عرض مشاركة واحدة
قديم 11-01-2014, 02:32 PM
المشاركة 1242
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع

والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 68- الدقلة في عراجينها البشير خريف تونس

- ولد البشير خريف بنفطة، دراسته مزدوجة بالخلدونية يعمل مدرساً وهو من ألمع أدباء تونس ورائد الفن الروائي فيها، كتاباته تنوعات شتى في معنى الحرية.

- يطرح الكاتب في هذه الرواية "الدقلة في عراجينها" مسألة الأرض كينبوع للمأساة الإجتماعية ويتبعها بطابع تسجيلي انتقادي بمعنى أن عديداً من الشرائح الاجتماعية تتعرض لاستغلال الإقطاع ومن هنا جاءت الرؤية الاجتماعية لدى الكاتب رهينة مفهوم الإطار الفكري المتكيء على الانتساب الحزبي والإيديولوجي الماركسي كمعين اشتهر ذلك الوقت، لحل المعضلات وتجاوز الأزمات وتذليل العراقيل والمعوقات، كما امتزج بخليط من المؤثرات الأجنبية وتتجلى لنا ملامح هذه الرؤية معاً كلما أوغلنا في عالمها الفسيح خطوة خطوة..والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 68- الدقلة في عراجينها البشير خريف تونس.

- تمتد حدود الزمان الحدثي في الرواية على مساحة زمنية واسعة جداً تتخللها ثغرات زمنية كثيرة مما يجعل عملية متابعة الخط الزمني تقريبية، يبدو مرة ساطعاً دقيقاً محدداً ويختفي مرات أخرى فلا يكاد يبين، ثم يقفز قفزات زمنية واسعة لا تذكر فيها أية أحداث ، ليأتي فجأة على أيام قليلة فيشحنها بالأحداث والوقائع الكثيرة وهكذا دواليك.

- فأحداث الرواية تنطلق في عيد المايّو أي الرابع عشر من شهر ماي وهو عيد قومي لفرنسا"1"، ومع هذا العيد يكون عمر العطراء، ثماني سنوات "2"، وتبدأ الوقائع مع هذه الاحتفالات منتقلة إلى فصل الصيف وفصل الخريف وفصل الشتاء وفصل الربيع، تدور مع الفصول، لتصل الوقائع إلى نهاية الرواية عندما يشير الراوي أن عمر العطراء بلغ الثامنة والعشرين "3"، وقد كان عمرها ثماني سنوات، أي تضاف مدة عشرين سنة مضافاً إليها زمن تقريبي عبر عنه الراوي "وبعد أشهر" أي من رجوع العطراء من العلاج في صفاقص قام الحفناوي وتزوج امرأة ثانية، واستمرت الأمور على هذه الحال حتى وضعت له المرأة الجديدة ولداً، "وانصرف يعجب بوليد وضعته امرأته الجديدة، قالوا إنه كفلقة البدر" "5" ثم مرضت العطراء وتوفيت "6" أي حوالي سنة تقريباً بما فيها فترة الحمل وأشهر الإنتظار، وهكذا يقدر الزمن الحدثي في الرواية بواحد وعشرين سنة تقريباً، بما فيه من ثغرات زمنية كثيرة، ويلاحظ أن الراوي يذكر تاريخ الاضراب الذي قام به العمال التونسيون في معمل الفوسفاط في المتلوي وبقيادة الدبنجق قائلاً: وقع الاضراب في نوفمبر ، مما يدفع إلى الإعتقاد أن الوقائع التاريخية لهذه الأحداث جرت في هذه الفترة بين الحربين العالميتين، حيث كانت فرنسا متواجدة في المغرب العربي بما فيه تونس.

