عرض مشاركة واحدة
قديم 03-01-2016, 02:04 PM
المشاركة 2
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مقدمة




كنت في صباح ذلك اليوم كعادتي أمارس رياضة المشي بين أحياء شرق المدينة..
حيث كل شبر وتحت كل حجر تقبع ذكرى ما..
وما أشجى الذكريات بشرق المدينة..
تحت إبطي رزمة من الورق هي نتاج عمل مضني من الكتابة على مدار عامين ..
ولعل الدار التي اتفقت معي على نشر ذلك العمل قد مات صاحبها أو
على الأقل نسي اتفاقه معي..
ـ " أعرف أن القصة تمثل لك ذكريات خاصة..
لكن تلك الذكريات لم تعد ملكاً لك وحدك ولابد
للأجيال القادمة أن تطلع عليها وترسخ في وجدانها"
تلك العبارات التي دغدغ بها صاحب دار النشر مشاعري يومها ـ
والتي لم تكن بحاجة لدغدغة حقيقة ـ مازالت ترن في أذني..
قلت له يومها.. أي منذ عامين :
ـ " أنت محق.. لكن هل تتصور أن ما حدث تستوعبه قصة "
ـ " أعرف أنها ملحمة كبرى تلك التي خاضها شعبنا ضد الظلاميين..
لكن حتى إن لم تكن قصتك كافية فهي على الأقل ستكون ضربة
المعول الأولى التي ستصنع شرخاً في حاجز الصمت.. بعدها
سيتتابع الكتاب على إثرك
وسيكون لك فضل أول محاولة.. ومن سن سنة حسنة..."
قلت له في ملل :
ـ " لقد نجحت في إثارة حماسي فعلاً.. لكن هذا العمل لن يكون سهلاً
إنه بحاجة لطول نفس وصبر.."
ابتسم وهو يتراجع في مقعده متمتماً :
ـ " متى يمكنك الانتهاء منها على أقصى تقدير؟ "
صمت برهة وشرد بصري قليلاً.. الجواب كان محفوراً في صدري..
ـ " ليس الآن "
لقد مر عامان على هذا الحوار.. اليوم أحمل قصتي تحت إبطي
وأمر بها في جنبات شرق المدينة حيث وقعت أحداث القصة..
وكأنني أقارن بينها وبين معالم المدينة العجوز.. مراجعة أخيرة
وعجيبة للقصة قبل أن تقع في يد الناشر..
والبداية كانت عند مقهى شرق المدينة العتيد..
مقهى المعلم فوزي الذي كان مأوى لجميع أطياف مجتمعنا..
العامل والموظف والجامعي ومن لا عمل له.. اليوم صار
معلماً سياحياً بعد حرب النضال التي خاضها شعبنا منذ عدة سنوات..
اليوم صار رواد ذلك المقهى نجوماً في سماء تاريخنا الحديث..
لوحت بكفي لرواد المقهى محسن والشيخ حسن الفقي وابتسمت متذكراً..
وتنهدت حسرات على تلك الأيام..
كان هذا المقهى هو نواة المقاومة التي اجتاحت شرق المدينة زمن الحرب..
الأن هو مجرد مقهى يساعدك على قتل بعض الوقت مع كميات
من المشروبات الشعبية التي تدفع على (النوتة) غالباً..
لكنهاـ أي المشروبات ـ ليست من النوع الذي ينسيك نفسك والحمد لله..
ليس في هذا المقهى على الأقل .. فهذا المقهى له تاريخ لا ينبغي له أن يدنس..
تركت المقهى تطاردني أصوات ارتطام قطع الزهر و الدومينو
المستفزة و أكملت السير الحثيث.. هنا لفحت أنفاسي
رائحة (زفارة) السمك المعتادة كلما أقبلت على محل سمكة..
كان الأخير يتسلى برش الماء على طاولة السمك ولم يكد
يراني حتى أشار لي مبتهجاً أن هلم.. شكرته واضعاً كفي على صدري..
ـ " تعلم يا سمكة أنني عاشق لعالم البحار.. لكن.. ليس الآن.."
وكالعادة يبدأ سيال الذكريات يتداعى..
وجه سمكة معلم أخر من معالم شرق المدينة..
لكنها ذكريات أبعد ما تكون عن بيع السمك..
وتحسست قصتي تحت إبطي وكأنني اطمئن على تلك
الذكرى قبل أن أترك محل المعلم سمكه..
ثم أحكمت غلق فتحتي أنفي استعداداً لـ...
لا أطيق رائحة الدواجن خصوصاً تلك التي امتزجت برائحة الدم والأحشاء..
لو تسللت الرائحة إلى أنفي ربما تقيأت في أية لحظة..
"طيور وزة ".. لافتة متسخة بجوارها رسم ساذج
لدجاجة تشبه الفيل .. وبجوار الأقفاص
التي يرمقك منها الدجاج في ترقب يقف وزة ممسكاً بسكين مرعبة الشكل..
لوحت له بكفي الحرة وخرجت الكلمات من فمي خنفاء قليلاً
بسبب ضغطي على فتحتي أنفي بيدي الأخرى :
ـ " مسك وعنبر يا وزة.."
ـ " تفضل يا أستاذ.."
قلت بنفس النبرة الخنفاء المثيرة للضحك :
ـ " أريدك أن تذبح لي وزة ؟"
ابتسم كاشفاً عن صفي لولي! وقال واضعاً كفه على صفحة عنقه:
ـ " رقبتي يا أستاذ.. فقط تفضل وشرفنا.."
قلت مشيراً للأوراق كي يفهم :
ـ " ليس الآن يا معلم وزة فلدي مشاغل.."
وتركته ومضيت .. فسمعته يصيح من خلفي ضاحكاً :
ـ " اسمي مكتوب؟.."
