عرض مشاركة واحدة
قديم 05-24-2016, 02:45 PM
المشاركة 70
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:



وعلى الرغم من اتساع دائرة الألم والخوف والتعاسة والشقاء ورائحة الموت في زمن الطفولة المبكرة لكن الحياة كانت في جميلة، ولذيذة، في جوانب كثيرة منها، فلم تكن الحياة شريط متواصل من الألم، وانما كانت تتخلل كل تلك الظروف أوقات سعادة عارمة كنت اعيشها انا الطفل، ولو ان نسبة السعادة الي الشقاء هي أقرب الي نسبة اليابسة الى الماء في كرتنا الأرضية...او هي بضعة صفحات في موسوعة الم طويلة، ويصدق عليها وصف الشاعر:
كتاب حياتي يا عين ...ما شفت زي كتاب
الفرح فيه سطرين..... والباقي كله عذاب
وقد انطبعت تلك الجوانب السعيدة ولحظات الفرح من حياة الطفولة عندي على شكل صور لا تمحى ابدا في ذاكرتي...

ومن ذلك تلك الأوقات التي كنت امضيها في اللعب مع الأطفال حولي، من الاخوة، والاقارب، او أبناء الجيران، وبعضهم كانوا قريبين جدا منا، يعيشون معنا معظم الوقت، وكأنهم من افراد العائلة...
وكانت العابنا في ذلك الزمن مختلفة تماما عما تطورت اليه الألعاب في أؤخر القرن الماضي ومطلع هذا القرن الحادي والعشرين...كانت العابنا بدائية مصنوعة محليا وبأدوات بسيطة لا تكلف شيئا...بل كنا نحصل على معظم مكوناتها في الاغلب من النفايات...

وربما كانت المرجوحة المعلقة في اغصان شجرة التوت في ساحة الدار الامامية هي اهم تلك الألعاب على الاطلاق، فقد كنا نتمرجح فيها طوال الوقت تقريبا، خاصة عندما تكون شجرة التوت مكسوة بالأوراق الخضراء الكثيفة والتي تصنع ظلا ظليلا يجعل المكان ربيعيا ممتلئا بهجة وجمالا خلابا، او حتى لو كانت جرداء عارية من الأوراق في ايام الخريف وبداية موسم الشتاء حيث تختفي تلك اللمسة السحرية والظل الوارف الظليل في المحيط كنتيجة لتساقط الأوراق، لكن المرجوحة تظل معلقة هناك لمن يريد ان يتمرجح...حيث ما تلبث رحلة بروز تلك البراعم ان تنطلق من جديد لتتحول في وقت قصير الى اوراق خضراء عريضة معلنة عودة موسم الربيع وبالتالي عودة موسم الخير والفرح واللعب والسعادة الغامرة...

وكنا نلعب الاوكزة وهي عبارة عن رسم على الأرض بالخط الأبيض الطباشيري ان وجدت الطباشير او أي لون اخر يمكن ان يتوفر مثل لون الفحم الأسود من موقد النار، ويكون الرسم مكون من ستة مربعات متساوية ترسم على الأرض حيث يقفز فيها اللاعب ضمن طقوس معينة للعبة تلك...
كذلك كانت لعبة طاق، طاق، طاقية واحدة من أشهر الألعاب الجماعية، حيث يجلس الأطفال على شكل دائرة ويقزم أحد الأطفال بالدوران حول الحلقة وهو يحمل منديل يضعه خلف شخص وهو ينشد طاق، طاق طقية، والمجموعة ترد عليه رن رن يا جرس...