- رغم أن الرواية كتبت في الستينيات "*" فهي تعالج أحداث تاريخية ماضية مما يجعلها نظرة نقدية متأخرة للواقع الإجتماعي التونسي، تنتشر هذه الوقائع على بساط مكاني محدد في بلاد الجريد، وهي آخر نقطة في الجنوب الغربي في تونس "8" وبالضبط في نفطة التي يسكنها البطلان المكي والعطراء، ثم قرية المتلوي "9" التي تبعد بثمانين كيلومتراً شمال نفطة، وبجوارها قرية فليب طوما "10" حيث مصنع الفوسفات "11" ثم إلى السجن "12" وإلى صفاقص "13"عولجت العطراء، ثم العودة إلى نقطة في نهاية الرواية .

- يتصدر دور البطولة في رواية الدقلة في عراجينها للبشير خريف، كل من المكي بن علي الزبيدي والعطراء بنت المولدي، في إثر خلاف بين خديجة أم المكي مع زوجها بخصوص شراء خلخال ذهبي لها، لطالما وعدها به، ولكنها اكتشفت أن الخلخال كان مغشوشاً، مما أدى إلى سوء علاقتها مع زوجها، فرجعت إلى بيت أخيها المولدي وأخبرت عبد الحفيظ أخاها الأكبر، الذي كان له خلاف مع علي الزبيدي الذي جاءه ليسترد زوجته ولكنه رفض، وهكذا سارت وضعيتها إلى الطلاق حتماً رغم أن خديجة ندمت ندماً شديداً، وأرادت في مرات متتالية أن تعود إلى زوجها، لكنها منحتْ أرضها إلى أخيها "حفة" ولذلك رفض علي الزبيدي، ومع ذلك لم تيأس وظلت تحاول الرجوع رغم أن الزبيدي تزوج بامرأة أخرى، وطوال هذه المدة بقي البطل المكي يزور أمه وأخواله كل خميس وجمعة، وكان يلتقي بابنة خاله المولدي، العطراء ويلعب معها الأرجوحة، ويلعب مع العربي، لكن لم تدم الحال وبسرعة غير متوقعة مرض المولدي فتوفى، وبعده بأيام قليلة وتحت وقع هذه الصدمة تتوفى زوجته تبرْ، وتترك أبناءها لرعاية خديجة.

- وينشأ المكي مع العطراء زمناً غير قصير تنمو فيه الذكريات وتزداد أواصر المحبة وثوقاً، و لا يستمر هذا الصفا، حتى يعاود الزمن بضرباته، ويحتد النزاع بين حفّة الذي يمنع أخته خديجة من الرجوع إلى بيت زوجها علي الزبيدي، ويرفع عليه قضايا في المحكمة ويخرج له المنفذ، لاحتجاز حقوق خديجة، لكن خديجة تريد الرجوع، ويسوء حالها فتصاب بمرض خطير وتتوفى، عندها يفترق شمل هذه الأسرة فيسافر المكي والعربي ينخرط في الجيش الفرنسي، أما المكي فينتقل إلى العمل في معمل الفوسفاط، في المتلوي في صفاقص، ويناضل هناك كثيراً مع زملائه العمال وينال رضى "لاكاز" و"بواسييه" مسؤولي المصنع، كما أعجب به العمال العرب وخاصة كبيرهم الدبنجق الذي وصف المكي بأنه مخ ومفكر بالنسبة لباقي العمال خصوصاً وأنه متعلم، وهكذا قام بالتعاون مع الدبنجق وعبد الناصر وآخرين بتعليم العمال القراءة والكتابة، وتوعيتهم بحقوقهم، وتجنيدهم في الإضراب الذي استمر أسبوعاً كاملاً كما وقعت مواجهات مع الفرنسيين خلفت كثيراً من الضحايا وسجن من سجن وفرّ من فرّ.

