عرض مشاركة واحدة
قديم 06-18-2012, 11:24 PM
المشاركة 21
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سيرة ذاتية للكتابة جريدة السفير 2006

وصف إدوار الخراط الشاعر أدونيس، في تفسير لقوله أنه ليس من "جمهرة الشعراء" بل هو من أفذاذهم، بأنه شاعر ومفكّر منظّر في آن، وهو شاعر مجدّد مغامر. وأضاف "ثم هو ـ أساساً ـ شاعر ملهّم وملهم في الوقت ذاته.
- وأردف ذلك بقوله "ليس ثم شاعر ـ أو فنان ـ كبير إلاّ إذا استند وقام صُلبه على أرضية من الفكر والتأمل والمعاناة العقلية.
لا أدري متى وأين نشر إدوار هذه الشهادة وفي أي مناسبة ولكن قرأتها في كتابه "مواجهة المستحيل" الذي صدر مع كتاب له آخر "مجالدة المستحيل" ـ الأول.. مقاطع من سيرة ذاتية للكتابة، والآخر.. مقاطع أخرى من سيرة ذاتية للكتابة، وكلا الكتابين من منشورات دار البستاني عام 2005.
وخلال زيارتي للوطن في يناير/ فبراير الماضيين، حضرت ندوة نظمتها "جماعة الأتيلييه" في القاهرة عن سيرة الروائي الكبير الذاتية للكتابة، التي أقيمت في أوج مباريات كأس الأمم الإفريقية وخلال إحدى المباريات الحاسمة التي اشترك فيها الفريق المصري القومي. ولست بحاجة الى القول أن قلوب وعقول المصريين، من قمة الهرم الى قاعدته، كانت معلّقة بمصير هذه المباراة. لم أكن أعتقد أن المثقفين، أو في أحسن الأحوال الشبان المشتغلين بالأدب، أو حتى الكهول الذين كانوا يترددون على مسكن إدوار الخراط في الزمالك، ليستطلعوا رأيه ومباركته ـ ككاهن الحداثة وما بعد الحداثة ـ كما يحلو لي أن أسميه عن حق ـ هم في النهاية جزء من القطيع.
فقد كان الحضور جدّ متواضع، وكاد يقتصر على حفنة من طلاب جامعيين يصطحبهم أستاذهم وعدد قليل آخر من الشباب والأدباء أو محبّي الأدب. ومع ذلك، أو لذلك كانت الندوة حميمة ولم تحل دون تدفق إدوار الخراط في الردود على أسئلة الحاضرين بنفس لغته الشعرية أحياناً والموضوعية المنطقية أحياناً أخرى.

وقد حرصت على اصطحاب كتابيْ السيرة الذاتية في عودتي الى نيويورك، على أمل أن أنقل، أو بالأحرى أستنسخ للقارئ صورة إدوار الروائي والناقد والشاعر والفنان التي رسمها بقلمه لنفسه. - وعندما شرعت في الكتابة بنيّة تقديم اسكتش تخطيطي لهذا "الأوتوبورتريه" المعقد، لم أجد وصفاً ينطبق عليه أصدق من وصفه لأدونيس. وعندما رجعت الى تلك الشهادة كدت أقتنع بأنه كان في الحقيقة يصف نفسه، مع اختلاف مجاليْ إبداع الشاعر المفكّر المنظّر والروائي المفكّر المنظّر.

- فإدوار الخراط روائي أساساً، مجدّد ومغامر، كان منذ بدايته ولا يزال في شيخوخته رائداً مجدداً، ملهماً (بفتح الهاء) وملهماً (بكسر الهاء). ولكنه ربما يختلف عن أدونيس، هذا إذا جازت المقارنة بين شاعر أساساً وروائي أساساً، من أن أدونيس أكثر ميلاً الى التنظير وليس له باع إدوار في النقد، ولا دوره في تقديم عدد كبير من الروائيين والقصصيّين وحتى الشعراء والفنانين التشكيليين، في مقتبل حيواتهم المهنية.

