عرض مشاركة واحدة
قديم 10-27-2014, 12:04 PM
المشاركة 1237
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 67- الظل والصدي يوسف حبشي الأشقر لبنان



- عاش يوسف حبشي الأشقر في الظل، موزعاً بين الميراث الريفي، ونداء المدينة.


- عاش مسكوناً بهاجس الموت، ورحل بصمت بعدما نقل الرواية اللبنانيّة من زمن إلى آخر.

- كيف يمكن للمرء أن يبقى خارج الحرب؟ أن يعيش ويموت بمعزل عن هذا الخطب الجلل الذي غيّر أفقه ومشاعره، وخلخل عالمه الداخلي ومشروع وجوده؟ ذلك أنّ الكاتب الراحل الذي تحتفي الأوساط الثقافيّة العربيّة اليوم بالذكرى الخامسة عشرة لرحيله، لم يكن فقط «ضدّ» الحرب، كما يردد الجميع استناداً إلى روايته -الوصيّة «الظل والصدى» (1989)، ومجموعته القصصيّة «المظلّة والملك وهاجس الموت» (1980). لقد حاول أن يبقى «خارج» تلك الحرب، أي على الحياد.

- «المحاولة» بحدّ ذاتها، إشكاليّة أدبيّة (وسياسيّة)، بل دراميّة أساساً، مقلقة، ومثيرة للإعجاب، وحافلة بالعلامات.

- هل كان إسكندر الحمّاني فعلاً على الحياد؟ بغض النظر عن نهايته الافتراضيّة، كما قرية كفرملاّت نفسها (نحن القرّاء مَن يقرّر فعل القتل). أليس فيه شيء من «الآخر»، كما يشي موقفه من أهل القرية المقتنعين بشرعيّة الحرب؟ وهو بذلك امتداد لشخصيّة المنشق في الوعي (المسيحي) اللبناني، وحفيد سلالة طويلة تبدأ من خليل الكافر ويوحنّا المجنون (جبران)؟ وفي المقابل، ألا يتماهى بطلنا مع «ربعه» في النظرة إلى «الفريق الآخر»، معبّراً عن خوف أقلّوي، متجذّر في اللاوعي الجماعي لأهله وبيئته، مهما كانت المسافة النقديّة، العقلانيّة، التي وضعها فعلاً بينه وبين تلك الجماعة؟

- هذه من التناقضات الخصبة في أدب الأشقر الذي سجّل انتصاراً للذاتيّة على الواقعيّة والبلاغة اللفظيّة.

- يمكن أن نبحث عن خلفياتها الفكريّة والوجوديّة في ذلك الصراع الأبدي بين الفرد والجماعة. وهو صراع له أهميّة خاصة لدى جيل واكب تفتّح مشروع الحداثة العربيّة، وشهد صعود المدينة كنواة وأرضيّة وفضاء وأفق لذلك المشروع الذي سرعان ما سيجهض، إذ أعادت الحرب بيروت إلى نقيضها الكامن فيها: مجموعة قرى ومناطق نفوذ تؤوي جماعات متناحرة.

- كيف كان سيموت إسكندر لو لم تنشب الحرب؟ (كان سيموت حتماً. ليس هناك مخرج آخر، سوى القطيعة النهائيّة مع عالم الريف، ومع الهويّة (الخطيئة) الأصليّة... وهذه الخطوة لم يكن الكاتب بطبيعته وتكوينه مهيئاً لها)؟

- ماذا يبقى من نصّ هذا القاصّ والروائي البارز، المحوري في الحركة الأدبيّة اللبنانيّة، إذا أخرج من سياقه التاريخي؟ إنه الفاصل (الرابط؟) الزمني بين مرحلتين وعالمين. يعبّر عن كثير من التناقضات التي تدخل في صلب الهويّة اللبنانيّة. ألهذا أيضاً يعتبر حبشي الأشقر أبا الرواية اللبنانيّة الحديثة؟ هو الذي انتقل من القصّة إلى الرواية، كمن ينزح من الريف إلى المدينة؟

- «لماذا نزحوا من كفرملّات إلى بيروت؟ لأن الناس كلّهم نزحوا، نزحوا ليشتغلوا الشغل الجديد، ليأكلوا الأكل الجديد، ليلبسوا اللبس الجديد، وليعيشوا العيشة الجديدة»... هذا التمزّق، تلك الثنائيّة الخصبة، حركة الذهاب والإياب الدائمين بين كفرملاّت (القريّة الافتراضيّة، النموذجيّة) ورأس بيروت (تحديد المدينة مباشر، لا يحتاج إلى عمليّة إعادة إنتاج مجازي)، يختصر جزءاً أساسياً من الوعي اللبناني، في الأدب والسياسة والحياة.

