عرض مشاركة واحدة
قديم 06-03-2012, 11:14 AM
المشاركة 795
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
حوار مع عبد العزيز مشري
كنا على الموعد في الخامسة مساءً ، في شتاء دافئ يغمر مدينة جدة ، وحين دخلت الباب الرئيسي جاء على كرسيه - الذي يجيد أخوه أحمد دفعه " وسواقته " عبر الدرج والممرات - ولم يطل عناقنا فقلت له : أتبخل علينا يا عبد العزيز أم أنك تحتفظ بالعناق لغيرنا ؟ ضحك وكان" الشنب " الكثّ المزدان بأولى الشعيرات البيضاء يهتزّ بأناقة .
جلسنا في فناء البيت الصغير حيث تُـقاسمنا شجيرة الكادي وحوض الريحان شطر المكان .
- ماذا تشرب ؟
- شاي ثقيل ورأس معسل بحريني
لم يطل الوقت حتى اكتملت عدة المجالسة وبدأ نقيق "الأرجيلة" يشاركنا حفاوة اللقاء .
قلت له : يا عبد العزيز .. أنت من عائلة كريمة تحظى بمحبة واحترام غالبية أهل قرية "محضرة " ( وليس 99% ) منهم ، وقد توارث أجدادك ثم والدك هذا التقدير الذي أهلهم للحصول على لقب "شيخ القرية"، فهل تعد نفسك لهذا اللقب بعد عمر طويل إن شاء الله؟
- قال يكفي ما احتمله جدي وأبي من تبعاته .
- قلت، وهو يعبّ من " لي " الأرجيلة : سأكون أول الرافضين لتعيينك في هذا المنصب لأنه لا يليق بقرية مثل "محضرة" أن يكون شيخها روائياً يكشف المستور والمسكوت عنه أو كاتباً مشاغباً وعنيداً مثلك، لا يثنيه عن رأيه " سبعة سيوف " .
غرق في الضحك وقال :
هذا رأيك باعتبارك أحد المناوئين لزعامتي ، ولكنني أعرف أنك قد عايشت تلك القرية التي كانت برلماناً تلقائياً شديد الإنصاف ؛ في ساحة مسجدها – يوم الجمعة - .. حيث كان الجماعة بعد أداء صلاة الجمعة .. يخرجون من باب المسجد، يتسابق كل منهم إلى مقعد أو متكأ على " الحجيرة " المحيطة بتلك الساحة، يستمع للجديد والمطروح .. واحد يشتكي من التعديات البهائمية ، وآخر يشكو من مظلمة في مزرعته ، وثالث يدعو الجماعة لعزيمة زواج ابنه أو ابنتــه، أو دعـوة لـ" طينة " سقف البيت الحجري الذي بني ونما بين عيون الكل .. هل رأيت كيف كانت تأتي المرأة ملفوفة بالبياض ملثمة وفي يدها بنتها أو ولدها الذي مات أبوه وتركهم في أمانة الجماعة دون وصية كالعادة .. سيقف الكل مع حقها في البيت والوادي وسبيل الطريق ومجرى ماء المطر إلى مزرعتها .. فمن مد يده أو زهقت رجله أو لسانه .. فإن "الحق " يجري عليهم جميعاً !
شيخ القرية هو واحد مثلهم لا يتميز بأية ميزة سلطوية أو امتلاكية .. سوى أنه معروف بحب الخير والعدالة والرأي المسموع الذي لا يخالف رأي الأغلبية الصادقة والمحقة ( صغيراً أو كبيراً .. امرأة أو رجل ).. لم يكن فقيه الجماعة ولا قاضيهم أو إمامهم .. لكن لكل شخص وظيفته واختصاصه الملائم له حسب قدراته الإمكانية والتقديرية المعروفة .. مع احترام الكبير من قبل الأصغر سنا، حسب العرف القروي !
لم يعد اليوم هناك وحدة إنتاجية تجمعهم ولم يعودوا يلتقون في حوش المسجد بعد الصلاة ليناقشوا أموراً مشتركة، ولم يعد يجمعهم شاعر أو رقصة ، أو مشرب ما، أو مواشي . بقي أفراد من جيل آبائنا يرددون ما قاله شاعرهم القديم عن شباب يهزؤون بالماضي .
" يتهزا بلون الشيب والشيب يتهزا بنا "

