عرض مشاركة واحدة
قديم 05-07-2013, 11:33 AM
المشاركة 407
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
والان ننتقل للبحث عن سر روعة الرواية 6- كلاريسا للروائي الانجليزي صموئيل ريتشاردسون

- وقد صدرت هذه الرائعة، واسمها "كلاريسا، أو تاريخ شابة" وطولها ألفاً صفحة، في سبعة مجلدات، ما بين نوفمبر 1747 وديسمبر 1748.

- وكان قد ساءه اتهامه بأن قصة باملا أظهرت الفضيلة مجرد خطة للمساومة، وأنها صورت فاسقاً صلحت حاله تصويرها لزوج صالح، لذلك عمد إلى إظهار الفضيلة هبة إلهية سوف تثاب في السماء، وإظهار فاسق سادر في غيه مقضياً عليه لا محالة بنهاية سيئة مدمرة.

- وخلاصة القصة أن لفليس الطائش الذي اشتهر بأنه شيطان من النساء، يطلب يد كلاريسا هارلو، فلا تثق به، ولكنها مفتونة أشد الفتنة بشهرته. وتحظر عليها أسرتها لقاء وغد كهذا وتغلق أبوابه في وجهه، وتعرض عليه مستر سومز، وهو رجل لا رذائل فيه ولا شخصية، فترفضه؛ ولكي يكرهوها على الإذعان يوبخونها ويعذبونها ويحبسونها. ويستأجر لفليس مساعداً ليزيف هجوماً مسلحاً عليها من أقاربها؛ ولكي تكفر منهم تسمح له بخطفها إلى سانت البانس. وهي راغبة في الزواج منه، ولكنه يرى في هذا مغامرة يائسة جداً. فيكتب صديق له:
- "... كنت أصمم على الزواج لولا هذا الاعتبار، وهو أنني متى تزوجت مرة أصبحت متزوجاً مدى الحياة. تلك هي المصيبة! لو أن الرجل استطاع أن يفعل كما تفعل الطير ويغير (زوجاته) كل عيد من أعياد القديس فالنتين.. لما كان في الأمر بأس على الإطلاق... وتغيير كهذا سيكون وسيلة للقضاء على.. أربع أو خمس كبائر فظيعة: هتك العرض، الذي يطلق عليه هذه التسمية السوقية، والخيانة الزوجية، والزنا؛ كذلك لن يلهث الرجل وراء تعدد الزوجات، وستمتنع كثيراً جرائم القتل والمبارزة، ولن يسمع الناس بشيء اسمه الغيرة (وهي العلة في أعمال العنف المفزعة)... ولن تكون هناك امرأة عاقر... فكلا الجنسين سيحتمل الآخر، لأن في استطاعتهما أن يرعى كل منهما مصلحته بعد بضعة أشهر... وستزدحم الصحف بفقرات.. .. تعني بتعارف المحبين. عندها ألن يكون التميز جميلاً جداً يا جاك؟ تماماً كما في الزهور، فهذا السيد، أو هذه السيدة، أما موسمي (أو موسمية)، وأما مستديم (أو مستديمة)".
ويحاول إغواء كلاريسا، فتنذره بأنها قاتلة نفسها أن لمسها، فيحبسهاً حبساً خسيساً وأن تلطف معها فيه، وترسل خلاله الرسائل المفعمة حزناً لأنا هاو، صديقتها التي تأتمنها على سرها. أما هو فيخترع الحيلة تلو الحيلة ليخترق معاقل دفاعها، فتقاومه، ولكنها ترى أن عرضها تلوث تلوثاً لا برء منه لأنها قبلت نصف قبول أن تهرب معه. وتكتب الرسائل الأليمة لأبيها ضارهة إليه أن يغفر لها بل أن يسحب اللعنة التي استمطرها عليها، والتي تعتقد أنها ستقفل في وجهها أبواب الجنة إلى الأبد، ولكنه يأبى، فتصيبها علة مدمرة لا يسندها فيها غير إيمانها. أما لفليس فيختفي في فرنسا ويقتل في مبارزة بيد عم كلاريسا، وأخيراً يأتي أبواها عارضين عليها المغفرة، فيجدانها ميتة.