- ثم يمرض المكي ويطول به المرض فيفصل عن العمل ويرجع إلى بلده في نفطة، يتفق مع حفّة على زواجه من العطراء ولكن يموت في مرضه، فتتزوج العطراء مع الحفناوي ابن حفة، وبعد شهرين تمرض بضرسها فيأخذها إلى صفاقص للعلاج، وعند العودة يركبان القطار لكن مؤامرة تدبر لهما فينزل الحفناوي وينطلق القطار، فيصل إلى قفصة، ويبيت الحفناوي بعيداً عن زوجته، وهنا تأتي امرأة مومس اسمها غرسة فتأخذ معها العطراء وهي امرأة لم تخرج أبداً من قريتها، ولم تسافر، وبطرق شيطانية تحتم عليها ما ترفضه وينتهك جلول عرضها وفي الصباح يرجعونها إلى المحطة، فيصل زوجها، ويأخذها إلى بلده نفطة دون أن تبوح له بشيء، وكان ذلك سبب انحلال علاقتها مع زوجها الحفناوي فيتزوج عليها وتمرض فتموت.

- تنتقد الرواية موضوع ملكية الأرض وحب الاستيلاء عليها من طرف عبد الحفيظ، الذي يملك منها مساحات معتبرة، إلا أنه ظلّ يتطلع إلى أخذ المزيد منها من أصحابها الفلاحين، وهو ما حدث فعلاً عندما جاءت سنون عجاف فاشترى أراضي الفلاحين، المعوزين بثمن بخس، واستعان في عملية الشراء بأموال أخيه المولدي، الذي كان يرسلها له من المهجر، ولكنه في النهاية قيد كل شيء باسمه، وحرم أخاه من حقوقه فأصبحت شخصية عبد الحفيظ تمثل شخصية الإقطاعي في الرواية.

- لذلك اشتد النزاع بينه وبين صهره علي الزبيدي الذي يملك أراض مجاورة له خاصة عندما وقع خلاف بين خديجة وعلي الزبيدي زوجها، لأنه وعدها أن يشتري لها خلخالاً ذهبياً، وهكذا استغل عبد الحفيظ هذا الموقف لتوسيع أراضيه أكثر، بحصوله على نصيب أخته خديجة، ورفض أن يرجعها إلى علي الزبيدي، لكن خديجة ندمت كثيراً على هذا الخلاف الذي استغله عبد الحفيظ، وحاولت طول حياتها الرجوع إلى زوجها لكن عبد الحفيظ أخذ منها أرضها، ولذلك رفض علي الزبيدي ارجاعها بدون أرض، وتزوج بامرأة ثانية وقام عبد الحفيظ بتعقيد الموقف بشكل نهائي، فرفع قضايا في المحكمة ضد علي الزبيدي باسم خديجة وهي رافضة، وتمرض خديجة مرضها الأخير وتدعو بالانتقام من عبد الحفيظ وتتوفى، ومع وفاتها ترجع حقوق الأراضي إلى علي الزبيدي بسبب أبنائها، ولا تتوقف خصومة الأرض عند مأساة خديجة مع زوجها علي الزبيدي، بل تصبح المأساة متوارثة مع إرث الأرض، فعندما يقوم بطل الرواية المكي في نهاية مشواره الذي مرض فيه بخطبة العطراء ابنة خاله المولدي، التي كان يحبها وكانت تحبه ويضغط عليه عبد الحفيظ بأن يتنازل عن خصومة الأرض مقابل زواجه بالعطراء فيوافق ولكن طرفاً آخر يجدد النزاع وهو العروسي أخوه من أبيه، الذي يرفض زواجه من العطراء، مخافة أن يتوفى وهو مريض فترث العطراء من أرضه وتصير في صف عائلة عبد الحفيظ، ويجتهد في بث المشاكل، ونشر العراقيل لأخيه المكي حتى يحول الموت بينه وبين زواجه من حبيبته.

- إن هذه النقاط المرجعية في الرواية ترتبط جميعاً بفكرة الصراع سواء من أجل الأرض وتوسيع الملكية كما يفعل عبد الحفيظ أو من أجل الحق والعدالة، حينما يدافع العمال عن حقوقهم، والمطالبة بالزيادة في الأجور والمساواة مع العمال الفرنسيين، الذين يشتغلون معهم في معمل الفوسفاط في الأجور والحقوق،