(1) - يا عبد العزيز
حين أتصل بك هاتفياً يجيبني صوتك الأجشّ معلناً عن قسوته وكأنه صوت "الجعري "، بينما حين يقابلك الآخرون يجدون اللطف والوداعة فهل تحتمي خلف صوتك الهاتفي ؟ وهل تخشى أن يلتهمك شيء ما ؟ إنسان مثلاً أو حيوان ما، من خلال التليفون ؟

* - كلا لم تأت ببالي هذه التفصيلة التي أوردتها .. ولا تخفّيت خلف صوتي خوفاً أو طمعاً .. ربما يشبه صوت الضبع " الجعري " كما وصفه الصديق المازح دوماً " د. سعيد بن فالح " والذي ينوي به إخافة الحمير من الضباع - سامحه الله - متناسياً أن الحمير هي التي كانت تقدم عملاً عظيماً في نقل " التوار " التي تصنعها قريتهم التي تصنعها من الفخّار المحروق إلى الأسواق !

(2) - في نصوصك الغنية التي اشتغلت فيها على عالم القرية استثمـــرت الكثير من الشخصيات (كأنماط ودلالات ) وجسدت جوانب عديدة من منظومة العادات والتقاليد والقيم والمكونات الثقافية لمناخ العالم القروي، وقد أبرزت من خلاله المعنى الرمزي والأسطوري للعديد من هذه الكائنات مثل الديك ، والكلب والحمار والثور " أبو قرون " والبقرة .. إلخ
وسؤالي هنا يتفرع إلى شقين الأول :
بحكم معايشتك لعالم القرية الجنوبية ومكوناتها الثقافية فيما يخص مفهوم " الجد " الأسطوري لكل قرية.. لماذا لم تلتفت إلى هذا التكوين أو لماذا أغفلته في أعمالك؟ وهل تنوي استثماره مستقبلاً ؟
أما السؤال الثاني فهو : ما تفسيرك لتلك الفكرة " للجد " التي ما زالت تستخدم بشيء من السخرية حتى اليوم في لحظات المرح والتندر والغضب، ما بين سكان قرية وأخرى فيما يخص ذلك" الجد" ؟

* - حين أكتب الرواية عن عالم القرية في الجنوب .. فهذا لا يعني أنني "أنثروبولوجياً " ولا دارس أساطير ولا محقق أو كاتب خطاب اجتماعي بالتقارير .. مع أنني اعتقد أحياناً أن الكاتب المبدع هو كل هذا وغيره .. لكنه يصوغ الواقع وربما أعاد تركيبه حسب رؤيته الفكرية والفنية .
النقطة التي ذكرتها .. هامة وجميلة وتؤكد أن أهل القرى ، لا يزالون الوحيدين الذين يمضون في سياق الشعوب القديمة .. فمسألة الجد الأسطوري " المرمز"، موجودة لدى الشعوب القديمة في كل العالم الشعبي تقريباً .. غير أن البعض - للأسف - لديهم مفهوم السخرية .. بل راحوا ينظرون إلى مسالة تطبيع الوحدة الاجتماعية القروية أو القبيلة بطباع " الجد " الرمز .
إنها لم تغب عني .. غير أن المناسبة فقط لم تتهيأ فيما سبق من كتاباتي . ربما كان ذلك فيما يأتي .. فالتفاصيل المهمة كثيرة في حياة العالم القروي، والكاتب لا يستطيع أن يطرق كل الشئون، ولا يستطيع إلا أن يمر ببعضها مرور التلويحة باليد فقط.

• إذن ما هو الجد الذي ستختاره لقريتك محضرة بعد أن طلع العالم القروي -الذي كتبته في ملحمة القرى - من جذور حياة تلك القرية ؟

* - كتبت لكي أحافظ على الذاكرة، لا لتغييرها، لذلك أرى أنه ليس من حقي تغيير ما استقر في أعماقها بالنسبة لذلك "الجد" الذي تعرفه، فهو لنا معاً .

