عرض مشاركة واحدة
قديم 06-03-2012, 11:18 AM
المشاركة 800
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
كان الوقت يجلدنا والكلام يأخذ منا مآخذ المجابهة منتصف الليل وقلت : ياعبد العزيز سأذكرك بطرفة من طرائف الحوادث التي تحدث في القرى : روى آباؤنا أنمجموعة منهم ذهبت إلى قرية أخرى لتطلب منهم المساعدة في جمع " دية " شخص غريب قتلخطأ في نواحيها، وحين التقوا بشيخ تلك القرية وبعض وجهائها لاحظوا عدم حماسهمللمساهمة، فقام أحد أفراد المجموعة وحلف على أهل القرية الأخرى بأن يخرجوا إلى ساحةالدار للتشاور في أمرهم، (لأن التشاور سينبثق عنه شيء وإن كان قليلاً، كمساهمةمالية من قيمة الدية المطلوبة وقد نجحت الفكرة( !
الوقت الآن منتصف الليل ياعبد العزيز ألا تأكل ؟
قال : لم آكل ولن .. فهذه اعتبرها فترات مائية.. أنا آكلالماء فقط ! قلت له وقد بلغ العناء مني ومن بعض الأصدقاء المرافقين مبلغه: حلفتعليك أن تتشاور مع "أخوك " أحمد في أمرنا !
تشاورا همساً .. وخرج أحمد من صالةاللقاء وأخذتنا الأحاديث الجانبية ثم عاد أحمد بإبريق الشاي وبعدد من السندويتشات .
قلت لأحمد : كنت اختلس السمع لثغاء الشاة أو التيس تحت حد السكين ؟ فضحك أحمدوقال الله يرحم أيامها ، قال زميلي : نحن نعذركم فإذا لم يتوفر الخروف فليس أقل من " ديك الشيبة " الذي تحدث عنه " الصاحب " في رواية الحصون .
أجابه أحمد : أنتفي جدة يا صاحبي ولست في قرى الجبال .
تشاوروا فينا يا عبدا لعزيز!!
ضحك وقاللقد بلغت المشورة سندويتش الجبنة .. فهنيئاً مريئاً ما تأكلون !

( 13) -
للأمكنة كمين كما تقول فوزية أبو خالد ، وهذه الأمكنة تتغلغل فينا حباً وكرهاً ..شجناً وأسى ، وأنت قد تنقلت من قريتك في منطقة الباحة إلى الدمام وأقمت بهالسنوات طويلة ورحلت إلى القاهرة وقضيت أوقاتٍ متباعدة في الرياض ثم استقر بك ريح " الجاردينيا " في جدة .
حدثنا عن رائحة المدن وعن المناخ الذي اندمجت بهاختياراً أو قسراً وما هو انطباعك الثقافي والاجتماعي عن هذه الأمكنة .

* -
المكان كما تقول الشاعرة " فوزية أبو خالد " كمين .. لكنه ليس كمين يبث في الداخلرائحته وإنما يترك أيضاً نوعاً من الحوار يخاطب فيها جميع جوارح الإنسان .
لوافترضنا تجريد المكان من هذه الخاصية الإنسانية الكبيرة والمنظومة من عدة تراكيبدقيقة وجزئيات .. فإنه لن يختلف عن أي موقع للحياة أو المصادفة .. بحراً أو صحراءأو صندوقاً من الخشب لا مكان له .. ستصبح الحالة أشبه بزمن " مكتسب " ففيه عمر يقضىبأية صورة بلا حس حتى تنتهي .
قد لا أتحدث هنا عن إيجابية المكان – كمحورارتكازي – في العمل الإبداعي بقدر ما أعنى منطقية ضرورية في حياة الإنسان برغمالرضى والمصالحة معه من عدمها .
