قد توافرت في الرواة اللغويين فإنه على الدارس الوصفي أن يقوم باختبار رواته بين حين وآخر، بمعاودة الأسئلة التي وجهت إليهم، حتى يتأكد من صدق تمثيلهم للمستوى الذي ينتمون إليه ويعبرون عنه، كما ينبغي أن يفطن الدارس إلى أن أحسن الأوقات التي يسأل فيها رواته هي التي تكون فيها أحوالهم النفسية في أكمل حالاتها الطبيعية ليكون أداؤهم ممثلًا للغة أو اللهجة المدروسة أصدق تمثيل.
ولكي يحتفظ الدارس الوصفي بالعينات الكلامية من اللغة أو اللهجة كما تفوه بها الرواة اللغويون، عليه أن يستعين في تدوينها بالكتابة الصوتية، التي تمثل الأصوات والطرق الأدائية تمثيلًا موضوعيًا وصادقًا، أو يقوم على الأقل بتسجيل الأحداث الكلامية والتجمعات الصوتية على شرائط الكاسيت والاسطوانات ونحوها، حتى يمكنه أن يراجع وأن يتأكد من صدق العينات التي تجمعت لديه، ثم من صدق نتائج التحليل.
ونحسب أن ملامح المنهج الوصفي -بما تشتمل عليه من الاحتياط في جمع المادة اللغوية- قد طبقها القدماء من علماء العربية في دراستهم للغة العربية، وذلك يبدو في عدة نقاط:
- أنهم بنوا دراستهم للغة على أساس من الاستقراء وتتبع كلام العرب، بدليل أنهم كانوا يعرفون أقدارهم ومنازلهم في الإلمام والإحاطة باللغة، فالأصمعي كان يحفظ ثلث اللغة، وكان الخليل يحفظ نصف اللغة، وكان أبو مالك عمرو بن كركرة يحفظ اللغة كلها؛ وهذا يعني: أنهم عرفوا حدود اللغة معرفة جيدة عن طريق الاستقراء، لدرجة أنهم كانوا يستطيعون أن يميزوا بين ما هو من اللغة التي تفوهت بها العرب وبين ما لم تقله العرب، وهذه الحاسة نجدها عند كثير من علماء العربية الأوائل ذوي الرواية والدراية بكلام العرب، ومن هؤلاء أبو الأسود الدؤلي الذي شك في أن العرب لم تنطق بكلمة - بَظِيَتْ- فسأل عن معناها، وعمن تنسب إليه، فلما قال القائل: هي حرف من اللغة لم تدر من أي بيض خرج، ولا في أي عش درج، قال أبو الأسود: يا ابن أخي لا خير لك فيما لم أدر.
- أنهم اعتمدوا اللغة المنطوقة كأساس للدراسة في علمي القراءات والأصوات، فالحروف العربية عند سيبوية منها حروف أصول، ومنها حروف فروع تستحسن في قراءة القرآن والأشعار، ومنها: حروف غير مستحسنة ولا كثيرة، وهذه الحروف التي -تممها- اثنين وأربعين، جيدها ورديئها أصلها التسعة والعشرون لا تتبين إلا بالمشافهة، وقد بين ذلك ابن جني أيضًا في مواضع كثيرة، ومنها: تعليقه على مذهب الأخفش في إشمام الضمة التي قبل الواو رائحة الكسرة، وتخليص الواو واوًا محضة في مثل: مررت بمذعور، وهذا ابن بور، يقول ابن جني: فهذا ونحوه مما لابد في أدائه وتصحيحه للسمع من مشافهة توضحه وتكشف عن خاص سره.
- أنهم اعتمدوا على الرواة اللغويين في تمثيل اللغة البدوية، ومن أشهر هؤلاء الرواة: أبو خيرة، وأبو مهدية، وأبو ضمضم، وأبو الدقيش، وأبو العراف، والمنتجع بن نبهان... وغيرهم.
- وكان اختبار هؤلاء الرواة أمرًا واردًا على أذهان العلماء، وقصة أبي عمرو بن العلاء مع أبي خيرة شاهدة على وقوع ذلك، فهي تحدثنا أن أبا عمرو كان قد سمع من أبي خيرة -استأصل الله عرقاتهم- بالجر، ولما عاود أبو عمرو السؤال عنها مرة أخرى، نصب أبو خيرة التاء من عرقاتهم، فقال أبو عمرو: "هيهات يا أبا خيرة لان جلدك"، ولم يكن يقصد أبو عمرو من تعليقه السابق سوى أن أبا خيرة قد تأثر لسانه بلغة أهل الحضر، وأنه لم يعد يمثل المستوى اللغوي الذي يدرسه أبو عمرو، وهو اللغة البدوية الفصيحة.