(3) - في بداياتك في كتابة القصة القصيرة كنت مهموماً بكتابة الرواية، وكنت تشير لي في معرض أحاديثنا آنذاك إلى رغبتك في كتابة الرواية بالاستفادة من تجربة الغربة في الدمام وحياة الصعلكة البسيطة التي كان يعيشها بعض الأصدقاء حولك، ثم كتبت جزءاً من عمل روائي أسررت لي بخطة سرديته عن رحلة يقوم بها شاب من أعلى الجزيرة حتى جنوبها عبر جبال السروات، وبعد ذلك فاجأتنا بعد عودتك من القاهرة بإنجاز عملك الأول " الوسمية " عن عالم القرية ؟
ترى هل هي الغربة وقد أحيت الحنين في قلبك ؟ هل هو عالم القاهرة، أم الوعي الذي وقف على قدميه في تلك المرحلة قد دفعك للعودة للذاكرة وتجسيد عوالم القرى ؟

* - نعم حدث هذا في فترة صدور مجموعة " موت على الماء " وهذه القصص تمثل الفترة المعيشية الثقافية التي تكونت بعد سفري من القرية إلى المدنية "الدمام"، ولعلك قد لمست البنية القروية البريئة والتي صدمت بصخب المدينة وإيقاعها مع أنها – بعد عقدين من إعادة قراءتها - وجدت أن القرية وعالمها متجذر في ذهنية القلم الذي سرد قصصها .. لكنها كانت ذهنية شاب متحمس لم يتلمس طريق خطواته الفكرية تجاه العالم والكون والإنسانية .. بحيث طغت الشكلية اللغوية "والمفردة المنحوتة " وزخرفة الصورة - حسبما جاء فعلاً في مقدمة الأستاذ " علي الدميني" وكان يسبقتي بخطوات واسعة ثقافياً وكتابياً .. طبعاً المقدمة كتبها في أول المجموعة، والحقيقة أنني قد كتبت ما سميته آنذاك بالكتابة الروائية الناقصة شكلاً ووعياً، وأذكر أن صديقاً كان يعمل معنا في جريدة " اليوم " كان متشجعاً لها " نبيه الشعار " من سوريا وكان يقرأ مقاطعها ويسجلها بصوته ( روى لي أنه كان مذيعا في الإذاعة السورية ) وهو شاعر جيد .. ولكن هذا لا يبرر أن أكتب الرواية وقتها لعدة أسباب أقولها فيما بعد زمانها .. منها : العمر . التجربة الواعية بمسئولية كتابة الرواية خاصة وأنها شهادة اجتماعية مرتبطة بموروث عالم له خصوصيته وممارساته داخل محيط مؤسسي معلوم.
الحماس المناقض للتقليدية الكتابية الصورية الشكلية للحياة الاجتماعية لا يكتب الرواية : الوعي والإدراك بوظائف الكتابة هو الذي يكتب كتابة ذات قيمة.. الذاكرة.. المعايشة.. الطفولة ..المسئولية.. الموهبة.. وعدة مقومات .. هي التي تجعلك كاتباً على مستوى الرواية .. قد ترغب في أن تكون كاتباً روائياً .. لكنك لا تملك المقومات .. فهل يعني أنك أصبحت كاتباً روائياً .. لا اعتقد أبداً ما لم تعلم جيداً أنك تحمل في صدرك قولاً كبيرا ً وطويلاً يستحق أن يوضع على الورق .
" القاهرة " أو غيرها من العواصم العربية ذات مساحة تستوعب الكاتب والكتابة والقارىء والمستقصي .. لكنها جميعاً لا تمنحك الهم الخاص الذي تكون فيه مع هويتك وانتمائك الخاص.. هي تمنحك عالماً غير منقسم في إنسانيته .. فالإنسان الكامل برجولته وأنوثته موجود. وهذا ما افتقدته في واقعنا، لذلك ربما فتحت القاهرة عيني على هذا الوجود الطبيعي للمرأة في الحياة والذي يشبه زمن الطفولة القروي لدى كل إنسان ، وربما حفزني ذلك على العودة إلى العالم الطبيعي .. العالم السوي.. حيث يقف الرجل والمرأة على قدم الإنتاج المشترك والمساواة الإنسانية في كل مناحي الحياة .

( 4) - هل يمكن لنا أن نقف عند أهم الروايات التي قرأتها وما هي العناصر المميزة فيها التي بقيت في الذاكرة والمخزون الفني لديك، وكيف استفدت من بعضها ؟

