عرض مشاركة واحدة
قديم 03-07-2016, 09:31 AM
المشاركة 7
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


(2)
قاع المدينة ...
حيث تكثر الفجوات التي توصل لعالم سفلى تحكمه طائفة الظلام ..
لا أحد يمرح ويسرح ليلاً بالقرب من تلك الفجوات إلا إذا كان مخبولاً أو مخموراً ...
وغالباً لن يعود ليحكي ما حصل ..ليؤكد أو ينفي .. وتبقى الأمور عائمة..
لكن ذلك الشاب اليافع الذى يمضى قدماً في سبيله لا يلوى على شيء تؤكد
خطواته الواثقة الحازمة أنه ليس مخبولاً أو سكيراً .. ذلك الشاب يمضي ناحيه الخطر بإصرار ...
لم يبق إلا الانتحار ... ذلك الفتى يريد أن ينتحر بولوجه إلى قاع المدينة في ذلك الوقت من الليل ..
ـ " قف .."
صرخة حازمه لا تخرج إلا من حنجرة مدربة على الصراخ بهذه الطريقة الأمنية الحازمة ...
تجمد الشاب في مكانه ثم التفت ببطء إلى مصدر الصوت..
ـ " هل أنت معتوه ...؟ "
قالها رجل السلطة وهو يقترب من الفتى.. تلفت حوله في حذر ثم أمسكه من كتفه هامساً :
ـ " هل تريد الانتحار ..؟ "
نظر له الشاب نظرة خاوية... وتساءل :
ـ " لماذا تنزعج بهذه الطريقة يا رجل السلطة ...؟ "
ـ " ألا تفهم ... أنت تقترب منهم ...."
ـ " تقصد أبناء الظلام ... ألم تعلن السلطة عن دعوتها للحوار معهم وجاء
وفد من الشعب الأصفر لبداية الحوار ... لماذا نخاف من الاقتراب إذن ..هه..؟ "
وسكت الشرطي..
كان شيخاً قد جاوز الخمسين لكنه وقف حائراً تائهاً لا يعرف كيف يرد على ذلك الفتى اليافع ..
ـ " ما اسمك أيها الشاب ...؟ "
ـ " نادر...من شرق المدينة ..."
رتب الشرطي عاتقه في رفق قائلاً :
ـ " تعال إذن معي بعيداً ... المكان هنا خطر جداً .."
دفع نادر كفه بعيداً وصاح بحنق :
ـ " خطر!... كيف سنتحاور إذن مع ذلك الخطر ...؟ "
ـ " ليس هذا من شأنك .."
جاءت العبارة القاسية الحازمة من خلفهما فأجفلا ...
تراجع رجل السلطة للخلف ممتقعاً وهو يؤدى التحية العسكرية بيد ترتجف
على حين ظل الشاب على وقفته المتحفزة كالسهم الذى يستعد للانطلاق في أيه لحظه ...
ـ " السيد وسام شخصياً .."
مد السيد وسام كفه ناحيه الفتى مصافحاً ولم ينكر الشاب مدى قوة الشخص الذى يواجه..
كأن تياراً كهربائياً مر عبر أعصابه وهو يصافحه ...
ـ " أنت شاب من شبابنا الواعد كما أرى.. ولا يتوجب عليك أن تقف من سلطتك هذا
الموقف الحانق المتشكك ..."
حاول نادر السيطرة على أعصابه وهو يقول :
ـ " أريد فقط أن أفهم .."
نظر وسام في ساعته قائلاً :
ـ " ليس الآن..."
ـ " لماذا ...؟ "
ببطء يرفع وسام عينيه إلى الشاب ..وبهدوء وثقة يكرر :
ـ " ليس الآن.."
هنا وجد الشاب حشداً مرعباً من رجال السلطة في الأزياء الرسمية يحول بينه
و بين السيد وسام حتى لا يكاد يرى سوى صلعته اللامعة وعينيه العميقتين المطمئنتين....
نظر إليه نظرة متسائلة بمعنى : هل اطمئن؟.. فنظر إليه وسام نظرة أبوية مطمئنة بمعنى :
اطمئن هذا وعد .. و بينما حمل نادر حملاً بعيداً عن المشهد عقد وسام كفيه خلف
ظهره ورمق المكان في برود قائلاً :
- " هل المكان جاهز..؟ "
اقترب منه سليمان ساعده الأيمن و همس في أذنه بشيء ما .. فرفع ساعته إلى عينيه و قال :
ـ " على بركة الله..."
