عرض مشاركة واحدة
قديم 06-18-2012, 11:48 PM
المشاركة 23
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ب ـ الحفر في السرد:
يتجلى التماهي مرة أخرى بين الأثر ورامة. وما دامت رامة شخصية روائية محورية (مبأرة) على مسار السرد، فإن التركيز عليها من خلال استرجاعات ميخائيل أو الخطابات المنقولة والمباشرة التي اختارها الكاتب، باعتماده الحوار (قال-قالت) على لسان أصحابها وبتحريض من الراوي (السارد)، فإن رصد الحكاية وتتبع السرد يرجح السرد المتزامن والمحايث، ويرجئ السرد التعاقبي والزماني الخارجي الذي يركز أكثر على التوالي المنطقي للأحداث، لماذا؟
لأن الرواية باختيارها صيغة الحوار المنقول على لسان الشخصيات المحورية جعلت من سردها سردا متقطعا أو مقطعيا أو حتى مشهديا، لا يعتمد على التوالي الذي تعتمده الحكاية التقليدية حين يكون السرد زمانيا والأحداث فيه متعاقبة ومنطقية. لهذه الغاية اعتبرنا الكتابة لدى ادوار الخراط صعبة ومركبة كالأحلام أو كالصور المشهدية المتقطعة. هذا الحكم لا ينعت الرواية بعدم الانسجام والتفكك بقدر ما يؤكد على اختيار لنمط من الكتابة مغايرة للكتابة السائدة لدى الواقعية المنطقية (الخارجية).
فالرواية استرجاعات واستذكارات أو أنها كأحلام اليقظة، لكن أهم ما يميز الكتابة التزامنية والحفرية هنا هو التكرار. فشخصية ميخائيل الروائية لا تمل الوصف وتقليب جسد وروح رامة وكأنها عالم زاخر بالمخلفات، عالم قديم بائد حديث الاكتشاف، كل لقاء أو طيف عابر اكتشاف وفرصة للحفر واستخراج المعنى، وكل تكرار يكون آسرا مستحوذا، التكرار لدى ميخائيل الأركيولوجي في الحب –الكاتب الديونيزوسي الحالم- لا يعادل التماثل والتشابه بل الاختلاف. فرامة أرض مطمورة وكلما أزيحت عنها طبقة جيولوجية أبانت عن زخارتها وزخمها طبقة أخرى أعمق، رامة الإنسان، ورامة العشيقة، ورامة العاملة، ورامة موطن الحفر وعالم المخلفات العتيقة. هذا التماهي بين رامة والأثر الأركيولوجي له تأثير كبير على السرد لذلك نجد الراوي يحفر عميقا في جسد رامة مستبطنا كل مخلفاتها، وفي كل اكتشاف جدة، من هنا يصبح للتكرار معنى عموديا لا أفقيا، معنىالبحث ليس الرصد والتتبع التاريخي ونقل الأخبار، ومن ثم نفهم لماذا لا يمل الراوي (ميخائيل) الوصف والوقوف عند دقائق الجسد الأنثوي وفي شتى حالاته لا يهمل أي جزئية ولو دقيقة حتى حبات العرق، وحتى رجفة الرغبة وشعيرات الذراع، وفي ذلك أيضا عزاء للنفس القلقة المتشكلة التي لا يقين لها في الحب. وفي ذلك أيضا حديث عن النفس. ومن هنا قلنا عن كتابة الخراط أنها صعبة، وأنها تقف عند الحدود بين الحكي السيرذاتي وبين الرواية، جاء في النص: "قالت: تكلمنا عن الست بهية شعبان كثيرا".
"قال: أبدا… كالعادة لم نتكلم إلا عن أنفسنا، هل تكلم أحد أبدا إلا عن نفسه؟" (ص77).
إنه حفر في أرض واحدة تتماهى فيها الذوات والأشياء، تصبح رامة آخر الذات ومعادلها، المرآة التي يرى فيها ميخائيل جوانب من ذاته، من مضاعفه، ويعرضها على المتلقين، وتصبح رامة مكانا للحفر عن الآثار المطمورة، موقعا حافلا بالتاريخ كالذاكرة التي تثقل على الشخصية المحورية وتعود إليه في صور من التاريخ الشخصي والجماعي في آن؛ تاريخ الحب وتاريخ التعايش والتسامح بين الإسلاميين والمسيحيين الأقباط في مصر.