* - كأني أفهم من سؤالك أن ثمة تأثيرات قرائية للرواية .. بل لأعمال روائية معينة .. استطاعت أن تقدم لك نحتاً نمطياً على صعيدي الفن والموضوع !
اعتقد أن هذا لا يمكن أن يحدث بهذه الصورة .. إذ أن كتابة الرواية وفي عالم خاص بتاريخ صراعاته الطويلة عبر أداة إنتاجية محددة، وضمن مكانية معروفة ومن خلال معايشة منذ الطفولة، عجنت وخبزت الكاتب، وشرب من مواردها الثقافية الحياتية على هيئة فتافيت تربوية ومعيشية يومية مروراً بالتفاصيل والمناسبات والفصول .. أقول إن هذا لا يمكن أن يحدث لمجرد قراءة أعمال روائية تتماثل مع مثل خصوصية العالم القروي الذي كتبت عنه .
القراءات الروائية باختلاف صورها وعوالمها القصصية والشعرية والتراثية وكل ما يمكن أن يقال عنها.. المحصلة التي لا تنتهي عند نقطة محدودة في الحياة وآنذاك - وقت إذ بدأت بكتابة الرواية الأولى " الوسمية " في القاهرة عام 1982م ( وكنت اعتبرتها تجربة روائية ) كنت قد أعجبت بكثير من الأعمال وكانت جديدة علي منها أعمال " هنري ميللر " وشينمو انشيبي " وتراثية كـ" أحمد بن إياس " و " أبو حيان التوحيدي " وأشياء أخرى .. جميعها وسابقاتها وبعد توقف طويل - بعد إصدار مجموعتي القصصية الأولى " موت على الماء " عام 1979م .. توقفاً منلوجياً تأملياً .. رأيت أن الكتابة وقتها .. لا تحتاج إلى التغريب والبحث عن مادتها وعالمها من خارج ما يقع في الذهن من حكايا وأحاديث طويلة تكمن عند أصبع القدم وليست في جزر " الهونولولو " أو وديان " واق الواق " ، يضاف إلى هذا الشعور بالغربة القاسية والمرهونة بظرفها الذي لم أجد معه إمكانية لكسرها أو النفاذ منها بمجرد خاطر العودة .. وما سببته من حميمية إنسانية قوية تجاه عالمي القروي الأول .
لقد رأيت أن الكتابة لا يمكن أن تصيب وجدان وذهنية كاتبها - الروائية تحديداً - إلا إذا كانت تغمس سن قلمها في دم كاتبها خزينة معيشته أو تجاربه وطريق رؤيته واستراتيجية .. قل محصلته الثقافية. لقد وجدت عالماً خاصاً وجديراً جداً بالكتابة .. فكتبت وكنت كلما انجزت مشروعاً اكتشفت أن ثمة تفتحات جديدة وعالم وجزئيات لا يمكن أن تنضب أو حتى يشوب مشوبها النقصان ..و هكذا.

( 5) - الذين يعرفونك عن قرب يلمسون اهتمامك الدقيق بهندامك والمكان الذي تعيش فيه وانشغالك الجميل بنوع الساعة والقلم والولاعة والعقال و الغترة ونوعية العطر حتى وأنت في ساعاتك العصبية مع المرض، وسيدهش الداخل إلى منزلك يا عبد العزيز بشجيرة " الكادي " وهي تحييه خضراء مبتسمة مشيرة إلى نبتاتها المتوالدة وبياض زهرة " الكادي " على تاجها رغم أنها تعيش في بيئة لم تكن معدة لها وسيدهش زائرك حين يجول ببصره على محتويات مكتبتك وستشده دقة تنسيقها وترتيب كتبها, ورغم أنك تنام في نفس المكتبة إلا أن كل شيء يبدو دائماً في قمة الإنسجام !
فما هذه القدرة على تنظيم ما يبدو عصياً على الانتظام واستنبات ما يبدو مخالفاً لمناخه؟ وماذا أفادك به هذا الذوق المميز في حياتك وكتابتك ولماذا تسلل " ريح الكادي " كعنوان لتلك الرواية ؟ وما دلالة تحوله إلى " جاردينينا " كعنوان لمجموعتك القصصية الجديدة؟ هل يعني ذلك تحولاً للذائقة الموروثة من القرية إلى الذائقة المعاصرة في المدينة ؟