وقد كان صنيع ابن جني مع عبد الله بن الشجري قريبًا مما حدث بين أبي عمرو وبين أبي خيرة، يقول ابن جني: وسألته يومًا فقلت له: كيف تجمع "دكانًا"؟ فقال: دكاكين، وقلت: فسرحانًا؟ قال: سراحين قلت: فقرطانًا؟ قال: قراطين، قلت: فعثمان؟ قال: عثمانون، فقلت له: هلا قلت أيضًا عثامين؟ قال: أيش عثامين! أرأيت إنسانًا يتكلم بما ليس من لغته، والله لا أقولها أبدًا.
وهكذا نجد عند اللغويين العرب كثيرًا من المبادئ التي نادى بها المحدثون في سبيل تطبيق المنهج الوصفي، لا سيما في استقصاء النصوص والتأكد من صدقها.
الخطوة الثانية:
وتتمثل في توحيد المستوى اللغوي الذي تنتمي إليه العينة الكلامية أو النصوص اللغوية التي يراد وصفها وتحليلها، فينبغي على الدارس الوصفي قبل أن يبدأ في جمع العينة الكلامية أو النصوص اللغوية: أن يعين المستوى اللغوي الذي يريد أن يبحثه ويدرسه دراسة وصفية؛ لأن مستويات استخدام اللغة كثيرة ومتعددة، فهناك المستوى الأدبي الفصيح المائل في لغة الشعر، وهو يتميز -بالطبع عن قسيمة الماثل في لغة النثر، إذ يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام كما قال سيبويه، وتعليل ذلك، وجائز لهم لا يجز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف كما قال الخليل بن أحمد: أن الشعراء أمراء الكلام يصرفون أنى شاعوا اللفظ وتعقيده، ومد مقصوره، وقصر ممدوده، والجمع بين لغاته، والتفريق بين صفاته، واستخراج ما كلت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه، فيقربون البعيد، ويبعدون القريب، ويحتج بهم ولا يحتج عليهم، "وكلام هذين العالمين الجليلين من علماء اللغة صريح في وجود مستويين من اللغة الأدبية؛ "أحدهما: تمثله لغة النمط أو المعيار أو المستوى الصوابي التي تتحقق في الكلام العادي، والآخر: تمثله لغة الشعر أي: الصورة المثالية للغة الأدبية".
فالخلط بين هذين المستويين في الدراسة، واعتبارهما شيئًا واحدًا يؤدي إلى الاضطراب في نتائج التحليل والوصف، وإلى التعسف في إخضاع أحدهما لمقاييس الآخر، وهذا بعينه ما حدث من بعض اللغويين في وقت مبكر من دراسة اللغة، فقد أكثروا -وعلى رأسهم عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي- من تتبع زلات الشعراء، وتلمس الأخطاء لهم، مع أنهم لو أنصفوا ما فعلوا مثل ذلك، وما خلطوا بين مقاييس الشعر والنثر.
وهناك اللغة الأدبية واللغة العلمية، أو الأسلوب الأدبي والأسلوب العلمي، وهما مستويان من اللغة لا يجوز لخلط بينهما في الوصف والتحليل؛ لأن لكل منهما خصائص ينفرد بها عن الآخر، فاللغة الأدبية أو الأسلوب الأدبي يعني بالعاطفة إلى جانب الحقائق والأفكار، ويهدف إلى إثارة الانفعال في نفوس القراء والسامعين، أما اللغة العلمية فتعني بالمعارف العقلية في مجالات: الرياضة، والطب، والفيزياء، والكيمياء، والفلك، والحيوان، والنبات، والكائنات الدقيقة، والهندسة بفروعها، والأرض، والطاقة، وغيرها، والغرض منها: أداء الحقائق والأفكار مجردة من العواطف والانفعال، وتمتاز هذه اللغة بالدقة والتحديد والاستقصاء، ولها مواصفات خاصة منها:
- استخدام الألفاظ الحسية دون التجريبية.
- تفضيل الجملة القصيرة دون الطويلة.
- تفضيل المأنوس من الألفاظ.
- تفضيل البناء للمعلوم على البناء المجهول.
- استعمال الأفعال المتعدية.
- عدم الإسراف في الصفات.
- ألا يستخدم من الألفاظ غير الضروري.
- ألا يستعمل من الألفاظ ما كان ذا معنيين؛ لأنه غامض الدلالة.
وإذا كان الأمر كذلك: فحريّ بالدارس الوصفي أن يراعى مثل هذا التمايز بين مستوى اللغة الأدبية ومستوى اللغة العلمية عند جميع النصوص والعينات الكلامية التي يُراد دراستها وصفية.
