عرض مشاركة واحدة
قديم 09-02-2010, 03:14 PM
المشاركة 9
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
غَزَلُ المتنبّي


أنطون سليم سعد


من العصبة الأندلسية

في الأقطار العربية نهضة مباركة تغمر قلوب المتأدبين بشعاع الاعتزاز، وهي تخليد ذكرى نوابغنا والتغني بمآثرهم، وليس أدل عليها من الاحتفالات التي أقيمت تذكارًا لانقضاء ألف عام على موت المتنبي. وما المتنبي سوى ذلك الشاعر العربي الفذ الذي استهوى النفوس وسحر العقول بسمو خياله، وجزالة ألفاظه، وروعة بيانه.

إن المتنبيذلك الغلام المطل من بين أطمار الفاقة والناشز في بادية "سماوة" لهو مفخرة العرب ومجدهم الخالد إذا ما فخرت أمم الأرض بنوابغها وفحول شعرائها، ففي كل بيت من قصائده الحكم المثلى المرتدية برود الفصاحة، والشافّة عن أرقّ المعاني وأجمل صور الخيال ما يقصر عنها الكثيرون من أكابر الشعراء الذين قبضوا على صولجان الشاعرية في العالم.
في كنوز أدب المتنبي نفائس لو عرضت في متاحف الأدب الغربي لكانت مدعاة لإجلال الأدب العربي وإحلاله المنزلة العليا، ولكن الأدب تبع للسيف وما ضعفت أمة وضيمت في عصبيتها إلا ضعف أدبها وانخفض شأنه.
لم يتناول الناقدون شاعرًا من شعراء العربية المبرزين تناولهم المتنبي، إلا أنهم صدفوا لأمر لا نعلمه عن درس ميوله وتحليل منازعه وما أحاط بتلك الشخصية الكبيرة من مفاعيل الحياة. على أنهم لو فعلوا لدخلوا منه في شعاب منبسطة الرحاب بعيدة المرامي ولأشرفوا على قمم من نفسه تكاد تناطح الجوزاء، وليس الذنب ذنبهم ولكنه ذنب الثقافة التي لم تنل منها العربية قسطها لا سيما وأن الذين تصدوا للمتنبي كانوا في عصر سادت فيه الصناعة اللفظية، وما يعرف اليوم بالعلم النفساني لم يكن له ثمت من أثر، لذلك نرى معظمهم كالقاضي أبي الحسن الجرجاني، وأبي الفتح عثمان بن جني، وأبي العلاء المعري، وأبي علي بن فوزجة البروجردي، من أكابر الأئمة والعلماء لم يجاوزوا في نقدهم مبنية واستعاراته ومصادر الاستقاء منها.

وإذا علمنا أن الحقد والحسد رانا على تلك الأقلام فلم تعن بغير الخفض من شأن الرجل والتنقص من كرامته بدا لنا وجه التقصير في درس شاعرية المتنبي وفنه، ولعله هو الذي أثار بتعاظمه وكبريائه حسد الحاسدين ونقمة الناقمين وقفل بيده باب التاريخ لمن أتى في هذا العصر يتخبط من حقيقته في ليلٍ دامس. يجمع المتنبي في شعره المدح والرثاء والفخر والهجاء والحماسة والحكمة والوصف والغزل، وقد أفاض في كل هذه الأبواب إلا الغزل فقد كان نصيبه يسيرًا من شعره، وإذا وقعت على ما يشوقك من رائع غزله وخالب تشبيبه فذلك إنه عادة الشعراء في ذلك العصر، ولعل إقلال المتنبي من الغزل وأعراضه عنه له صلة بخلقه، فقد كان مأثورًا عنه الزهد بالنساء والتحرُّم في الخمر، وفي الأبيات التالية دليل بيّن على ذلك. قال:

وغير فؤادي للغواني رمية وغير بناني للزجاج ركاب
تركنا لأطراف القنا كل شهرة فليس لنا إلا بهنَّ لعاب
أعزُّ مكان في الدنى سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب


وفي أبيات سواها قال:

تروق بني الدنيا عجائبهاولي فؤاد ببيض الهند لاببيضها مغرى


ولكن غزل المتنبي على قلته قد ازدان بدقة المعنى ولطف المبنى وجمال التصور ورقة الحس، وامتاز ببعده عن مواطن التبذل فبدا كالروضة الناضرة لا تأنف أية خريدة من أن تستأنس بشدو طيرها، وتستروح بأنفاس زهرها وريحانها.
لم يتكلف المتنبي الغزل بل جاءه عفوًا وفاضت به نفسه فيضانًا. قال وهو فتى:

أبلى الهوى أسفًا يوم النوى بدني وفرق الهجر بين الجفن والوسن
روح تردد في مثل الخلال إذا أطارت الريح عنه الثوب لم يبن
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل لولا مخاطبتي إياك لم ترني


ففي هذه الأبيات إغراقٌ في الخيال وإبداع في وصف النحول لم يسبقه إليه الشعراء الجاهليون والمخضرمون وعجز المولدون عن اللحاق به، وما صيغ على منواله إنما كان قبسًا من نوره، ووشلة من بحره.