عندما كنت أعيش في القرية إلى سن أول العشرين .. لم أكن لأعرف العالم بمحيطاته وأناسه واختلاطات إيقاعاته وسهوله و جباله .. سوىبحدود طلوع الشمس من مشرقها خلف الجبل الكبير المقابل للبيت من بعيد،وللحصنالقديم الذي تلتف حوله برتقاله الشمس النحاسية في الغروب .. هذه حدودي التي التقطتفي تفاصيلها عالمي الأليف والحبيب والشقي أيضاً بآلامه وحرمانه، لكنه كان حميمياًومتغلغلاً في انسجتي وخلايا ذاكرتي وجوارحي .. للحجر – مثلاً – معنى واحد ملتصقبقساوته وصخريته الصلبة وهندسته ووزنه الذي يعني لك تفصيله شبه مدركة الثقل والنوعواللون، لكنه يبقى صخراً في ثنايا ذاكرتك أينما ذهبت ما لم تضف إلى معرفتك معارفإضافية جديدة .. تختلف باختلاف درجات استيعابها ومكانها وزمانها .
دخلت المدينةفرأيت الصخر غير الصخر والحجر يأخذ خاماً آخر تعرف مكوناته ولا تعرف حميميتهالمجهولة التي ارتبطت بها في ثقافتك القروية الأولى .. رأيت حجراً يستخدم للبناء منالأسمنت والرمل المقولب ومساكن تقام في عز الصحاري والبحار .. دفعة واحدة انتقلت منآخر حدود الجنوب الغربي إلى آخر حدود الشمال الشرقي .. من الجبل إلى البحر ومنالوديان إلى الصحاري بالطبع كان عليك أن تتعايش مع بيئات جديدة .. كذلك مهما جاهدتفي تلوين وتغيير الحجارة .. لن تستطيع أن تغير ما في داخلي.. لقد أخذت الصخر الذيتقطع منه الحجارة في النشأة الأولى معنى محدداً تلمسه وتحسه بكامل قنواتك المعرفيةولكنك تكتشف أن الحجارة ليست سواء .. هذا صحيح تجاه كل الجوانب الحياتية الأخرىالتي تقابل الشخص باختلاف المكان،وفي مدينة " الدمام " على بحر الخليج العربيبشمال شرق المملكة .. كنا نبحث عن شكل الصخر أو الجبل أو الحجر .. يقولون ثمة جبلفي المنطقة الشرقية اسمه " جبل الظهران " وسمعنا عنه من آبائنا الذين التحقواعمالاً أميين بشركة الزيت .. منذ قبل مجيئنا للحياة رأينا حيزاً صخرياً تشقه عدةطرقات للسيارات ثم ما لبث بعد أن التصقنا به .. أن انطمس .. فُـتك به حتى ُسوي بهالأرض.. فكنا في مواسم الصيوف نقطع آلاف الأميال بالسيارة إلى الجنوب وأول مايبهجنا نحو الجنوب منظر الجبال وأشجار الطلح و"القرض " والسدر ورائحة الفضاء الواسعالنقي .
بالطبع أنا لا أعني أن الأمكنة يجب أن تساير مطالبي .. لكنني وجدت قلمييسعى لإعادة تراكيب الأشياء بحكم مرجعية ذائقية ودون الوعي بهندسة الأمكنة الجديدةوملابسات ضرورياتها وبيئات أنسانها. في " القاهرة " حيثالبعد الشديد اجتماعياًوبيئة ومعيشة وفي عمق الليالي الموغلة في الغربة ولأسباب غير اختيارية .. كتبترواية " الوسمية " بحميمية ومرجعية معيشية دقيقة لكنه يبقى المكان "القاهرة" كمينآخر له مواصفاته ونماء ثقافته وأناسه و.. إلخ .
في " لندن " الضبابية .. عرفتطعماً آخر للضباب الذي عرفته في الجبال السروية وبطبيعة الحال والمكان والزمان .. رأيت ضباباً يعايش الإنسان ويختلط بيئته وشارعه ومكان عمله وملبسه ومأكله ومشربهوكان الضباب يعني لي دائماً – يعود للمرجعية البيئة القروية – وجود البرد والعواصفوالمطر وانتظار تصريح الأهل بعدم الذهاب إلى المدرسة .. جميل هذا وقبيح في مكانهوزمانه البعيدين .. فقد اتخذ لغة أخرى وسلوكاً آخر .. بمعنى صورة وذائقة أخرى وبقيتله صفة المكان لكل معانيه وأشكاله .. وهكذا .