كذلك كنا نلعب البنانيير او الجلول وهي تلك الكرات الزجاجية الملونة الجميلة، وكان الأطفال يستخدمونها في العاب مختلفة منها الجورة ...وقليلا ما كنا نلعب بالكرة لندرة الكرات على اختلاف أنواعها وخاصة كرة القدم، والمكان الوحيد الذي كنا نمارس فيه العاب الكرة ونستخدم فيه كرة حقيقية كانت ساحات المدرسة، وبعد ان يكون الطفل قد تجاوز مرحلة الطفولة المبكرة ودخل المدرسة، على الرغم اننا كنا أحيانا نصنع كرات من بقايا الثياب والاقمشة وبعض المواد الأخرى اللينة حيث نلفها ونجعلها على شكل الكرة الدائرية ونستخدمها وكأنها كرة حقيقة مع الفرق الشاسع في حركتها...
كذلك كنا نصنع من الاسلاك ان توفرت عجلات دائرية نوصلها بعصي طويلة او قضيب حديد وقد كانت هذه الصناعة اليدوية البدائية تشهد منافسة غير معلنة بين الاطفال حيث كان أكثر الأطفال ابداعا في صناعة تلك العجلات وأحيانا السيارات السلكية هو محمود العبد القادر الشقور الذي كان يتفنن في اشكال واحجام السيارات السلكية التي كان يصنعها، حيث ما نلبث ان نحاول تقليدها في اشكالها وأسلوب حركتها...

ومن الصفحات الأخرى الجميلة التي ما تزال مطبوعة بروعتها وجمالها في ذاكرتي كان انتظار موسم الشتاء، وسقوط حبات المطر الذي كان يبدو غزيرا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي مقارنة بما يسقط الان، وكانت تلك بحق من الصفحات الجميلة التي كنت انتظرها بشوق، واستمتع بها اشد الاستمتاع. وكانت حبات المطر الساقطة من السماء تبعث في سعادة عارمة لاسباب خفية لا ادرك كنهها، وكنت انطلق حينما تتجمع المياه للعلب فيها، وكانت اللعبة المفضلة في مثل تلك الأوقات هي صنع القوارب الورقية التي كنا نضعها في تجمعات المياه تلك وندفعها ونحن في غاية السعادة والمرح...
وكنا أحيانا نذهب الي الاودية حينما تمتلئ بمياه الامطار...على الرغم من المخاطر الكبيرة التي كانت تمثلها المياه الجارية...

كما ان غزارة المطر في بداية الموسم كان يعني فقس الفطر في جبال قرية ديراستيا المجاورة وتحت أشجار البلوط وهو الذي كان يندفع الناس لجمعه في طقوس جماعية احتفالية وهم في غاية السعادة والمرح خاصة لمن يمتلئ دلوه بالفطر الجبلي البري اللذيذ ... وكانت الجلسة حول كانون النار، فاكهة الشتاء، من أروع الأوقات حتما، وكنا نستمتع ونحن نتسابق على وضع الحطب في الكانون، وكانت هذه طقوس يوميه نمارسها مع ساعات الغروب طوال فصل الشتاء...

كما كنا ننتظر الربيع موسم الخير على أحر من الجمر...الذي ما ان يحل حتى تكثر رحلاتنا الي البر، احيانا من اجل التقاط بعض الحشائش البرية التي تؤكل مثل الخس البري، والفقيس وهي نباتات اشبه بالبطاطا لكنها برية وكنا اكثر ما نجدها في الحقول المزروعة قمحا...وأحيانا للبحث عن اعشاش الطيور خاصة اعشاش طائر الحجل (الشنار) الذي تضع انثاه البيض في بداية شهر اذار وهي أيضا طقوس تمارس بشكل جماعي حيث تجد عددا كبيرا من الناس تروم الأرض تبحث عن تلك الاعشاش...
وكثيرا ما كنت ارافق والدي في هذا الموسم الي البرية، وهو موسم كان يشهد أيضا طقوس حراثة الأرض، وتنظيفها من الأعشاب، وتقليم الشجر، وكنت أجهد انا اثناء ذلك في البحث عن اعشاش الطيور في الأماكن المجاورة رغم المخاوف من الافاعي...