بعدها ظهرت السيارة الدبلوماسية تحمل شعار الشعب الأصفر و بداخلها وفد الحوار الموعود ....

***

تم اختيار الفجوة بعناية فائقة ..
وقام الفريق ب بوضع أجهزة دقيقة وتوصيلها بأسلاك متصلة ببعض
الشاشات و أخرج الأشقر آلة حاسبة و أخذ يضرب أخماس في أسداس و بعد ساعة
أعلن أن هذه الحفرة أو الفجوة مثالية تماماً ...
كان السيد وسام يراقبه من داخل عربة خاصة من وراء منظار داكن و بيده اليمنى
تناول علبه عصير ورقيه و قام برشف رشفات منها ثم التفت
متسائلاً إلى سليمان الجالس إلى جواره بالسيارة :
ـ " هل أحضرتم بعض اللب و الفول السوداني ...؟ "
قال معاونه في هدوء :
ـ " اعتقدنا أن السيد الأشقر سيكون أكثر تسلية من اللب و الفول السوداني يا سيدى .."
بالفعل كان مسلياً وهو ينبطح على وجهه جوار الحفرة و يسترق السمع..
ثم يعتدل و يخلع سترته و يشمر عن ساعديه معلناً أنه مستعد الأن للنزول..
كان هناك عدد لا بآس به من كاميرات التليفزيون وكاميرات عدة قنوات عالمية
و محلية تنقل الحدث الجلل لحظه بلحظه..
الحدث العالمي .. اللقاء المرتقب مع أبناء العالم السفلى تتبناه حكومة الشعب الأصفر ..
ـ " الأن سأنزل و معي الفريق ب مزودين بكاميرا لنقل الحدث ..
لا حراسه و لا سلاح ... هذا هو القانون ... اليوم سنكشف لكم جانب خفي
ظل مستوراً لعقود عن الطائفة الظلامية ..."
و همس سليمان في أذن السيد وسام :
ـ " ترى هل سيعود ...؟ "
ضغط وسام على أسنانه و قال :
ـ " سيعود ... بنى الأصفر لا يتهورون .. و لا يضحون برجل مثل نوسام ."
ثم ألقى نظرة من أسفل منظاره الداكن على نوسام والفريق ب وهم يثبون
داخل الحفرة حاملين معدات التصوير اللازمة... وعاد ليقول لمعاونه في حسم :
ـ " من أجل هذا تم تكليفي بتلك العملية.."
الملايين علت شهقاتهم المنبهرة بما فعله نوسام وفريقه منذ ثانية واحده..
مذاعاً بالبث الحى عبر الاقمار الصناعية.. يا لشجاعته!.. يا لبسالته!..
وتفانيه من أجل قضية الحوار .
هكذا كانت عبارات الإعجاب و الانبهار عبر شعوب العالم ...
واحد فقط أبتلع كل هذا بداخله وحافظ على هدوء أعصابه رغم ما يعتمل في نفسه
من قلق و شك و ريبه.. هذا الواحد هو وسام رجل الشعب الأمني ...
قال لمعاونه في برود لا يخلو من حدة :
ـ " شغلوا البث المباشر..."
كانت سيارته مزوده بجهاز مرئي صغير الحجم لكنه أستطاع رؤيه ما يحدث بدقه ...
حشد الصحافة والإعلام يتابعون ما يجرى داخل الفجوة عبر شاشة مرئي مسطحه ..
كان الأشقر يتحرك داخل الفجوة الأرضية في حذر..
تأملته أم نادر في انبهار عبر الشاشة و هي تضع صفحة الطعام أمام ولدها لكنه
كان قد استعاض عن الطعام بأصابعه التي كان يعض عليها متابعاً الأحداث على الشاشة ..
ـ " إنه يشبه ذلك الممثل الذي يحبه أخوك مدحت.."
نظر لها نادر ولم يعلق ..ابتلع أفكاره وعاد يتابع العرض ..
الأشقر يتعثر يعتدل فيتنفس المشاهدين الصعداء...
كان نوسام يقدم عرضاً سينمائياً لا تستطيع معه أن تغمض عينيك...