ويوجد أيضًا في مقابلة المستوى الأدبي الفصيح المستوى العامي الدارج، والمستوى الاجتماعي المعين، ويجدر بالدارس الوصفي قبل أن يبدأ في جمع النصوص وتحليلها: أن يميز بين هذين المستويين، وأن يحدد اللغة أو اللهجة التي يريد وصفها؛ ذلك لأن اللهجات تختلف باختلاف الطبقات الاجتماعية التي تتكلمها في بعض السمات والخصائص العديدة الواضحة، ومن بين تلك اللهجات الاجتماعية أو ما تسمى باللغات الخاصة: اللغة القانونية التي يستخدمها المحضر والقاضي، ولغة الطقوس الدينية ولغة الطلاب في المدارس والصناع والأشقياء، ولغات المحاكم، والأطباء وعامية الثكنات الخاصة، وعامية الخياطات، وعامية الغسالات، وعامية عمال المناجم، وعامية البحارين، وغيرهم، وباختصار "يوجد من العاميات الخاصة بقدر ما يوجد من جماعات متخصصة، والعامية الخاصة تتميز بتنوعها الذي لا يحد، وأنها في تغير دائم تبعًا للظروف والأمكنة.
وإذا لاحظنا أن الفوارق بين اللغات الخاصة وبين اللغة المشتركة غير يسيره في المفردات، وأن "التشويه الصوتي أو الصرفي مهما قبل ينتج عنه قطع الرباط الذي يصل العامية الخاصة باللغة المشتركة التي خرجت عنها عرفنا أن هذه مسوغات كافية للفصل بين مستويات تلك اللغات الخاصة وبين المستوى الفصيح.
فالدارس الوصفي -إذن- عليه أن يحدد المستوى اللغوي الذي يريد بحثه، فلا يخلط نصوصًا من مستوى معين بنصوص من مستوى آخر؛ لأنه إذا خالف ذلك وخلط بين نصوص مستويين فأكثر، اتسمت نتائجه بالاضطراب؛ لأن الأساس الذي بنى عليه مضطرب مختلط النصوص، ومن هنا تسري الفوضى في نتائجه، وتكثر الوجوه، وتتعدد في الموضع الواحد.
وهذا هو ما حدث بالنسبة لقواعد اللغة العربية، فقد شاع فيها الاضطراب، وعمت الفوضى، واختلفت الآراء في المسألة الواحدة بين المنع والجواز والقياس والشذوذ؛ لأن القدماء من علماء العربية لسوء الحظ لم يقصروا تقعيدهم لقواعد العربية على مصدر واحد هو اللغة النموذجية، كما كان الواجب، بل أقحموا معها اللهجات العربية القديمة بصفاتها وخصائصها المتباينة.. ومرجع هذا الخلط هو فكرة القداسة التي خلعوها على السليقة العربية، ولذا جاءتنا قواعدهم مضطربة، تعددت فيها الوجوه، واختلفت الأقوال في المسألة الواحدة.
الخطوة الثالثة:
وتتمثل في تحديد وتوحيد البيئة المكانية بالإضافة إلى تحديد المستوى اللغوي المدروس، وتأتي أهمية هذه الخطوة من أن الطبيعة الجغرافية المتعددة، والمناخ المختلف لهما أثر كبير في اختلاف المجتمعات من حيث طبقاتها المتفاوتة، والمهن التي تعمل بها، وهذا يؤدي بالطبع إلى اختلاف اللغات واللهجات، فالبيئة الصحراوية التي يقطنها البدو تختلف عن المدن والأرياف التي يسكنها أهل الحضر، وبيئة الزراعة تغاير بيئات الصناعة والتجارة والصيد، والمناطق الحارة تختلف عن المناطق المعتدلة أو الباردة، وهذا التعدد والتفاوت في البيئات وما يصحبه من اختلاف في الطبقات الاجتماعية والحرف والعادات والتقاليد يؤثر في خصائص اللغة ويجعلها تختلف من بيئة إلى أخرى، لأن اللغة مرآة للحياة في كل بيئة، وتعبير صادق عما هو موجود فيها من المشاهد الطبيعية أو المدركات الحسية، فجميع خصائص الإقليم تنطبع في لغة سكانه.
ومن هنا كان على الدارس الوصفي أن يحدد البيئة التي يجمع منها نصوصه اللغوية التي يريد وصفها وتحليلها، ليقدم للناس قواعد منسجمة، يتعلمونها في يسر وسهولة، وإلا أصاب القواعد الاضطراب وسرت الفوضى إليها، لانتماء النصوص التي أخذت إلى بيئات متباينة فتباينت النصوص تبعًا لتباينها، وهذا بدوره يؤدي إلى اختلاف الأحكام في الوضع الواحد، ومن هنا يكون الإلمام بها صعبًا، ويصبح فهمها عسيرًا.