صورة وحتى لا أنجرف في هذا السياق الى رسم بورتريه آخر غير الأوتوبورتريه الذي أردت تقديمه، لا بد من الرجوع الى تخطيطات الكاتب نفسه، لصورته الشخصية التي سجّلها في مناسبات مختلفة، من مقابلات صحافية الى محاضرات في منتديات أدبية وفكرية عربية ودولية، والتي جمعها في كتابيه من دون الإشارة الى تاريخ كتابتها أو موقع نشرها أو قراءتها، وبصفة خاصة مداخلته في ندوة الأتيلييه الأخيرة، التي لخّص فيها حصاد الكتابين. ونظراً الى أني أشرت بادئ ذي بدء الى دوره الهام في تشجيع كل ما ينمّ عن جدّةٍ وطرافةٍ وموهبة واعدة أو مُنبجسة، سواء كان صاحبها كاتباً شاباً أو طاعناً في السنّ، سواء اعترف أو لم يعترف أولئك الكتاب بثمرة هذا التشجيع، والذي عرّضه في كثير من الأحيان للانتقاد، وربما الاهتمام بالمحاباة "لتلاميذه" أو "مُريديه". وفي هذا السياق،
-يؤكد إدوار الخراط أن الإبداع ليس له حدود، "فالإبداع هو كسر الحدود، ومعناه الحرية، وفي الوقت نفسه هي مسؤولية.
حرية الآخر هي الحد الوحيد لحريتي، ولا يحد حرية المبدع إلاّ حرية النقد بروح من الفهم والمعرفة والاستناد الى دراسات معمّقة وحسنة النيّة لما يقرأ، وليس التربّص والترصّد للأخطاء.
- الفنان أو الكاتب بطبيعته طليعي وبالتالي لا ينصاع للتقاليد الاجتماعية السائدة.. فهو يخترقها ويخلخلها في سبيل إرساء قيم أسمى وأجمل وأفضل.
- هذه هي مهمة الفنان الحقيقي ولكن ليست بشكل مباشر وهي أيضاً رسالة المثقف". ويؤكد أنه لا يهتم بنقد كتابات الأدباء "الشبان" لذواتهم، أو لأنهم كما يشاع تلاميذ له أو مريدون وإنما يهتمّ أساساً بالموهبة، خصوصاً إذا كان العمل فيه قدر من المغامرة والتجريب، سواء كان لكاتب شاب أو عجوز، فهو لا يبالي بالأعمال التقليدية التي تستنسخ أعمالاً سابقة مهما بلغت كفاءتها. المغامرة وبتأكيده قيم المغامرة والتجريب في أعمال الكتّاب الذين تصدى للتعريف بهم أو الكتابة عنهم، يطبّق الروائي الكبير نفس هذه المعايير على ما ينشده في أعماله نفسه. ولا يتحرج من الإشارة الى ما يبدو في كتاباته "أن ثم تكراراً لمشاهد معينة، مواقف معينة، شخصيات معينة باستمرار…"، ثم يقول "لكني أتصور أو آمل أنه في كل مرة يحدث ذهاب الى شوط أبعد في الكشف عن مجهول لا يكاد ينتهي البحث فيه والكشف عنه". ويعود الى التساؤل.. "هل المغامرة ـ التي هي في تصوري شرط للفن ـ هي التي تعطي هذه الجدة طزاجة، وما أرجو أنه بكارة رؤية العالم وبكارة الوعي بالذات، وبالآخرين؟"، لكنه لا يدري، وإن كان يرجو أن تستمر هذه المغامرة "حتى آخر النفس".

تحدث إدوار الخراط في ندوة "أتيلييه" القاهرة عن مسألة المطلق في أعماله الروائية "باعتباره قيمة ماثلة باستمرار، بل لعلها مهيمنة، سواء كان مجسّماً بنور فيزيقي ما، أو نور يقع فيما وراء العالم الفيزيقي تحيطه في الآن ذاته ومن غير أي تناقض ظلمات تقع في أعماق "الأنا" وأعماق العالم".

وتدليلاً على وجود هذه الثنائية، النور الظلمات، في أعماق الثقافة العربية القديمة، ساق أمثلة عدة، من بينها قول عبدالله يوسف بن عبدالبصير "إذا أحاط النور بامرئ فإن ظله يقع فيه" وابن عربي "النور اسم الله، والعالم هو الظل الإلهي".