ممر ضيق طويل يبدو بلا نهاية و يبدو من صوت أنفاس الأشقر أن الهواء
بدأ يقل و من قلبه دعي عليه السيد وسام بأن يلفظ أنفاسه الأخيرة..
هنا سمع المشاهدون عبر الشاشات صيحة الأشقر المنتصرة ..
ـ " مرحى... هل ترون ما أرى ...؟ "
ولمح المشاهدون ذلك الجسد النحيل المضطرب يتحرك من اليمين لليسار
و سمع الكل صيحة حادة أشبه بصيحة وطواط منزعج
ـ " تعال يا صغيري ... لا تخشى شيئاً.. بابا جاء إليك للحوار..
أعرف أنك مبعوث من قبل عشيرتك... أعرف أنك تفهمني مثلما أفهمك ...
دعنا نثبت للعالم أنكم أناس مسالمون..."
مره أخرى تحرك الجسد النحيل و بدا للحظه وجهه أمام الشاشات
فعلت صيحات الدهشة و الفزع من ملايين المشاهدين و رجال الصحافة المحيطون بالفجوة ...
أما وسام فقد أراح ذقنه على راحته وهو يتمتم :
ـ " إنه هو ..كما توقعنا .."
قال سليمان في بطء حذر :
ـ " كان ينبغي أن نبيد تلك الطائفة الملعونة.."
لم يعلق وسام ..وعاد يتابع المشهد ..
كان نوسام الآن قد جلس متربعاً..
جذب نفس عميق ثم تمتم في انبهار وهو ينظر في الجهة التي يختبئ فيها الكائن :
ـ " مذهل ... لقد حدث تبدل مزرى لهذه الطائفة البائسة..."
و تحركت الكاميرا لتتركز الصورة على الكائن ...
كان شبيهاً بالبشر في أطرافه مع نحول شديد وشحوب في البشرة
وله عينان واسعتان جداً و شفتين و أذنيه تشبه أذني الوطواط...
وشعره أسود فاحم منسدل على كتفيه و يرتدي معطف طويل أسود ومهترئ..
ـ " مصاص دماء.."
هكذا تمتم نادر وهو يتأمل الكائن على الشاشة..
بالفعل هذا هو ما كان يبدو عليه ذلك الكائن بالنسبة لغالب المشاهدين ..
حتى أن الأشقر بدأ يتحسس عنقه وهو يقترب منه حثيثاً ..
ـ " هل تفهم لغتي...؟ "
لمعت عينا الكائن للحظه ثم .. انفرجت شفتيه فبرزت أسنانه الحاده لتزيد الطين بلة..
وشهق نوسام وحبس المشاهدين أنفاسهم .. و
ـ " نعم أفهم ..."
ودوت الشهقات المذهولة عبر حناجر ملايين المشاهدين...
المفاجأة كانت مذهلة... وصاح الأشقر مهللاً :
ـ " مرحي... أنتم تتكلمون بلغة الشعب الأسمر...
هذا سيسهل مهمتي و سيوضح قضيتكم أمام العالم ...
العالم كله الأن يستمع إليكم ... و لأول مرة بعد عقود من الاضطهاد و العنف الذى عانيتموه في القاع..."
مرة أخرى تلكم الكرابيج تهوى على أذن وسام ...
هذا التبكيت الموجه كالصواريخ الموجهة.. لابد أن صاروخاً وصل لحجرة السيد المسئول الأكبر
الأن وهو جالس يتابع الأحداث من مكتبه ...
كان وسام يعرف أن حكومة الشعب الأصفر تصطاد في الماء العكر
و أنها ستستغل قضية الكائنات الظلامية أسوأ استغلال ...
لكن المدهش هنا بالنسبة لأبناء شعبنا هو: كيف قررت تلك الكائنات الوحشية
أن تبدل سياستها مع سكان السطح و تقرر الجلوس على مائدة الحوار؟..
و لماذا يتم هذا مع بنى الأصفر... وسام يعلم أنهم يجيدون لغتنا لأنهم أصلاً
من بنى شعبنا و لأنه واجههم كثيراً و له معهم ملف حافل بالأسرار...
لكن المدهش هنا هو هذا الكائن الذى جاء ليوصل للعالم رسالة ما من عشيرته...