2-4- الكتابة الشذرية:
الكتابة لدى ادوار الخراط صرح يشيد من المختلف والمؤتلف، موقع أثري يزدحم بالمخلفات، إلا أن انحياز الكاتب إلى جهة الكتابة الحداثية جعله يحول الأحلام إلى آثار –كما فعل فرويد- وكما يرى جورج دوبي (G.Duby): "إن أثر الحلم "كأثر أي خطوة". ومن هذه الزاوية تصبح الكتابة لدى الخراط كتابة ذات آثار واضحة وحقيقية مهما توغلت في الصعوبة والتركيب، وهي أيضا كالأحلام التي يرى فرويد أنها على أنواع: أحلام قصيرة جدا تتكون من صورة أو بعض الصور ولا تحتوي إلا على فكرة أو كلمة..
أحلام غنية وتجري أحداثها كرواية حقيقية وتبدو أطول أحلام واضحة أكثر كالأحداث الحقيقية، ويحتاج الحالم إلى وقت كي يتبين له أن ما يحدث أمامه ليس إلا حلما.. وهكذا (ص65).
وإذا ما أعدنا ترتيب المصطلحات المبثوتة في هذه الدراسة سيتبين لنا أن الكتابة لدى الخراط مقطعية ومتزامنة ومشهدية لا تسترسل في الحكي ولا تتبع الوقائع والأحداث وإنما تنهل بغزارة من حياض الذاكرة، ومن أعماق النفس مستفيدة من الاسترجاع والاستذكار والأحلام والكتابة التوثيقية والحوار الداخلي والحوار المنقول بحياد الراوي.
2-5- الكتابة كلعب أسلوبي:
نقصد بالكتابة الأسلوبية ما كان معروفا في العصر العباسي بالبديع حيث تم الاهتمام به لإبراز قدرة الكاتب على التمكن من مادته؛ أي اللغة العربية. وفي هذا المجال دراسات بلاغية عديدة لا مجال لذكرها هنا، لكننا نريد فقط أن نبرز اهتمام ادوار الخراط باللعب الأسلوبي والذي أطلق عليه في هذا المقام (الجناس الصوتي) حيث يشتغل الكاتب على حرف أو حرفين ويخصص لهما فقرة أو أكثر كوقفة وكاستراحة وكدليل على وفرة ألفاظه، وغنى معجمه، وهذا ما لا يمكن نكرانه، فالكتابة لدى الخراط تستمد قوتها من معجمه الفني الوفير الزاخر –نتذكر هنا أبا العلاء المعري في اللزوميات، وفي رسالة الغفران مثلا- بالإضافة إلى طاقته التخييلية واعتماده الحفر بدل التعاقب التاريخي. ونسوق هنا نموذجا واحدا من بين عدد من النماذج في الصفحات (160، 161، 215، 226، 288) وعلى سبيل المثال: "عطشي لا يطاق، أمطار لا تسقط، اخطبوط متقطع الأطراف يحيطني بالحبوط، حطام أوطار حطت بها طوارق البطلان العاطفية، تتفطر النياط من وطأة القطيعة، تطبق أخطار مطردة طال بي طراد طموحات مطروحة على أطراف البطاح طوقتني وحطت على طيور الطوام خطوط رقطاء تطيح بي.."(ص288).
الكتابة عند ادوار الخراط عمل جاد ومضن لذلك فهي تحتاج إلى قراءة خاصة وإلى فهم خاص. وقد استعننا في استجلاء بعض إمكانات القراءة والكتابة معا بالحلم كمعادل للواقع والحياة الخارجية، وبالتماهي كإمكانية لإبراز التداخلات بين العناصر المكونة للمتخيل الروائي وإمكانية الانعكاس الدلالي أو تبادل التأثير بين موضوعة الحب، وموضوعة الأثر، وموضوعة الصراع. كما استعنا بمفاهيم أخرى كالتكرار والحفر الدلالي والتحويل والبديع