وقول السهروردي "الروح نور الله وهي نور لا يقع في حيّز المكان". وساق ثلاثة من بين ما أسماه "المطلقات المحظورات" التي لا يجوز المس بها أو تناولها إلاّ بيد الحذر والحيطة والتحرّج وهن: الله والجنس (أي الإيروطيقية) والديموقراطية الحقيقية، مؤكداً أنها محظورات مطلقة انتظمت في نسق قمعي اتخذ شكل المؤسسة الاجتماعية. ويؤكد أنه يصطدم في أعماله الروائية ـ القصصية والشعرية ـ بجلاميد صماء أو بصخور جامدة تُعزى الى تلك الهيمنة المزدوجة للمطلق.

ولكنه "يزعم" أن أعماله الأدبية تقارب هذه المحظورات، ولم تخضع "قط" لسيرة الغيبيات الظلامية. كما "يزعم"، على حد قوله، "إن قيمة هذه الأعمال مرتبطة بالنفاذ الى هذه الأراضي المحرمة ليس فقط بالنقض أو التمرد، بل بالقول أيضاً وهو لا بالانصياع ولا بالسلبية" ووضع كل شيء موضع السؤال والحرية الكاملة في مقاربة أي مسألة من دون النظر الى عقابيل الحرية والسؤال. يعود الى ماضي الثقافة العربية مؤكداً أنها في عزّ ازدهارها، كانت ثقافة تحتفي ببهجة الحياة. وهو ما يسعى إليه في مجمل أعماله الأدبية. "وهو الجانب المنير، ولكنه جانب وثيق الصلة بعتمة أشجان غامضة بإزاء مصير ملتبس". التراث وفي دفاع عن "التراث" الذي يفيض ببراهين دالة على حب المتعة وحب الحرية ومباهج الحياة، قال "ما أبعد ذلك عما يطلق عليه المتشددون إباحية وانحلالاً في "ألف ليلة وليلة". كما كانت الثقافة العربية تتناول موضوعة الجنس ببساطة وصراحة وإيجابية خلاقة، ولم يكن ذلك مقصوراً على الإبداع الشعبي. وأشار في هذا الصدد الى الجاحظ والأصفهاني والمبرد وابن عبد ربه، على سبيل المثال. ويعترف الكاتب الموسوعي الثقافة، في تواضع وصدق بالغين، بأنه نضج، كرجل وكاتب وروائي، على "الف ليلة وليلة" التي فتنته منذ فجر الصبا الباكر وكانت "قوام احلامي ودمي وكتاباتي". سحر الكتابة الدائرية، رؤى الأزمان الأُخر. أحلام المستحيل، انهيار الرؤية المحدودة لليومي بازاء شساعة آفاق غير محدودة. لغة الطقوس. أنشودة للحب القدسي الحسي في آن. مجالدة التنانين في الحياة وفي الكتابة على السواء. حكاية تولد حكاية وقصة من داخل قصة، مما يثير حساً باللانهائية، اللانهائية الماثلة في جوهر المعرفة وفي صياغتها على السواء. تلك بضعة من الهبات والعطايا التي ادين بها كما يدين بها قلمي ـ لألف ليلة وليلة". فألف ليلة وليلة.. وعند الطفل الذي كانه (ولعله ما زاله) ليست كتاباً عن التجار والقراصنة واللصوص، وليست شيئاً ينتمي الى ماض غبر واندثر، بل هي ذلك البعد الفانتازي الخيالي الحلمي الشعري الواقعي معاً. القمع "ولكن فيها أيضاً القمع والفقر المدقع والطغيان والعسف، والرعب والهول والجور الذي لا يطاق، هذا البعد المنافي للسحر بعد الظلمات". ويقول الروائي ان روايته "ترابها زعفران" التي يسميها "ألف ليلة وليلة الاسكندرية"، ربما نصوصه كلها، تستند من بين ما تستند اليه، الى هذا البعد من الرعب مأخوذاً في السياق "الواقعي" في اسكندرية الثلاثينيات والأربعينيات. لا شك ان ادوار الخراط الروائي والقاص والناقد والشاعر، بطبيعة الحال، الذي