رسالة ربما تقلب العالم على رؤوس سلطة شعبنا....
كان يتكلم الأن بصوت كالفحيح يتناسب مع هيئته التي تشبه الصورة التقليدية لمصاصي الدماء ...
ـ " لم تمتد إلينا أيدي البشر إلا بالقتل و الحرق..."
اعترض نوسام قائلاً :
ـ " تقصد أيادي شعبكم الأسمر فأنتم بشر مثلهم لكنه القهر الغير مبرر.."
ـ " نحن لا نفرق ... كل الكائنات التي تحيا في النور تتشابه ... "
ـ " صدقني هذا التشابه شكلي فقط ... و إلا ما أرسلت من قبل شعبي الأصفر
لإجراء هذا الحوار معكم ... نحن نختلف عن الأخرين ."
ـ " إنه لمن دواعي سرور شعبنا الظلامي أن يجد أخيراً من يستمع
إليه... نحن طائفة عاشت لعقود طويلة تحت الأرض و في الكهوف لكننا لم ننس أصلنا أبداً ...
لكن البعض حاول على مدار السنوات أن يجعلنا ننسي ... و نقنع بباطن الأرض ...
و نحن نعلم أولادنا جيل بعد جيل ... أننا و أبناء ظهر الأرض إخوة لكنهم بغوا
علينا و لابد أن نعود يوماً للسطح و ننعم بالضياء مثلهم ."
مسح نوسام عبرة كادت تغادر مقلتيه!.. ثم قال في تأثر :
ـ " هذا فظيع !..."
ـ " مهما تكلمت أيها السيد القادم من السطح فلن أعبر عما يجيش به شعبنا
من مشاعر المرارة و الحسرة و الظلم ... و لم يكتف إخواننا بهذا بل أثاروا حولنا الشائعات
المغرضة التي زادت من الفجوة بيننا و بينهم فوق الأرض ..."
ـ " لا تظلم جميع إخوانك ... لعلها طبقه معينة تتحكم بمصير هم على مدار العقود
و تعمى عيون الجميع عن الحقيقة ..."
ـ " أعرفهم ... و نسميهم عندنا تنانين النار ... لأننا لم نري منهم سوى الحرق بالنيران ..."
قالها ثم خلع رداءه واستدار كاشفاً ظهره للكاميرا ..
فظهرت فقرات ظهره جلية مع عظام قفصه الصدري و معها علامات
حرق بشعه جعلت نوسام يكتم فمه بكفه مانعاً شهقة جزع عارمة!...
كان ظهر الكائن الظلامي قد حفرت فيه أخاديد بفعل النيران ..
" لا أحد يغامر بإنزال قوات شرطية لتلك البؤر .. لذا ..يتم ضرب تلك البؤر
القريبة للكائنات بالنابلم .."
كانت قبضة وسام تسحق علبه العصير الورقية وكان من داخلة يصرخ :
هذا عبث .. هذا خطر ..هذا للأسف لا يمكن إيقافه لأنه يشاهد من قبل الملايين ..
وكان الكائن الظلامي قد عاد بوجهه للشاشات ليستطرد :
ـ " نحن لا نطالب إلا بحقنا في النور .. أن تلسع جلودنا حرارة الشمس و ننعم بضيائها .. فهل تسمحون ..؟ "
تنحنح نوسام ثم قال في جدية :
ـ " أيها السيد الظلامي .. باسم شعبنا الشعب الأصفر .. أبلغكم تضامننا الكامل مع قضيتكم ..
و دعمنا الكامل لكم في حياة متكافئة مع إخوانكم فوق الأرض...
و ستتحمل حكومة شعبنا عبء التفاوض مع شعبكم حتى يسمح
لكم بالعيش معكم على السطح سواء بسواء .."
و مد يده إليه مصافحاً وهو يكمل بدبلوماسية :
ـ " شرفت بلقائكم .. أنا نوسام مندوب الشعب الأصفر."
ومد إليه الكائن كفاً نحيلة باردة وهو يقول :
ـ " شرفت بلقائكم .. أنا يسرم مندوب الشعب الظلامي .."
وكان التصافح الحار عبر الشاشات و أمام ملايين المشاهدات وتحت سيل العبرات..
يقول بكل وضوح أن الأيام القادمة حبلى..

***






الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..