قلت دون أن التفت :
ـ " جداً.."
وابتسمت للذكرى التي طفت على السطح.. وهمست لنفسي:
كانت لنا أوطان...
اخترت أحد الشوارع الجانبية الضيقة والتي تفضي إلى الطريق الرئيس..
لكنني كنت محظوظاً كالعادة فالشارع الضيق لم يكن خالياً!
مجموعة من الصبية يلعبون الكرة بحماس شديد..
حتى أنهم لا يشعرون بأي شيء يدور من حولهم ..
العالم كله صار رقعة لا تتجاوز عشرة أمتار طولاً في ثلاثة أمتار عرضا..
تتأرجح فيها كرة عابثة من هنا إلى هناك ..
وعلى المار بين اللاعبين الصغار أن ينتبه لنفسه ويأخذ
حذره وعينه على الكرة. كأنه تحول إلى لاعب أخر لكن بهدف مختلف..
الخروج من بينهم سالماً..
عندما كنا في مثل سنهم كنا نتوقف عن اللعب
حينما يمر أحدهم حتى لا يصاب بأذى.. اليوم تتوسل
عيناك لهؤلاء الصبية أن توقفوا قليلاً حتى أمضي في سبيلي ..
لكن جنون الكرة يصل للذروة فقط حينما يرون طلتك البهية..
وتطير الكرة لتنسف كل أمالك في المرور الهادئ..
وكيف تتحرك قيد أنملة وقد طارت نظارتك الطبية
إلى حيث تنتظرها قدم حافية تدهسها بقسوة..
حاولت أن أتحسس الأرض بحثاً عنها بيسراي..
وفي نفس الوقت الذي أطبق بعضدي الأيمن على
رزمة الذكريات كي لا تفلت وتحدث الكارثة..
وسمعتهم يتصايحون فيما بينهم..
الكل يتبرأ مما حدث.. هذه الكرة جاءت من الشارع الأخر!..
ـ ‌" أسف يا عمو.."
دنا الصوت الذي يخطو بحذر نحو الرجولة وشعرت
بملمس نظارتي الحبيبة وهي تدس في يدي ..
بسرعة ارتديت النظارة متلهفاً العودة مرة أخرى للعالم..
وأول ما طالعت كان وجه الصبي الذي ناولني النظارة ..
ـ " أسف يا عمو .."
كان يرمقني في ترقب.. هل سأصفعه على وجهه ؟
أم أكتفي ببعض السباب..
هو مستعد لأي رد فعل قاسي فيما يبدو..
كان الصبية قد تحلقوا من حولي وكأنهم يشاهدون فقرة في سيرك..
الوجوه المغبرة والأقدام الحافية والسراويل القصيرة وقصات الشعر العجيبة..
كل هذا كان أكثر مما تحتمله أعصابي ..
من حق هؤلاء الصبية أن يلعبوا.. لكن من حقهم كذلك علينا أن
يفهموا طبيعة العالم من حولهم.. وأنه لا يقتصر على عشرة أمتار
تركض فيها كرة من هنا إلى هناك..
اعتدلت قائماً ونفضت الغبار عن ثيابي وسعلت مرتين بفعل الغبار طبعاً..
بحثت بعيني المنهكة عن الساحرة المستديرة حتى وقعت عليها بالقرب
من منزل خرب.. تتأرجح على حافة حفرة صنعها أحدهم
بجوار باب البيت الخرب لسبب مجهول..
ولا إرادياً تحسست رزمة الأوراق كعادتي كلما لاحت لي ذكرى ما..
ذكرى دفعتني دفعا لتوجيه السؤال التالي للصبية المتحلقين حولي :
ـ " هل يعرف أحدكم قصة شعبنا مع الظلاميين ؟ "
تبادلوا النظرات فيما بينهم .. هذا أخر ما يمكنهم توقعه مني ..
لسان حالهم يتساءل : لماذا لم يمضي ذلك الكهل إلى حاله وتركنا لحالنا؟
ـ " لا تعرفون؟ "
تكلم الصبي الذي ناولني النظارة :
ـ " وهل كان لشعبنا قصة؟ "
شعرت بغصة في حلقي.. وصعوبة في التنفس.. لكنني بالرغم
من ذلك عدت أكرر بصوت مبحوح :
ـ " لا تعرفون ! "
قال الصبي وهو يبتسم بلا مبالاة :
ـ " نحن لا نعرف سوى لعب الكرة .. إنها الإجازة الصيفية يا عمو.."
وتناثرت من حولي الضحكات.. وتردد صداها في أذني
ممتزجاً بأصوات أخرى قادمة من ماضي ليس ببعيد ..
ليس للحد الذي ينسى معه أبنائنا ما جرى وما كان ..
" ماذا تعرف أنت أيها الغر الساذج عن الظلاميين.. هه؟ "
" أريد فقط أن أفهم .."
" ليس الآن ..."
" لماذا ...؟ "
" ليس الآن .."
استجمعت أنفاسي وكبحت جماح ذكرياتي وعبراتي..
الكابوس الذي كنت أخشاه قد تحقق.. ونشأ جيل لا يعرف
ما جرى لشعبنا من جراء أفة النسيان..
قلت لهم بمرارة :
ـ " اجلسوا معي ساعة .. أحكي لكم قصة شعبنا.."
تبادلوا نظرات الحيرى..
ـ " ليس الآن يا عم.. نريد أن نواصل اللعب .."
لكن صوتي هدر منذراً بالويل :
ـ " بل الآن .."
وجلست على الأرض.. وجلس الصبية من حولي ممتقعين..
وبيد مرتجفة تناولت رزمة الأوراق.. وبأنفاس ملتهبة بدأت أقرأ لهم قصتهم التي يجهلونها..


***