- ومهما يكن الصراع وصوره وأشكاله فهو ضد الظلم، سواء كان هذا الظلم من كبار ملاك الأراضي مثل عبد الحفيظ الذي أخذ أراضي الفلاحين المعوزين، فانتقلوا إلى معمل الفوسفاط، ليواجهوا ظلماً جديداً في عدم المساواة وهضم الحقوق والمس بالكرامة الإنسانية، فكأن الرواية أرادت أن تسوي بين كبير ملاك الأراضي والقوة الإستعمارية فكلاهما يأخذ الأرض ويمارس الظلم، ومن ثم وجب انتقادهما معاً على حد سواء، إلا أننا نلاحظ أن شخصية العربي أخا العطراء وصديق البطل المكي، يأتي من التجنيد في نهاية الرواية فيجد المكي قد توفى دون أن يتزوج بالعطراء وهي حلم حياته، فيكشف ما يسميه مكائد الشيوخ أو مذهب الشيوخ، وهكذا يحتفظ عبد الحفيظ بالعطراء لابنه الحفناوي ولا يظهر هذا الأمر إلا فجأة عندما يتوفى المكي مريضاً، لكن لا يسعد بها عندما تقوم العطراء فتنتقم لنفسها ولحبيبها وعلى طريقتها هي خلال سفرها إلى صفاقص.

-تندرج رواية "الدقلة في عراجينها" للبشير خريف ضمن الرؤية غير المحدودة، وفي نمط الرؤية التي يمتلك فيها الراوي جميع فرص القص باعتباره أكبر من الشخصية في العلم

- فالراوي يروي هنا بصيغة ضمير الغائب المفرد عن البطل المكي وباقي الشخوص الروائية، فهذه العطراء تستيقظ من النوم يروي عنها الراوي بصيغة ضمير الغائب "العطراء"، العطراء، خرجت بنية في الثامنة من عمرها، ما تزال في بذلة نومها، تُميلُ رأسها وتعشش عينيها لتبصر بابن عمتها" "26".

- ويقرأ الراوي ما يدور في نفس خديجة من تساؤلات وحيرة بعد طلاقها ومحاولتها الرجوع إلى زوجها علي الزبيدي، وخوفها من أخيها عبد الحفيظ الذي يرفض ارجاعها "بقيت تتساءل" لعل الحق معه؟ فنظره خير من نظرها، له الفضل والشكر لم تجد في نفسها أية ثقة، لو يتركها، وقد فارقها زوجها، ومات أخوها الصديق، فهل تقدر على المسك بزمام مصيرها؟ ألا تذهب حياتها أدراج الرياح؟...."27" فالراوي يسرد الأحداث بصيغة الضمير المفرد الغائب، ويقرأ ما في نفس الشخوص من تساؤلات لا تصرح بها، وهذا يمثل إحاطة الراوي الذي أصبح عالماً بما يخص الشخوص ويتعلق بها.

- يستعمل الراوي تقنية التهيئة لما سيحدث من أحداث سعيدة أو غيرها ويمهد لحصولها، فهذه العطراء تنظر إلى طائر صغير في السماء وتسأله عن حبيبها المكي الذي رحل ولم يعد، فكأنها تتنبأ بعدم رجوع حبيبها إليها، وهو ما يحدث بالفعل في باقي أحداث الرواية، تغني العطراء أغنية رائعة في ذلك الزمان.

- ومعلوم أن العطراء لا تلتقي بعد ذلك بحبيبها المكي إلا خفية في الليل عندما يتسلق جدار ممنزلها وتقدم له السلم للنزول، لأن عبد الحفيظ كان يرفض أي لقاء بينهما رغم أن المكي خطبها من أخيها العربي، ووظف الراوي التلميح لما سيحدث إلى جانب التنبؤ عندما توفى المولدي وتبر، وتركا أبناءهما العطراء ، والعربي في رعاية خديجة إلى جانب ولدها المكي.