- إنها قصة بسيطة، طال عزفها على نغمة واحدة طولاً لا يمكن أن يشد عقولنا المحكومة، ولكنها أصبحت في إنجلترا القرن الثامن عشر مثار خلاف قومي. فكتب مئات من القراء إلى رتشاردسن في فترات النشر يتوسلون إليه ألا يدع كلاريسا تموت. ووصف أحد الآباء بناته الثلاث بأنهن "في هذه اللحظة تمسك كل منهن بمجلدها الخاص (من كلاريسا)، وعيونهن كلها بللها الدمع كأنها زهرة مخضلة في الربيع". أما الليدي ماري ورتلي مونتاجيو، التي بلغت غاية ما تبلغ نساء عصرها الإنجليزيات من علم وثقافة، فقد تقبلت الكتاب على أنه استرضاء لعواطف الطبقة الوسطى وحماسة الجماهير، ولكنه آذن ذوقها الأرستقراطي. قالت:
- "كنت تلك الحمقاء العجوز التي بكت على كلاريسا هارلو كما تبكي أي بائعة لبن في السادسة عشرة لسماعها أغنية "سقوط السيدة" الشعبية. والحق أن المجلدات الأولى الأنتني بما حوت من شبه كبير بأيام صباي، ولكن الكتاب في جملته بضاعة غثة... إن كلاريسا تتبع قاعدة الإفضاء بكل أفكارها لكل من تراه، وقد غاب عنها في أوراق التين في وضعنا البشري الشديد النقص لازمة لعقولنا لزومها لأجسامنا، وليس من اللياقة أن نعرض كل أفكارنا، تماماً كما أنه ليس من اللياقة أن نعرض كل أبداننا".

- وألحت نساء إنجلترا الآن على رتشاردسن المنتصر في أن يصور لهن رجلاً مثالياً كما صور المرأة المثالية-في ظنهن-في باملا. فتردد أمام هذه المهمة الشائكة، ولكن حفزه إليها هجو فيلدنج لباملا في روايته "جوزف أندروز"، كما حفزته اللوحة الكاملة المفصلة التي رسمها فيلدنج لرجل في روايته "توم جونز"، وعليه فقد أخرج بين نوفمبر 1753 ومارس 1754، في مجلدات سبعة، "قصر السر تشارلز جرانديسن". ومزاج عصرنا الذي لا يبالي يصعب عليه أن يفهم لم لقيت هذه الرواية الثالثة نجاحاً عظيماً كما لقيت أختاها من قبل؛ فانتقاض القرن العشرين على البيورتانية، وعلى التوفيق الذي حاوله العصر الفكتوري الوسيط، ختم على قلوبنا فلم تعد ترى صور الطيبة المثالية، على الأقل في الذكور؛ فقد لقينا رجالاً طيبين، ولكن أحداً منهم لم يخل من عيوب تكفر عن طيبته. ولقد حاول رتشاردسن أن يجمل السر تشارلز بعض الهنات، ولكنا ما زلنا نكره هذه الشقة البعيدة بينه وبيننا. أضف إلى ذلك أن الفضيلة نفقد فتنتها إذا عرضت على الأنظار. ولقد أفلت جرانديسن بالجهد من أن يسلكه صانعه في زمرة القديسين.