وفي ولاية " فلوريدا بأمريكا .. عشت أياماً بالغة القسوة ألقيت بكل حديث حضاري عن أمريكا .. هناك خلف سواحل الأطلسيلقد رأيت الخضرة والجبال كأنما صنعها الإنسان بمادة بلاستيكية لكنه لم يستطيع أو لميفكر في تغيير رائحة الطين الذي كنت أنزل إليه في الحدائق كعصفور ينحت بمنقارهبحثاً عن ألفة عظيمة مفقودة .
ما لمسته هنا أو هناك تجاه الأمكنة .. لا يعتمدعليه كقانون،فهذا قانوني أنا أو تلقائيتي الشخصية مرتبطة بحالتي وظروفي وذائقتيوإنسانيتي .. لكنني لا أستطيع أن أجعل من المكان رداءاً أخلعه متى شئت وكيفما أتفق .
هل المكان هو الجغرافيا أم أنه شيء آخر ؟
بالطبع يا صديقي .. المكان ليسمجرداً عن التقائك في الحياة المعاشية أو النفسية مع الآخرين .. المكان يتأنسنبعلاقتك مع الإنسان الذي يشغل ويغير ويؤثر في هذا المكان.
لذلك تأخذ الأمكنةحميمية الإلتصاق بالنفس والذائقة والذاكرة .
لم أفكر ذات لحظة في العيش خارجمدينة " الدمام " فقد ألفتها إلى درجة العشق.. احببتها حباً إنسانياً تفصيلياً.. فيها تعرفت على الأصدقاء ..على الانفتاح نحو ثقافة جديدة .. الثقافة المعرفيةبالذات وصياغات التعامل الذاتي مع الحياة والأشياء.. المعرفة الحقيقية لمعنىالتجربة الانتقالية من براءة القرية إلى ترس الطاحون المدني .. كنت أمام امتحانيومي في كفاءة الذات وفي كيفية التعامل مع العالم القريب والبعيد .. مع الغذاءوالماء ونوع الخبز ومعايشة الدواء، و إقامة سلوك جديد مع وسيلة جديدة اسمها " قيادةالسيارة " والعمل اليومي حسب اشتراطات الوظيفة .. لم أكن اعتمد على جرس الساعة ولمأخل بالتزام مع الآخر .. كنت دقيق الالتزام وفي مرحلة عنفوانية فكراً وممارسة ولمتكن مآسي الحياة مرة كما هي كسباً ثقافياً ودروساً .
فجأة أخذتني أقدار الصحةإلى " الرياض " .. فكنت أهرب من المستشفى في السابعة مساءاً لكي أعود إلى بيتي فيمدينة " الدمام " اقضي نصف الوقت في الطريق ( 3-4 ) ساعاتوأعود إلى غرفتيبالمستشفى قبل السابعة صباحاً ..لا تقل إنني كنت مجنوناً .. لقد كان هذا يحدث وفيحالة إغماء فالظرف الصحي كان صعباً. عرض علي الأصدقاء بـ" الرياض " رعاية صحيةوعملاً ملائماً بالصحافة مثلاً ومسكناً .. لم أوافق.. كان اليوم يمضي كشهر .. أرغبفي النفاذ بأية صفة إلى " الدمام "
الأطباء يتعاملون مع المريض كحالة جسدية فقطفيسقطون ضلعين من مثلث الصحة النفسية والاجتماعية.. لم أعد من الرياض بنتائجإيجابية .. برغم العناية .. عدت مريضاً – كجورب محموم إلى الدمام .. لكنني كنتسعيداً ودخلت في تصالح جديد مع الحالة وهنئت قليلاً قليلاً .