ثم كان موسم نضوج الثمار المشمش والتوت والدراق وغيرها من الثمار الصيفية أيام احتفالية جميلة، ومصدر سعادة وهناء...وبالإضافة الي اكل ثمار التوت الشهية كنا نترقب وصول العصافير أبو طبعة حمراء وأبو طبعة سوداء من اجل اصطيادها من على شجر التوت سواء بالنقافة او بالقوس المصنوع من خشب السويد...اما انتظار موسم التين والعنب مع اشتداد حرارة الصيف فتلك احتفالية أخرى هي الاجمل حتما وكنا أيضا نمارس صيد العصافير من صنف التويني هذه المرة، والذي يحبذ اكل ثمرة التين، وكان الصيد من على شجرة التين أسهل بكثير حيث كنا نقوم على قطع كل الثمار الناضجة ولا نبقي الا تلك المغروسة في رأس القوس فلا يكون امام العصفور الجائع الا القفز على العود الذي نجعله فخا منصوبا لاصطياده من اجل ان يأكل من تلك الثمرة الناضجة فيتحرك ذلك العود ( الكرزم ) من مكانه فيسقط العصفور في الشرك وهو عبارة عن خيط من القنب يربط به طرفي القوس فيصبح العصفور اسيرا من رجليه التي كنا نجدها مكسورة في أحيان كثيرة من شدة القوس او من شدة الحركة التي يقوم بها العصفور وهو يحاول التملص من القوس بعد وقوعه في الاسر...

وكانت أيام جني ثمار الزيتون من أجمل أيام السنة، وهو أيضا موسم جماعي وعلى الرغم من مشقة جني ثمار الزيتون لكنه موسم كان يبعث على سعادة عارمة عند الجميع خاصة إذا كان الموسم ماسية أي ان الشجر غزير الإنتاج...ولا اظن ان هناك ما هو الذ من الطعام أسفل شجرة زيتون، ولو كان طعاما بسيطا مكون من الخبز والزيت وحبات البندورة ...واذكر انني كنت استمتع بسماع اغاني النساء اللواتي كن يعملن معنا في جمع الحب، ومنهن واحدة اسمها حلوة سليمان حينما يبدأن بالغناء الشعبي للتسلية وشحذ الهمم. ومن تلك الأغاني اغنية "عاونيني يا يدي حتى اروح بلدي" وهي طريقة كانت تبعث الحماس في العالمين وتحثهم على الصبر في عملية التقاط حب الزيتون المضنية...وكانت لحظات المساء في موسم الزيتون خاصة رائعة في نكهتها وجمالها وشعبيتها وطقوسها وكأن القرية تظل في عرس مستمر باستمرار موسم الزيتون ولم يكن هناك الذ من طعم الحمص والفلافل الطازجة في امسيات ذلك الموسم حيث كانت دكاكين القرية تقدم خدمات إضافية لا تقدمها عادة في غير موسم الزيتون...

كما كانت أيام درس ثمار الزيتون بمثابة ايام عيد حقيقية...وكان كل ما يتعلق بأيام درس الزيتون جميل ولذيذ وباعث على الفرح والسعادة، وكنا نذهب الي معصرة الزيت مع ساعات المساء غالبا نلهو ونحرس الثمار التي نضعها في احواض خاصة توفرها المعصرة لوقت عصرها. فقد كانت معدات عصر الزيت بدائية وبطيئة، حيث كان الثمر يوضع تحت حجارة ضخمة تدور فوقها بقوة ماتور كهربائي مصمم لتلك الغاية، ثم يتم وضع المسحوق في اوعية مصنوعة من خيوط القنب، وتوضع هذه الاوعية بعد ملئها على مكابس تعمل بالضغط الهيدروليكي، حيث يتم ضغطها فينزل منها السائل بلونه الأسود القاتم، حيث يتم فرزه بفرازة خاصة تقوم على فصل الزيت فيتدفق من مكان خاص بلونه الأخضر الجميل المائل الي اللون الأصفر...بينما يسيل الزيبار اسود اللون من الفرازة باتجاه بئر مجاور...

وكان وصول الزيت الجديد الى البيت يعني حفلة موسمية يتم خلالها عمل حلويات المطبق وهي عبارة عن خبز طحين عادي لكنه يخبز بطريقة خاصة وبحيث يتم خلط الخبز بالكثير من الزيت ويضاف الى الخبز السكر الأبيض ومسحوق ثمار اللوز، وهي اكلة لذيذة ينتظرها الناس من موسم الي اخر...
ومن الصفحات الأخرى التي كانت باعثه على السعادة والبهجة في نفسي، كانت لحظات انتظار الخبز امام الطابون حيث كنت كثيرا ما انتظر الرغيف الساخن لأضيف اليه بعض الزيت والملح وأحيانا عصير او رب البندورة وكانت هذه، وما تزال من الذ الاكلات الشعبية التي كثيرا ما كنت أفضلها على الوجبات الساخنة حتى في افطارات رمضان...