وإذا كان اللغويون العرب في صدر الإسلام قد حصروا القواعد التي يحتج بها في قيس وتميم وأسد وهذيل وكنانة وبعض الطائيين، ورفضوا الاحتجاج بلهجات الحضريين وسكان البراري ممن كانوا يسكنون أطراف الجزيرة فقد وجدناهم يتراجعون عن الأخذ بهذا المبدأ في القرن الرابع الهجري، وأوضح دليل على ذلك ما نجده في كتاب "الخصائص" لابن جني تحت عنوان: "باب اختلاف اللغات وكلها حجة" وما نراه من اعتناء ابن مالك في كتبه بنقل لغة لخم، وخزاعة، وقضاعة، وغيرهم، وقد فطن أبو حيان إلى ذلك التراجع عن سنة الأولين، فقال في "شرح التسهيل" معترضًا على ابن مالك: "ليس ذلك من عادة أئمة هذا الشأن".
وقد أسفرت تلك النظرة إلى اللهجات العربية القديمة بصفاتها وخصائصها المتباينة على أنها صور من اللغة المشتركة عن "خلق مشاكل معقدة، أيسرها اختلاف الأقوال في المسألة الواحدة، ومحاولة التوفيق بين المذاهب والشواهد المتناقضة، والإكثار من الأمور الجائزة، وكثرة التقسيمات والتشعيبات، والإسراف في وضع الشروط. ولو أنهم ساروا على مبدأ الأوائل كالخليل وسيبويه في تقعيد اللغة لم يحدث ذلك الاضطراب، ولم يبعدوا كثير عما نادى به المحدثون من تحديد البيئة المكانية للنصوص اللغوية المدروسة.
الخطوة الرابعة:
وتتمثل في تحديد الفترة الزمنية التي يراد بحث لغتها، فالباحث الوصفي، يكتفي بوصف أية لغة من اللغات عند شعب من الشعوب، أو لهجة من اللهجات، في وقت معين، أي: أنه يبحث اللغة بحثًا عرضيًا لا طوليًّا، والسر في ذلك هو: أن اللغة كائن حي ينمو ويتطور، ولا يثبت على حال واحدة. كما أنها مرآة للحياة الاجتماعية تعبر عما فيها من قيم وعادات ومظاهر للسلوك والنشاط، وإذا حدث تغيرات اجتماعية كبيرة في بيئة من البيئات -كأن تحدث ثورة دينية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، فلا شك أن تغييرًا مماثلًا سوف يحدث في جانب اللغة في تلك البيئة، وأعظم شاهد على ذلك: ما حدث في البيئة العربية عند مجيء الإسلام؛ فلقد كان نزول القرآن فاصلًا بين عهدين عاشتهما اللغة، وتعرضت في انتقالها من أولهما إلى الثاني لأعمق ما تتعرض له لغة من تغيرات جوهرية، ولا سيما في جانب الدلالة؛ فقد نحيت ألفاظ كثيرة من مجال الاستخدام اللغوي، فماتت معانيها، وغيرت معاني ألفاظ كثيرة من مجال الاستخدام اللغوي، فماتت معانيها، وغيرت معاني ألفاظ أخرى فصارت تدل على معانٍ جديدة بطريق المجاز أو التعميم أو التخصيص أو الإطلاق أو التقييد، كذلك نلحظ فروقًا واضحة في اللغة العربية في العصرين الأموي والعباسي، فلقد اتسعت في العصر الأخير اتساعًا كبيرًا عنها في العصر الأموي، حيث دخلت اللغة العامية بمصطلحاتها وخصائصها إلى مجال البحث. ونلحظ شيئًا من ذلك فيما قبل ثورة يوليو 1952، وفيما بعدها في لغة المجتمع المصري حيث تبع التغيير في جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تغييرات في الجانب اللغوي الذي ظهر بصفة خاصة في الصحافة والإذاعة والتليفزيون، فالدارس الوصفي عليه أن يحدد الفترة الزمنية لبحثه، وألا يخلط في مادة بحثه بين نصوص فترة زمنية ونصوص فترة أخرى، حتى لا تضطرب نتائج وصفه وتحليله. وكلما كانت الفترة المختارة للبحث أضيق، كلما كانت النتائج المتوقعة أدق وأضبط.
وإذا كان الباحثون يشترطون في الفترة الزمنية التي تبحث لغتها أن تكون غير مختلفة الأجزاء، فإنه يمكن القول بأن خلط اللغويين القدماء في دراسة اللغة بين عصري الجاهلية والإسلام إلى نهاية القرن الثاني في النثر، والقرن الرابع في الشعر، كان أحد الأسباب التي أشاعت بعض الفوضى والاضطراب فيما توصلوا إليه من نتائج.
منقول
يتبع