هل يمكن اعتبارالمكان " الدمام " معطفاً تلقيه عن كتفك لمجرد دخول موسم الصيف .. لا اعتقد أبداًولكنك أيضاً لست مخلوقاً لموسم واحد بصفاته وحواشيه في الحياة ! فجأة .. أيضاًوبصورة غير متوقعة أبداً رأيت أن المعيشة في الساحل الغربي بمدينة " جدة " .. تتصالح مع الظرف الصحي المكتسب تجربة، فقد أحسست بتحسن ملحوظ وبأصدقاء جدد وبألفةقديمة مفقودة تجاه شجرة " الحناء " وبقرب المدينة من الجبال السروية.. أما المسألةالصعبة حقيقة .. فقد كانت تقليدية التعامل – خاصة الأقرباء – لقد كانت امتحاناجديداً مراً .. كانت ضريبته كبيرة في أوائل الأمر .. ربما وبحكم العذر الصحي الذياستخدمه بإيغال شديد أحياناً .. استطعت أن أتأقلم أو يتأقلمون مع " هذا المريض " المسكين .. اسكنهم الله واسكن المسلمين واسع جناته .. آمين .

اطلَّ أحمد منالباب وقال : تفضلوا حياكم الله .
انتقلنا إلى غرفة أخرى وكان تراث الأجداديعلن عن حضوره، حيث أعلن رأس الخروف المفتوح بلسان مائل إلى اليمين عن وليمة تليقبتراث العائلة . إنهمكنا في الأكل ونسيت عبد العزيز ولكنني فوجئت به يشمر عن أكمامهويستبدل أكل الماءبالمائدة الدسمة ،تبادلنا الأحاديث القصيرة ولكن عبدا لعزيزكان يأكل بلذة ما ألفتها منه بل أنه لم يشاركنا التعليقات العابرة .
-
هل تظنالخروف ماء يا آكل الماء ؟
أجاب باقتضاب: هذا خروف ما بعد الحداثة والخدماتيةوالاستهلاكية .
-
لكنه لذيذ وسريع والتجهيز .
صحتين على قلبك
فرغنا منالأكل وخرجنا إلى الحديقة الصغيرة بجوار الكادي وحوض الريحان وبين ارتشافات كاساتالشاي وصوت قرقرة الأرجلية أردت استعادة حيوية الحوارفسألت عبد العزيز :
لماذا تأثرت باللهجة الشامية التي تستخدمها في سياق حديثك أكثر من تأثركباللهجة المصرية التي كانت هي لهجة زوجتك الأولى والأخيرة والتي كانت تناديك "عبعزيز"..؟
تنحنح قليلاً وقال : أولاً ..فال الله ولا فالك .. وثانياً .. اللهيمسيها بالخير .. وتاسعاً شو بدك في هالسيره ..
-
كيف قفزت من ثانياً إلىتاسعاً
أمرك سيدي .. والسبب في رأينا يعود إلى أن الأمور متشابهة أو متماثلة أوبليدة فالأول والآخر سواء أما بالنسبة لاستخدامي اللهجة الشامية أكثر من المصريةفيعود إلى ذوق شخصي بحت أرى أن الشامية تعطيك المعنى بصيغة أكثر حضوراً أو تجديدية،أما المصرية فإنها تستخدم نفس الكلام لمئات الحالات.
كانت الطائرات تحط في مطارالملك عبد العزيز وكأنما وضعت علامة على بيت عبد العزيز ابن مشري لتبدأ إنزالالعجلات فوق سطحه فانقطع الكلام مراراً . وحين أردت معاودة طرح الأسئلة كان صاحبناقد ملّ الحديث واستلم للخدر الذي يعقب الأكلة الدسمة. وسألته هل تريد مواصلة الحوارقال بحدة: اشغلتني يا ولد بهذي الأسئلة " ما معك ضيعة ولا بيعة تشغلك عني ! "
أدركت أن الوقت قد أسلم مقاليده للتوقف وأعطيته ما تبقى من أسئلة ليجيب عليهابطريقته .