عرض مشاركة واحدة
قديم 09-03-2010, 02:43 PM
المشاركة 24
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
فضيلة خلقية


بقلم الأستاذ طاهر أحمد الطناحي
كثير ممن تعرضوا للكتابة عن المتنبي رموه بالكبرياء والغرور، واتهموه بالغطرسة والتنفج وجفاء الطبع، حتى قال أبو علي الحاتمي: (كان أبو الطيب عند وروده مدينة السلام قد التحف برداء الكبر والعظمة، يخيل له أن العلم مقصور عليه، وأن الشعر لايغترف عذبه غيره، ولا يقطف نوره سواه. ولا يرى أحدًا إلا ويرى لنفسه مزية عليه). وزعموا أنه لكبريائه وخيلائه ادعى النبوة وهو فتى في مقتبل الفتوة، وطمع في الإمارة والملك. وترفع عن مدح غير الملوك والأمراء. وهم حينما يروون هذه الأقاصيص التي تتعلق بكبريائه، والتي أكثرها موضوع افتعله حساده ليشوهوا سمعته، ويخفضوا مكانته،إنما هم يصورونه في حالة خلقية هي نقيصة النقائص في الطبع، وعيب العيوب في الخلق.
ولم يجد حساده في زمنه سلاحًا يحاربونه به أقوى من هذا السلاح الذي يغرى به الملوك وذوي المطامع والسلطان. وقد اتخذوا من هذه الصفة - صفة الكبرياء - التي قلبوا حقيقتها فيه، وأنكروا فضيلتها عنده، وسيلة استخدموها للدس عليه، والغض منشأنه، حتى إن أبافراسالحمداني - وهو على ما عرف فيه من أدب ورفعة محتد - لم يستطع أن يحاربه عند سيف الدولة بعد اليأس إلا من هذه الطريق التيتظهر المتنبي مدلاً متغطرسًا ممجوجًا ذا منقصة شنيعة، وهي ليست عند العارفين بطبائع العظماء بمنقصة أو عيب يحسب في عداد النقائص والعيوب.
فقد حكوا أن أبا فراس قال لسيف الدولة: ( إن هذا المتسمى كثيرالدلال عليك، وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد، ويمكن أن تفرقمائتي دينـار على عشرين شاعرًا يأتون بما هو خير من شعره).. وليس أبو فراس واحدًافي مهاجمة أبي الطيب من هذه الناحية، بل كل حساده هاجموه منها، ووصموه بوصمة الكبر والجنون بالعظمة إلى جانب رميهم إياه بالسرقة، واتهامه بالأخذمن الشعراء، وهم يعلمون أن هذه التهمة تجرح كبرياءه وتمحق خيلاءه، وتقوض عظمته التي يغيظهم منها قوله:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعرًا أصبح الدهرمنشدًا
فسار به من لا يسيرمشمرًا وغنى به من لا يغنيمغردًا
أجزني إذا أنشدت شعرًافإنما بشعري أتاك المادحونمرددًا


وأنت حين تتصفح حياة المتنبي، وتدرس أخلاقه، وتستقري هذه الكبرياء في شعره، وفيما روي عنه فيما كان بينه وبين سيف الدولة، وبينه وبين كافور أو عضد الدولة وغيره ممن اتصل بهم، لا تجد أثرًا للكبرياء الممقوتة التي تحط من قدر صاحبها، وتلحقه بالمغرورين المتنفجين الذين يتعالون في غير علو، ويفخرون بغير ما سبب للفخر، وإنما تجد عظمة أدبية، واعتدادًا بالنفس وصونًا لكرامة الأدب والأديب عن الصعلكة والمهانة في مجالس الملوك والأمراء.
فقد عرف المتنبي قيمة رسالته الفنية، وعرفما للفن من مقام في حياة الجماعة، فربأ به عن أن يكون ذليلاً مهينًا، وأراد أن يفرض على الناس احترامه وتعظيمه، حتى إذا وجد نفسه وهو فتى بين قوم لا يفهمون فنه كما يريد هو أن يفهموه قال قصيدته المشهورة التي جاء فيها:

إن أكن معجبًا فعجب عجيب لم يجد فوق نفسه من مزيد
أنا ترب النـدى وربالقوافي وسمام العدا وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها اللـ ـه غريب كصالح في ثمود


ولا يشكو هذه الشكوى إلا الفنان الذي يفهم قيمة فنه، ويرى الوسط المحيط به لم يفهم هذا الفن أو هذه النبوة في الفن التي تفرد بها في قومه كتفرد صالح بنبوته فيثمود. فهو إنما يعتبر رسالة الفن كرسالة النبوة تخدم كل منهما الحياة البشرية من ناحيتها الخاصة بها. ومن أجل ذلك يجب تعظيمها وتعظيم صاحبها، وأن يعطى حقه من الإجلال والإكبار.
وليس أبو الطيب بالشاعر الذي خدمت عظمته الظروف، وساعده ضعف شعراء عصره في الظهور، فقد عاش في عصر يعد أقوى عصور اللغة العربية الماضية، وأسماها في نواحي الأدب والثقافة والتفكير. وكانت المائة الثالثة للدولة العباسية هي المائة الذهبية للعلوم والآداب في حياة هذه الدولة. وقد نضجت فيها اللغة وعلوم التاريخ والأدب والطب والفلسفة والجغرافية وغيرها من العلوم والفنون، وكان الملوك والأمراء والوزراء من كبار العلماء والأدباء. وكان سيف الدولة شاعرًا وعضد الدولة شاعرًا كما كان الفضل بن العميد، والصاحب بن عباد من فحول الأدباء. وكان من شعراء ذلك العصر أبو فراس الحمداني، والسري الرفاء، وابن نباتة السعدي، والسلامي وابنهانئ الأندلسي وغيرهم.
فإذا ظهر أبو الطيب على هؤلاء جميعًا، بل على جميع شعراءعصره وشغلهم بمنافسته وحسده، فإن ذلك ليس من السهولة بحيث يبيح للكاتب أن يتهم المتنبي بالكبرياء والغرور، ويجعل فضيلة الاعتداد بالفن ومعرفة قيمته والمحافظة على كرامته عيوبًا مزرية به.