- المدينة ستنقله من زمن إلى آخر، وكان لا بدّ من الحرب، كي تبلغ تجربته الروائيّة ذروتها... وتعلن «نهاية مرحلة في الرواية العربيّة، رواية ما بعد طبيعيّة محفوظ وواقعيّته» بتعبير إلياس خوري. الحرب تدفع بالتناقضات إلى أقصاها.

- والحرب موت عالم وبروز آخر. هاجس الموت طالما خيّم على عالم يوسف حبشي الأشقر وكتاباته... إنّه تأثير الأدب الوجودي ربّما، لكنّه قبل ذلك نابع من تلك العلاقة الحميمة مع البيئة الريفيّة التي أخرجها من الحنين والرومانسيّة والفولكلور، وسلّط إليها نظرة نقديّة، تاركاً للشرّ والعنف والقسوة أن تحتل مكانها في هذا الإطار العذب والخلّاب والمطمئن.

- الطمأنينة المفقودة، هي إشكاليّة من إشكاليات هذا الأدب القريب من الوجوديّة (هل كفرملّات ما زالت ملجأً ممكناً؟). والبراءة المفقودة، هي حجر الأساس في عمارة أدبيّة خارجة من معطف مارون عبّود، من دون أن تصل إلى جرأة فؤاد كنعان وسلاطة قلمه! عمارة هي مفترق طرق بين جيلين وعصرين في تاريخ الأدب اللبناني.

- النثر الريفي لدى الأشقر هو بقايا تركة عريقة، اقتحمتها مشاغل فكريّة جديدة، فانعكست على السرد والبنية تحولاً واضحاً. لقد طرد التنميق الإنشائي نهائياً لصالح حساسيّة دراميّة، قوامها الحوار المسترسل، والجمل المبريّة برشاقة لتجسّد حالة نفسيّة، إيقاعاً سرديّاً، أو موقفاً دراميّاً.

- ومع ذلك ما زلنا مع يوسف حبشي الأشقر الذي اجتاز مسافة طويلة بين مجموعتيه القصصيّتين «طعم الرماد» (1952)، و«آخر القدماء» (1985)، أبعد ما نكون عن المغامرات الأسلوبيّة التي سيأتي بها جيل لاحق، لم يعد على الحياد، لا في الكتابة ولا في السياسة. بالنسبة إليه ستبقى القرية هي حدود العالم، هذا النموذج الجغرافي الذي يرى عبّاس بيضون أنّه لم يعد مكاناً «بقدر ما هو نوع من أولمب مصغّر»، حلبة صراع بين أفكار وهواجس.

- هناك شيء ما يعاند داخل النصّ، في صلب الرؤية الأدبيّة لدى الأشقر. شيء من العالم «القديم» الذي يعتبر وريثه، وقد أخذه إلى اشتباك مع حداثة الستينات في بيروت، منذ صدور الرواية الأولى في ثلاثيّته «أربعة أفراس حمر» (١٩٦٢).

- هكذا عاش ومات يوسف حبشي الأشقر، قدم في القرية وأخرى في المدينة. جذور في الريف وعين على الحداثة. مثل بطله إسكندر في «لا تنبت جذور في السماء» يقرأ موتزيل ويعاين صخب المدينة، علماً بأنّ جزءاً اساسياً منه ما زال مرتبطاً بالرحم، هو الباحث عن «الجذور».