- تهدد خديجة ولدها الوحيد المكي أنها ستموت إن تمادى في احتكارها على حساب العطراء وبالفعل لا تعيش هذه الشخصية أحداثاً كثيرة إذ قارب دورها على النهاية، حتى تمرض فجأة وتموت "وهددته إن هو تمادى على احتكارها، تموت هي أيضاً فتلتحق بالمولدي وتبر هناك في الصورة فيبقى حقيقة بلا أم.... فلقد رأت الموت يعمل وجاش قلبها إشفاقاً وحناناً."29"

- كما اتخذ السرد وسيلة جديدة للتلميح لما سيحدث من وقائع في الرواية، وهي الدعاء فبعد وفاة المكي وزواج العطراء من الحفناوي تدعو الله أن يمكنها من زيارة المدينة والتفرج عليها وعلى العباد فيها "ناجت ربها، ربّ يقولون إنك على كل شيء قدير، وأنا نؤمن بهذا، رب انظر لمخلوقتك العطراء نطلب المستحيل وما هو ما فش المستحيل في حقك، رب مخلوقتك العطراء، ع نطلبك تطلب مشية للمدينة أيه مشية هكاكه نشوف ونتفرج على العباد وعلى الدنيا... فقد استمع الله إليها."30".

- ويتخذ السرد شكل التقرير، حيث يقرر الراوي معلومات لا تناقش بخصوص مسألة ما، يقرر الراوي الصفة التي تكون عليها علاقة المرأة بالرجل فيقول: "والمرأة من ناحيتها تعيش مع زوجها عيشة الريبة وعدم الإطمئنان، عيشة عدو مغلوب، فلاتدع فرصة إلا سرقته ولا غفلة إلا سحرته، ولا مناسبة إلا أضعفته لكي لا يتخذ عليها ضرة"31" وأورد الراوي تقنية الحلم في السرد ليضفي عليه جانباً مأساوياً وليلمح لما سيقع من أحداث، ينام المكي فيرى أمه خديجة في الحلم تبتسم له وتصلح بينه وبين العطراء، رغم أن خاله حفّة طرده من البيت، "وضع رأسه على حجر ونام. رأى أمه كأحسن ماعرفها صحة وابتساماً وطيبة، تصلح بينه وبين العطراء، وجد نفسه يشكو وهي تهدهده وتضحك من جزعه حتى فهم أن المسألة لا تستدعي كل هذا فاستحى مما به، انتبه فسقط في واقعه"32". واستخدم الراوي تقنية استبدال القص أو التواتر في القص بحيث يحكي عن موضوعين بالتناوب، وهكذا يحكي عن وقائع ليلة العطراء"33" ثم يوقف القص ويحكي عن وقائع أخرى هي زواج الحفناوي بامرأة أخرى "34"، ثم يرجع إلى إكمال تفاصيل ليلة العطراء "35" وهكذا.

- يلاحظ قلة مساحات الحوار بالنسبة لمساحات السرد الطويلة، التي طغت على معظم أجزاء الرواية، وحتى في فقرات الحوار القليلة تحاصرها التعاليق وتعقبها التفاسير المطولة، فأثناء الإضراب الذي يقوم به العمال في معمل الفوسفاط، تجري تساؤلات عن الجحشة التي قاطعت الاضراب يقول الراوي: أصبحت القرية في موكب مشطور خرج العملة للأخبار مهتاجي العواطف متوتري الأعصاب، السوق حافل كأنه الموسم، الأخير

- طرق الأنفاق خالية، والقطار الذي ينقل العملة إلى الوصيف ينفخ وحده " "36"، فالحوار يجري بين أشخاص مجهولة من العمال ، وهو موجه إلى السامع، ولا يتوقف السرد عن أن يكون خلفية أساسية، يبنى عليها الحوار، ليكون هو الغالب في مساحة الرواية برمتها، وتأتي فقرات الحوار ثانوية فيها، ويأتي الراوي عنصراً ثالثاً في الحوار بما يقدمه من شروح وتعاليق.