* - تعلم أن نبته الكادي المميزة الرائحة والخضرة لا تزرع في قرانا الجبلية - مع إننا نحبها وتتزين بها رؤوس الصبايا - فهي نبته تهامية النشأة هي و" الحناء " والقطران " الخاص برائحته في قرب الماء وطلاء الأبواب وأشياء كثيرة ومميزة تتميز بها المنطقة التهامية الجميلة بأهلها وخصائصها ومناخها الدافئ .. لذا فريما كانت منطقة " جدة " المدينة الساحلية الحارة قريبة من مناخ تلك النباتات الواردة. نحن لا نستطيع أن نستزرع نبته الورد المشهور بذكاء لونه ورائحته وبتواجده الموسمي الربيعي في الجبال القروية بالجنوب .وهكذا وللمختصين في شأن الزراعة علم دقيق في هذا الأمر ليس ثمة سر ولا كشف إنما هو الرجوع الحميمي لتفاصيل المكان الطفولي وجماليات معيشته وذكرياته، وبرغم بعد المكان على الإنسان يبقى يحن للأشياء التي ارتبطت باندها شيته ومعيشته الأولى .. أذكر عندما كنت في إحدى الولايات في " أمريكا " وفي ظرف صحي يصعب وصفه تمنيت - وقت إذ امتنعت عن تناول أي نوع من الطعام والشراب - تمنيت كسرة خبز ناشفة من حب " البلسن " العدس البني الصافي - مع قهوة البن أو مع اللبن الحامض بالريحان، وبالمناسبة فإن اسمه في قاموس اللغة بـ" الحقين والحقينة " كما يسميه أهل القرى بالسراة والمهم أقول :
وعندما خرجــت بعد زمــن من المستشفى للفسحة دخـلت حديقة منبسطة بالخضرة العشبية " النجمة " - أيضاً هذا اسمها القاموسي في العربية - فشممت رائحة الطين الواقع بين الجبال في تلك الولاية. لقد عدت آلاف الأميال في فينة زمن لا تقدر بجزء من الثانية إلى رائحة طين القرى والأودية، و لا أظن أن المسألة مرتبطة بي أو بفلان من البشر بل بكل الناس في كل المناطق ليس في أمر كهذا فقط .. بل في اللغة ولهجاتها وأنواع الملابس والروائح والألوان وكل ما يخاطب الحواس .. يقول العلماء إن الإنسان في لحظة خطرة مباغتة .. يصرخ منفعلاً بلغته التي تعلمها في بيئة وطفولته، ولحادثة تحدث في عمر كبير وفي منطقة بعيدة جداً وغربية اللغة والحياة عن بلده .
في الحياة الاستهلاكية المدينية التي نعيشها في هذا المرحلة ببلدنا .. أصبحت الخصوصيات في طريقها المختصر السريع نحو الإلغاء والاستبدال المدني الشكلي المستعين في تفاصيل استهلاكاته على عالميه الاستيراد الورقي الخفيف - قبل العولمة - التي أخذناها في عالمنا النامي من بابها الضيق - قبل وصولها .
من ملايين الأشياء الشكلية ومن الزهور - اللازهور - المؤطرة خلف زجاج محلات بيع الزهور حيث تردنا من كل بلدان العالم وبصور وهيئات لا تمت إلى بلدنا بصلة ومنها نبته خضراء يانعة وغضة لها زهور بيضاء نقية اسمها "جاردينيا" ، في إحدى الظروف العلاجية التنويمية بمدينة " جدة " صحوت على هذه النبتة المزهرة من صديقة ما .. لكنها مع الأيام القليلة وبعدم عناية .. تحولت إلى ضمور قليل يشبه التثاؤب .. فكان منه عنوان المجموعة الأخيرة التي تدور أجواؤها في المستشفى وليس في القرية .. فكان عنوانها " جارينيا تتثاءب في النافذة "
في شأن الذائقة القروية والمدنية فالذائقة هي واحدة .. لا يمكن تجزئتها أو تقطيعها إلى مناسبات وأحوال.. إنها لا تأتي حسب ذائقيات يرغبها الآخرون مثلاً، لأن لكل بيئة ومجتمع خصوصية منشأة وذائقته التربوية التي عاشها في حضن ثقافة الموقع الأول.
كنت في الطفولة مفتونا بالنجوم وبعدها وكنت أحلم بنجم أخضر مضيء.. لم تكن الكهرباء قد وردت القرية .. فكنا نراها آنذاك عبر مسافة بعيدة في الليل - بعد صلاة المغرب - نراها في قرية مركزية أخرى، وكان من بين الأنوار نور أخضر جميل يقتحم العين والقلب.. بالطبع لا أعرف مصدره الحقيقي ولا سببه .. لكنني أعلم أن الضوء الهامس البعيد لا يظهر إلا بعد انفصال النهار عن بداية الليل .. لو سألتني لماذا أحببت اللون الأخضر ؟ لما استطعت الجواب لأسباب أقلها أنني كبرت وكبر معي وربما إلى النهاية ! .
الذائقة الفنية أيضاً - ومع علاقتها بالثقافة - لا يمكن فصلها عن زمن الطفولة والنشأة .