عرض مشاركة واحدة
قديم 02-05-2018, 12:38 PM
المشاركة 151
عبدالعزيز صلاح الظاهري
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي "الذبابة"
عاد العم علي غاضبا من كلام جاره الشاب عندما قال له ، بدون أن ينظر إليه: ماذا تريد ؟
أتريد أن تغير العالم ؟!
عالمك انتهى وولى وحمل معه عاداته ومات فنه وأهملت مفرداته..
إنك تتكلم معي بغير لغتي.. إنك في نظري مخلوق غريب، وعجوز يهذي، وقد دنا وقت مماته...
وبمجرد دخوله المنزل سألته زوجته،التي تصغره بثلاثين عاما : أين المقاضي؟
نظر إليها وقال : خلال عشرين عامًا كل شيء يتغير حولي !
ماذا حدث منذ كنت صغيرًا حتى اليوم الذي تقاعدت فيه ؟
لم ألحظ تغيرًا !
كيف حدث هذا التغيير وبهذه السرعة ؟!
نعم كان هنالك تغيير في الأكل والشرب.. هذا مقبول..
ولكن أن يتغير التاريخ واللغة وأخلاق الناس وسلوكهم في عشرين عامًا.. إنه مرض.. مرض خطير !!
لقد حل الظلام، ولم يعد هنالك تعاقب لليل والنهار..
لقد نزع القمر ومعه النجوم من سقف السماء، فكيف أغني لأرض بدون قمر ؟!
وكيف أكتب تاريخًا وأيامي ليل بلا نهار ؟!
سوف نكون حبيسين لهذا الظلام، ولن نتقدم خطوة واحدة..
لقد اختفت الحركة التي تبعد الملل وتساعد الإنسان على النسيان، وتجعل لنا تاريخًا ولحظاتٍ جميلة، ترسم على شفاهنا الابتسامة وتصنع الأمل...
عندها قاطعته زوجته: ماذا حدث لك ؟
سألتك عن المقاضي !
إنك تهذي.. هل تشتكي من شيء ؟
نظر إليها وقد تغيرت ملامح وجهه وبرزت عيناه وكأنها تريد الخروج من المقلتين، وصرخ في وجهها: أهذي ! أشتكي من شيء !!
لا، أنا لا أهذي، وصحتي عال العال، انظري لأسناني، انظري جيدًا، لقد اقتربت من السبعين وباستطاعتي عض لسانك ما دمتي لا تجيدين الاستماع ولا تحسنين الكلام، وليكن في معلومك أن أغلب عائلتي تجاوزوا المائة العام وهم في أحسن صحة وأحسن حال، وإن التوقيت الذي تنتظرينه بعيد المنال.. إنني خارج وسوف اترك لكِ المكان، وبالنسبة للمقاضي: لن أقوم بجلبها بعد الآن، فلديك ثلاثة رجال يتكلمون لغتك.
ثم خرج وهو يردد: "اسمع" .. "تهذي" .. "تشتكي من شيء" !!
وزوجته تنظر إليه مذهولة، ولم تتوقف إلا على صوت دوي إغلاق الباب
وبدأت تتساءل: ماذا يقصد بالتوقيت الذي تنتظرينه ؟
وما دخل الأسنان؟
وماذا يقصد بلغتك ؟
وأثناء ذلك بدأت تحرك يديها التي تفاعلت مع تلك الأسئلة ، وأخذت تدور في المنزل وهي تعيد تلك الأسئلة، حتى قادتها قدماها إلى إحدى النوافذ والتي كانت مفتوحة على مصراعيها...
وفجاة.. توقفت هذه الأسئلة عندما سمعت صوت جارتها سعيده، وهي امرأة عمرها قارب على الستين عامًا، رشيقة القوام، محبة للموضة، تحمل وجهًا مثل الحرباء يمكن أن تغيره، فقد يشعرك بالخوف، وكذلك يدخل في قلبك الاطمئنان، إنها تتحكم فيه، فلكل مناسبة عندها وجه..
سمعت صوتها وهي تناديها: خير.. مالك ؟ أراكِ تكلمين نفسك !
عندها لاحظت أنها واقفة أمام النافذة بقميص نومها كاشفة الوجه والرأس فتراجعت مسرعة وهي تردد: لو علم سوف يقتلني.. الله يستر !
وما هي إلا لحظات وإذا الهاتف يرن، وتساءلت وهي ترتجف: ترى من يكون ؟
وعندما اقتربت رأت أن المتصل هي جارتها سعيده، او كما يسمونها
أهل الحي بـ "الذبابة" ، فهي تشارك الذبابة في كثير من الأمور..
لذا قامت برفع السماعة مسرعة وبدون تردد؛ خوفاً من أن تقوم سعيده بحبك رواية عنها قد يكون عنوانها ( فجأة ظهر البدر على النافذة ) أو (عندما هزني الشيطان) ...
وما إن رفعت السماعة حتى انطلقت سعيده بدون أن ترد السلام: هند.. ماذا حصل؟ هل أنت بخير؟
فأجابتها -وهي تحاول أن تكون متماسكة- : خير.. خير، هذا موضوع لا ينفع فيه الحديث عن طريق الهاتف، أتمنى أن تأتي لأشرح لكِ الموضوع.