- قل لي مما تهرب، أقل لك من أنت. إلى القرية سيعود ليموت، بعد رواية و١٧ سنة من الحروب. اندلاع الحرب يضع الزمن بين هلالين، ويغطي بالخيش الأبيض أثاث البيت إياه الذي شهد صولات الزمن السعيد وجولاته، وجوهه الأليفة «رفقة التيه في التفتيش عن الطريق». أيام الصراعات العاطفيّة والوجوديّة والحزبيّة، أيّام الشباب والكيف في فورة السبعينات، على حافة البركان... مع الحرب، صار «المطرح الحلمي، مطرح حزن وانحلال». لقد شاخ بطلنا ودخل في قطيعة مع العالم الخارجي، في عزلة صارمة هي الإدانة الوحيدة الممكنة لما يجري. إنّه أقرب إلى الأستاذ الجامعي، بطل رشيد الضعيف الذي بقي على هامش الحرب، حتى ابتلعته («المستبدّ» ١٩٨٣، أو بالأحرى «فسحة مستهدفة بين النعاس والنوم»/ ١٩٨٦)، منه إلى بطل إلياس خوري في «الجبل الصغير» (١٩٧٧) الذي التحق بصفوف اليسار والمقاومة الفلسطينيّة، وهرب من الأشرفيّة...

- الحرب التي يدينها الأشقر مأساة ولعنةً. ترى يمنى العيد أنّ شخصيّة اسكندر المسيحي، تقوم على قاعدة مساءلة الذات، لا الآخر... ومحاكمة جماعته التي «تخلّت عن القيم الروح، وتركت الأرض، وقيم الآباء والأجداد، ساعية خلف المال والقشور». لكن إلى أيّ مدى تفلت «الظلّ والصدى» من النظرة التعميميّة إلى الحرب؟ فيما تبدو لدى توفيق يوسف عوّاد الذي تنبأ باندلاع الحريق («طواحين بيروت» /١٩٧٣) ثمرة فشل مشروع سياسي اجتماعي بديل، يحمله أبناء الجيل الشاب (جيل اسكندر أيام «لا تنبت جذور...») الذي انصهر في بوتقة الجامعة الوطنيّة، وراح يحلم بالتغيير.

- لا نعرف الكثير عن حياة يوسف حبشي الأشقر. نعرف أنّه ولد ودفن في بيت شباب التي أعارت الكثير من ملامحها لكفرملّات. درس الحقوق والفلسفة، وعاش حياة الموظّف الرتيبة في الضمان. نعرف أنّه كان يكتب في المقاهي، ويقرأ كثيراً في الليل. وأنّه عانى في سنواته الأخيرة من مرض الكلى، باختصار عاش في الظلّ، في ظلّ أدبه، منزوياً عن ضجيج الحياة العامة. نعرف غليونه الأبدي، وقصص بسيطة أخرى. نعرف أنّه من رموز ذلك العصر الذهبي لبيروت، شاهد عيّان على صعود المدينة وانهيارها، أحد روّاد الحداثة المستحيلة...

- عُرف الكاتب الراحل بابتعاده عن الإعلام، وبقلّة أحاديثه الصحافيّة. ونادراً ما تناول بالشرح والتعليق تجربته الأدبيّة. ومع ذلك فقد قبل ذات يوم أن يحصر الأسباب التي دفعته إلى كتابة القصة ثم الرواية. قال يوسف حبشي الأشقر: «هناك على الأرجح عوامل لاواعية جعلتني أبدأ من القصة للوصول إلى الرواية.

- أرجّح أن الأمر يعود إلى كوني تعودت في البيت على الفنّ القصصي. كان هناك ألفة بيني وبين هذا الشكل الأدبي. والدي إميل الأشقر كتب أربع عشرة قصة تاريخية... وهذه القصص كانت أول ما قرأت. يجوز أنّ هذا الأمر ترك أثره في نفسي. إذ رأيت أنّ القصّ يسمح لي أن أصنع ما أريد وكما أريد. القصة تتناسب مع كسلي... كما وجدت أنّ لديّ سهولة تعبيرية في القصة. أما حلمي الأساسي والقديم فكان كتابة رواية. وعندما وجدت في نفسي القدرة أقدمت على ذلك بلا تردّد».

من مقال بقلم : بيار أبي صعب