- وألح رتشاردسن على الوعظ إلحاحاً جعله يسمح لبعض العيوب أن تشوب فنه الأدبي. فانعدمت أو كادت الفكاهة والنكتة الذكية عنده، وأوقعته محاولة حكاية قصة طويلة بالرسائل في أشياء بعيدة الاحتمال (كتذكر العدد الهائل من الأحاديث)، ولكنها أتاحت له عرض الأحداث نفسها من مختلف وجهات النظر، وأضف على الحكاية ألفة لا تكاد تتير في شكل أقل ذاتية. وكان مما يتمشى تماماً مع العرف في ذلك العصر أن يكتب الإنسان الرسائل الطويلة الحميمة إلى من يثق بهم من ذوي القربى أو الأصدقاء. ثم إن طريقة الرسائل هذه أفسحت المجال أمام موهبة رتشاردسن الكبرى-وهي عرض خلق المرأة. هنا أيضاً توجد عيوب. فعلمه بالرجال أقل من علمه بالنساء، وبالنبلاء أقل من العامة، وقل أن لقط ما في النفس الإنسانية من تقلبات وتناقضات وتطور-ولكن مئات التفاصيل تدل على ملاحظته الدقيقة للسلوك الإنساني. ففي هذه الروايات ولد القصص السيكولوجي الإنجليزي والنزعة الذاتية التي بلغت في روسو مبلغ الحمى.

- وتقبل رتشاردسن نجاحه في تواضع وواصل عمله طباعاً، ولكنه بنى لنفسه بيتاً أفضل. وكتب رسائل طويلة ضمنها النصائح لدائرة كبيرة من النساء، كان بعضهن يدعوه "بابا العزيز"-وفي أخريات عمره دفع ثمن الفكر المركز والفن المسهب حساسية عصبية وأرقاً. وفي 4 يوليو 1761 قضت عليه إصابة بالفالج. وكان تأثيره الدولي أعظم من تأثير أي إنجليزي آخر في عصره باستثناء وسلي وبت الأب. وقد أعان في وطنه على صوغ المزاج الخلقي لإنجلترا جونسن، وعلى الارتفاع بأخلاقيات البلاط بعد جورج الثاني. وأسهم التراث الخلقي والأدبي الذي خلفه في تكوين رواية جولدسمث "قسيس ويكفيلد" (1766) ورواية جين أوستن "العقل والوجدان" (1811).

- أما في فرنسا فقد عد كاتباً لا ضريب له في القصة الإنجليزية. يقول روسو "لم تكتب قط في أي لغة رواية تعدل أو حتى تقترب من كلاريسا(79)". وقد ترجم الأبيه بريفوست رتشاردسن، ومسرح فولتير بأملا في "نانين" وصاغ روسو "هلويز الجديدة" على غرار كلاريسا موضوعاً وشكلاً وهدفاً خلقياً.

- وارتفع ديدرو إلى المناجاة المفرطة الحماسة في مقاله "تقريظ لرتشاردسن" (1761)، فقال لو أنه أكره على بيع مكتبته لما احتفظ من كتبه كلها إلا بهومر ويوربيديس وسوفوكليس ورتشاردسن.

- وفي ألمانيا ترجم جيلليرت باملا، وحاكاها، وبكى تأثراً من جرانديسن(80)؛ وانتشي كلوبشتوك طرباً بكلاريسيا؛ وبنى فيلاند تمثيلية على جرانديسن؛ وراح الألمان يحجون إلى بيت رتشردسن(81).

- وفي إيطاليا مسرح جولدوني قصة باملا.

- واليوم لا يقرأ أحد رتشاردسن إلا مضطراً بحكم الدرس، ونحن لا نملك الفراغ الذي يتسع لكتابة رسائل كهذه، فضلاً عن قراءتها؛ والناموس الأخلاقي الذي يدين به عصر صناعي دارويني يهرب في ضجر من المحاذير والقيود البيورتانية.

- ولكنا نعرف أن هذه الروايات مثلث ثورة الوجدان على عبادة الفكر والعقل، أكثر مما مثله شعر طومسن، وكولنز، وجراي، ونتبين في رتشاردسن الأب-كما تتبين في روسو البطل-لتلك الحركة الرومانسية التي ستنتصر في أواخر القرن على صنعة بوب الكلاسيكية وواقعية فيلدنج العارمة.