وبسرعة البرق جاءت الاستجابة سريعة: ثوانٍ وأكون عندك إن شاء الله...
لقد أحست هند بسعادة سعيده الغامرة، والتي ظهرت ممتزجة بجملتها -رغم قصرها- وعلمت أنها سوف تكون ضحية لفكين لا يرحمان؛ لذلك يجب أن تتعامل معها بحذر، فهذه المرأة لديها القدرة على قراءة الشفاه، وتحليل حركات الأيادي والعيون !
لذا بمجرد وصول سعيده أخبرتها بما حصل مع زوجها.. كلمة كلمة، وحركة حركة..
وأخيراً طلبت منها العون كهدية من سعيده -والتي لطالما تلذذت بمشاكل الناس- وهو كذلك نوع من المديح يعبر عن رجاحة عقلها، فسألتها عن المغزى من كلمات زوجها.
عندها قالت لها سعيده -وهي في قمة السعادة- :هذا الموضوع يحتاج فنجال قهوة.. أين قهوتك ؟
ابتسمت هند وأسرعت إلى المطبخ -وهي تردد في قلبها- : "انتي إديتيني فرصة" ، فهي ثوان وأنتِ عندي، ولم تلحظ إلا و سعيده خلفها، وهذا ما أفزعها فشهقت..
ولم تترك سعيده لها المجال فبادرتها: أفزعتك ؟
وهي تنظر إلى عينها
أنا أكره أن أجلس وحيدة، أخبريني ماذا حصل ؟
هل حدث شيء بينكما قبل هذا الحوار ؟
فأنتِ أخبرتني أنك أعطيته ورقة المقاضي وكان طبيعيًّا...
التفتت إليها هند -وقد كانت مشغولة بإحضار فناجيل القهوة من أحد أدراج المطبخ السفلية- وقالت:
ماذا تقصدين بقبل؟
فأجابتها سعيده : أقصد هل كانت جميع الأمور طبيعية بينكما ؟
تعلمين ما أقصد !
ورافقت هذه العبارة ابتسامة أخافت هند، ولكنها حاولت إخفاء تخوفها، فأجابت مسرعة: فهمت قصدك، علي يحبني وأنا كذلك أحبه، وحاولت استعطافها عندما حاولت تذكيرها بحالتها عندما قالت:
أنت تعلمين وضعي، ولولا توفيق الله لي بعلي لكنت وحيدة، فمن يرضى بالزواج مني ؟
لقد أكرمني الله -عز وجل- به كما أكرمني بأولادي الثلاثة، إنه يمثل لي هو وأولاده كل شيء.
عندها فطنت سعيده، لقد قرأت رسالة هند؛ لذلك حاولت طمأنتها وذلك عن طريق رسالة مباشرة غير مغلفة..
أنت تعلمين أن أهل الحي يسمونني بـ "الذبابة" .. أليس كذلك ؟
لكنك يجب أن تعلمي أنكِ ملاك، فبمجرد دخولي بيتك شيء ما قطع أرجل تلك الذبابة، وقص أحد أجنحتها.. فاحزري أي جناح قُص ؟
ورافقت هذه الجملة ابتسامة مليئة بالدفء والحنان أزاحت حِملا ثقيلا عن كاهل هند وأحست بالأمان..
فأسرعت وقامت بضمها وهي تردد: أنت أجمل وأطيب ذبابة رأيتها في حياتي...
وقامت سعيده بتقبيلها وهي تردد: لا تخافي.. لا تخافي يا ابنتي، فما صدر من علي دليل على حبه لك، لقد شعر أنه غريب في العالم الخارجي فخاف أن يكون كذلك غريبًا في منزله..
وإن كان يهمك أمره -وأنا متأكدة من ذلك- فعليك أن تطمئنيه وتتقربي إليه وتحاولي فهمه..
إنني رغم أنني تعايشت مع جميع أفراد مجتمعي خطوة بخطوة، عايشت مراحل التغيير الذي حدث لهم، إلا أنني أحس أني غريبة..
إن التقدم الذي حصل للناس -أو ما يسمونه تطورا- سوف يقودنا إلى الهاوية، فبسببه تباعد الناس.. فمن يحتاج لصديق أو رفيق ولديه تلفاز وإنترنت ويرافقه هاتف محمول ؟!
وهذه البداية.. أنك لا تجدين فرصة للتحدث مع أحد حتى أبنائك..
لقد اختفت الثقة يوم ظهرت البنوك وتعددت الغرف وسورت البيوت..
لقد اختفى الحب يوم قتلنا العواطف واستبدلنا بها الواقع.. ذلك الواقع الزائف، الذي اعتمد خارجه على المظاهر، عبارة عن ابتسامات وتجميل المفردات، بينما الشعارات :
" الغاية تبرر الوسيلة "
" تعلم الرفض بدون أن تقول لا "
" احذر من الكريم فلعطائه ألف سبب "
وأخيرًا صمتت سعيده قليلا، ثم قالت: أرجو ألا أكون قد أزعجتك.. والآن أستأذن.
واتجهت نحو الباب..
عندها استوقفتها هند: ماذا عن القهوة ؟
فالتفتت إليها سعيده -وقد ظهر فجأة على محياها الإرهاق- : يجب أن أعود إلى المنزل قبل عودة زوجي..