لا يخطئ القارئ في التعرف عليه في كل من تلك الأنواع الكتابية، مع اختلاف ابجدياتها المتنوعة، ينفرد بلغة خاصة، لغة سحرية تمتح مفرداتها من التراث العربي الكلاسيكي، من الكتب المقدسة وعوالم المتصوفين، والشعراء المارقين والماجنين، لغة رصينة طبيعية، ومع ذلك لا ترفض، عند الاقتضاء، ان تتخلل العامية المصرية نسيجها الكلاسيكي. وهي أيضاً لغة حسية شعرية أحياناً وموسيقية أحياناً أخرى. لغة وصفها نقاد بأنها بلاغة جديدة أو بلاغة مضادة. ولكن الكاتب لا يعرف ما اذا كان حقيقية داعية الى "بلاغة جديدة"، كما ردد البعض. "ان الصلة التي تنعقد أواصرها بيني ولغتي، هذه اللغة التي هي مطلعه آخر، ليست فقط صلة التراث وما يتشقق عنه، ليست فقط ثمرة تماس حميم مع الانكليزية والفرنسية ومع لغة عامة الناس، بلهجاتها وظلال معانيها ومستوياتها المختلفة/ كذلك في مصر ان الصلات بيني وبين لغتي تكاد تكون عضوية وحشدية. اللغة عندي هي جسم العالم كما انها جسمي على نحو حميم لا معتى عنه". ان الصلة بينه ولغته ليست فقط صلة عشق بل هي صلة تدله، صلة انصهار حيوي ومتبادل يأمل ان يكون مثريا للطرفين "نشداني ان انطق بهذه اللغة حساسية وفكراً في سياق الراهن المستديم يندمج فيه ماض لم يندثر قط ومستقبل ماثل من الآن. وعن طريق هذه اللغة التي لا تنفصم عن مادة الحياة العضوية ولا عن بنية العمل الفني، ارجو ن املي صوتا لمن ليس لهم صوت، لما ليس له صوت". ويتساءل ادوار الخراط.. أهذه شكلانية؟ ولكنه يقطع انها ليست كذلك، فاللغة عنده لا تنفصل عن جسد العمل الادبي ولا عن روحه، بل لا تنفصل عن جسده نفسه وروحه. واذا كنت اعتقد ان الفقرات التي تلعب فيها اللغة دور آلة الكمان او الشيللو أو البيانو المنفرد في الكونشيرتو الموسيقي (التي تعتمد على تسييد جرس بعينه، حيث يستديم حرف بذاته من الابجدية في كل كلمة من الفقرة التي يمكن ان تمتد على عدة صفحات) هي في النهاية لغة أخرى تتجاوز فيها الحروف معانيها القاموسية، يقول الكاتب: "ليست هذه الفقرات مجرد نمنمة أرابيسك خاو. فهي تقطرـ فيما آمل على الأقل ـ جزءاً من خبرة الرواية نفسها، في كل مرة، على نحو مركز ومكثف، بل تلخص العمل كله. "ثم أنني وجدت ان الحرف عند الصوفية الحرف وحده مستقلاً عن الكلمة وعن الجملة، ليس فقط النطق بجرس صوتي أو رسم بذاته، بل إن له دلالات استنبطوها أو شققوها أو شكلوها أو اخترعوا اختراعاً. أليس من حقي إذن إذا ما اقتضى عملي الفني أن أُنشئ للحرف عندي دلالات تتجاوز العضوي والحسي حتى لو كانت هذه الدلالات تعتمد عليهما؟". أتوقف عند هذه التفصيلة دون أن أُكمل ما نويت إنجازه عندما شرعت في محاولة لمجرد رسم اسكتش، أو بالأحرى التقاط خطوط اسكتش لجدارية الروائي المتفرد إدوار الخراط "سيرة ذاتية للكتابة" التي تجاوزت في جزءيها نحو 450 صفحة. وليكن هذا الإسكتش المتواضع بمثابة تحية بمناسبة بلوغه الثمانين في الأسبوع الأخير من شهر مارس متمنياً له عمراً مديداً وكريماً بعطاياه الأدبية والفكرية والشعرية والفنية التي لم تفقد مع السنين قدرتها على الدهشة والاستفزاز والامتاع.