عرض مشاركة واحدة
قديم 09-03-2010, 02:51 PM
المشاركة 25
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
شهرة المتنبي
شهرة العظمة والفن الخالد
بقلم الأستاذ محمد محمد توفيق

قليل من الناس بلغوا مبلغ المتنبي في الشهرة مع أن العباقرة والأفذاذ يملأون صفحات التاريخ بأخبارهم وآثارهم. ولو أن الآداب العربية أتيح لها ما أتيح لآداب الغرب من الذيوع بالترجمة والنقل، لكان المتنبي في مقدمة المشاهير الذين يلهج الناس بذكرهم في الشرق والغرب على حد سواء. ولو أن الغربيين قرأوا شعر المتنبي لأذهلتهم تلك العبقرية الجبارة وهذا الروح الوثاب الغلاب الذي يكتسح ثم يكتسح حتى لا تكاد ترى أمامه أثرًا لمنافس.
نعم... لو قرأ الغربيون شعر المتنبي لوقفوا أمامه ذاهلين. ولست ألقي القول على عواهنه فقد أذهلت رباعيات الخيام أدباء الغرب وقراء الأدب فيه، وفتحت أمامهم آفاقًا جديدة لم يروها من قبل، وتألق نجم هذا الشاعرالفارسي في أوروبا وأمريكا كما لم يتألق قط في المشرق، مع أن الخيام دون المتنبي مرتبة فهو شاعر يشدو على وتر واحد بينا يشدو شاعرنا على أوتار هي جماع الفن والحكمة والفلسفة.
وأول ما نسجله من أمر هذه الشهرة التي لازمت المتنبي في حياته ولازمت تاريخه بعد موته أنها مرتكزة على أسس متينة ودعائم قوية.
والشهرة عندنا هي الصمود للدهر ومغالبة معاول الهدم- وما أكثرها!- وقد صمدت شهرة المتنبي في حياته فتحطمت دونها معاول الهدامين الذين في نفوسهم حقد وسخيمة، وفي قلوبهم تغلي مراجل الحسد وتلهب نار البغضاء، والذين ما زالوا يذكرون مثالبه ونقائصه فيعترفون- أويعترف حسدهم- بشاعريته التي لا تجاري على وغر مكنون في الصدور.
ثم صمدت شهرته للنقاد الزارين عليه بنقدهم بعد مماته مع أن فريقًا منهم حاولوا هدمهم بمعاول هيهات أن تهدم هذا التراث الأدبي، فبقي المتنبي حيًا ولم يذهب رسمه ولم يعف أثره.
ومما يزيد في رسوخ هذه الشهرة أنها بلغت غايتها على الرغم من أن شعر المتنبي لم يكن كالنسمات تهب رخاء، أو كزقاق الخمر تروي الشاربين، بل كان شعرًا جليلاً يهتف به شاعر عبقري فيذكي في القلوب نار الحماسة والنبالة، ويمتع الأنظار والألباب بألوان من الفن الرفيع يتطاول إليها الناس ويتشوفون لها دون أن يبلغوها. ومثل هذا الشعر لايقدره حق قدره إلا الراسخون في دراسة الآداب الرفيعة التي تسمو بالأذواق إلى ما هوأعلى من أذواق العامة والمترفين من عشاق الأدب المخنث. فبهذا الشعر خلد المتنبي، وعلى هذا الأساس المتين بنى شهرته ونقش اسمه على الصخر، بينا خط معظم معاصريه من الشعراء أسماءهم على الرمال.
وإنك لتعجب وأنت تقرأ ديوانه كيف أنه استطاع أن يجمع كل هذه الأقوال المأثورة والأبيات الحكيمة في صعيد واحد، لعلمك أن معظم السابقين واللاحقين من الشعراء كانوا يتمخضون بالبيت المأثور بعد الهذيان الطويل.
ثم إنك لتعجب من هذا الروح الغلاب الذي رجح الشعراء وسادهم دون أن يعد وطوره، وتعجب لادعائه النبوة وقرنه اسمه بأسماء الأنبياء والمرسلين.
ولنزوله بالدين والكتب السماوية إلى ميادين المدح والجدال والمفاخرة، ولمخالفته ما درج عليه الناس من مألوف القول والعمل، ولتلك الحوادث الجسام واندماجه فيها مادحًا وهاجيًا وحكيمًا بعد أن حلب الدهر أشطره، ولاعتداده بنفسه وشموخ أنفه وخيلائه، ولتجاربه وثقافته التي يندر لها مثيل.
نعم إنك تعجب لكل هذا إذ تفاجأ به أول وهلة وأنت تقرأ ديوانه وأخباره، فتعود إلى نفسك وتقول: لا جرم إذا خلد المتنبي وطبقت شهرته الآفاق..
ثم إن المتنبي تفرد بنزعة أخرى غير نزعة الشاعر الفنان، إذ كان يحس بأنه أرفع من الشعر والشعراء منزلة، وأن الشعر مطيته إلى الملك والسؤدد، ويرى أن بنفسه أنفًا أن تسكن اللحم والعظم.. والحق يقال إنه كان عظيمًا في شعوره وحركاته وسكناته، فقد كان شعره على ذباب سيفه وسية قوسه، وكانت له أبيات تهول، وقد أضفت عظمة نفسه على شعره هذا الجلال وتلك الروعة (التي تركت في الدنيا دويًا) كان يود أنيكون (للسيف والفتكة البكر) لا للشعر والمدائح. فلا عجب أن تشتهر قصائده وهي من وحيالملك والبطولة والفن الرفيع.