وكان انتظار غياب الشمس وترقب صعود الخطيب في شهر رمضان على سطح منزله الواقع في غرب القرية لحظات لذيذة لا تنسى ابدا، حيث كنا ننتظره نحن الأطفال ونحن نلعب على ظهر منزل يقع في الجهة الشرقية المقابلة من القرية ...وكنا كثيرا ما ننشد ونحن في انتظار موعد الإفطار بشكل جماعي أناشيد شعبية فنقول مثلا " اذن يا خطيب قبل الشمس اتغيب..." ومنها يا مفطر في رمضان...

وكان الوقت الذي كنت اقضيه مع والدي رغم فرق السن حتى عند بلوغي مرحلة الوعي الأولى فبينما كنت انا في السادسة كان هو والدي في الثانية والستين، رغم ذلك كان ذلك الوقت الذي كنت اقضيه بجواره خارج المنزل وسواء في باحة الجامع عند صلاة المغرب، او اثناء جلوسه مع بعض اصدقاؤه، وقتا جميلا ومفيدا فقد كنت استرق السمع لبعض أحاديث الكبار وظني انني تعلمت منه أشياء كثيرة عن الحياة والناس اثناء تلك الجلسات...

وكان وقت قطاف العسل ومن ثم عصر أقراص العسل في ظل شجرة التوت في ساحة الدار من اجمل اللحظات والتي كانت اشبه بطقوس احتفالية حيث كانت تتم هذه العملية بصورة يدوية تتطلب الكثير من الجهد...

وكانت رفقتي لوالدي اثناء الزيارات الي مدينة نابلس القريبة من أجمل الأوقات في طفولتي المبكرة، ومثل تلك الزيارات كانت نادرة في زمن طفولتي نظرا لغياب وسائل النقل وربما بسبب حالة الفقر التي كانت سائدة...

واذكر ان والدي كان يبدو وهو خارج المنزل مرحا مبتسما، ومنطلقا، منشرحا خفيف الظل وهو يتبادل الحديث مع اصدقاؤه والاخرين، بينما كنت اجده وهو في المنزل جديا متجهما في الغالب لا يكاد يبتسم ابدا، رغم اننا في بعض الأحيان وخاصة اثناء سهرات العائلة، كنا ندفعه للضحك... وغالبا ما كان ضحكه إذا ما نجحنا في التحايل عليه ودفعه للضحك يأتي خارج عن السيطرة، حتى اننا كنا نخشى عليه من شدة تلك الضحكة النادرة، لكنه إذا ما اصابته نوبة الضحك تلك ما يلبث ان يظهر تشاؤما، ويبدأ في التحسب لوقوع شر ما؟ ويبدأ في الدعاء بأن يكفيه الله شر ذلك الضحك. فقد كان والدي يخشى الضحك الشديد ويعتبره مؤشر لوقوع شر ما؟! واظنه كام متشائما في سنه تلك، وكثيرا ما كان يردد بصوت جميل مرتفع بضع ابيات شعر من تغريبة بين زيد، ابيات حزينة ما ان تسمعها حتى تصاب بنوع من الكآبة والحزن... فكثيرا ما كان والدي يردد ابيات شعر تتقول :
لا تفرحوا للطير ان أجا ابلادكم ...ما جاب هالطير الا أمور عجايبة.

والغريب انه كان يصيب في توقعه في كل مرة...وكنا شهود على ذلك حتى اننا أصبحنا في كل مرة كان يضحك فيها بعمق نتوجس مثله من شر منتظر... وغالبا ما كان يطول انتظارانا حتى يحصل امر يقلب جو الفرح والمرح الى جو من النكد والكآبة...