- وهناك الحوار الداخلي أي المونولوج الذي يجريه البطل المكي مع نفسه بعد عشائه عند "لادت عبد القادر " وحديثه المطول مع خضراء وكانت متحجبة فإذا المكي يحاور نفسه، ويقارن بين الخضراء والعطراء وأرليت الإيطالية يقول مخاطباً نفسه: "الحمد لله هذا الوجه الذي تقتصدين في ابدائه، فعليك الأمان لو تبدين عارية من رأسك إلى أخمص رجليك، فإن لي دونك منشعلاً، تعلمين بعضه فما قولك في العطراء؟ تلك في البلد وأما هنا يا ليتك ترين أرليت، إذن فلا تتوهمين أن شفتك المرفوعة خطراً علي."37".

- وزين الراوي الحوار بأبيات من الشعر الشعبي باللسان الدارج، فعندما يسهر العمال في الكوخ يصيح سليمان أن هذه الليلة مبروكة وهم كلهم يتراقصون، "-أو الله ليلة مبروكة هذه: نظر إليهم الدبنجق وطرشق تصفيقة وركز قدمه ورفع رأسه وترنم.
خرج القوم غناء وتصفيقاً ورقصاً على رجل واحدة كمثل الرقص الروسي..

- يسجل أن الراوي استعمل اللغة الدارجة كما لاحظنا وعلى نطاق واسع مما ترك آثار المحلية وطابع البيئة الواقعي واضحاً، وجاء الحوار في عمومه موجهاً إلى السامع وليس إلى المشاهد.

- يسجل أن الراوي استخدم أنواع من الوصف منها الإيحاء عن طريق الوصف التشبيهي، فيصف شيئاً ثم يشير إلى وصف وقائع تشبهه، حيث يصف الراوي علاقة ثنائي من الحمام يتبادلان الحب ثم يصف المكي والعطراء يتحدثان منفردين بينما المكي يصفف لها شعرها"

- فكأن الراوي يوحي لنا بأن زوج الحمام يتساقى الحب، مثلما يفعل البطل المكي مع العطراء إذ يرتب لها شعرها ويحادثها، فتعدت علاقة الوصف من رسم لوحات فنية ومشاهد مثيرة إلى تشبيه لوحة بلوحة ومشهد بمشهد عن طريق الإيحاء والتلميح.

- ويقدم لنا الوصف للأشياء لوحات جميلة إنه وصف للمدرسة الفرنسية، وما توحيه هذه اللوحة من مؤثرات أجنبية وشدة انضباط وجمال المدرسة بمرافقها، وكان المكي تعلم القرآن في الجامع حتى أصبح قادراً على إقامة صلاة التراويح بالمصلين في رمضان، وها هو يدخل الآن هذه المدرسة الفرنسية يقول الراوي:"أرض ساحة الكوليج حصباء دقيقة، وجدرانها نظيفة البناء، مستقيمة الأركان، ملساء يكسوها نبات متسلق، تعج بالتلاميذ، وفي وسط الساحة السادة المعلمون يحيطون بالمسيو لافو مدير المكتب"40"

- ولما دخل المكي القسم الدراسي انبهر به وأحب اللغة الفرنسية، وأصبح غالب كلامه بها" أراه مقعداً، فجلس وكتّف يديه، ينظر إلى النوافذ والصور التي بينها ويتصور نفسه في المتلوي، بلد الحضارة، ولما عاد منه، يومه الأول صاح من السقيفة:" مانج لادات، أي أكل التمر، وأصبح غالباً كلامه بالفرنسية "41" فالمدرسة الفرنسية ضمنت جمالها ودقة بنائها ونظامها في اللوحة الفنية، كما ضمنت تأثيرها المتغلغل في النفوس حيث أصبح المكي يدير غالب كلامه باللغة الفرنسية بعد رجوعه إلى بلدته نفطة.

- يقدم لنا الراوي وصفاً دقيقاً لعمليات تصفية معدن الفوسفاط وإعداده للصناعة، يتفرج عليها المكي والعربي بعد أن سمح لهم مسؤول المصنع بذلك، يتفرجان على معدن الفوسفاط وهو يصل إلى المصنع وكيف يعالج "يؤتى به في عربات على السكة بعد اقتلاعه من الجبل مخلوطاً بالتربة والحجارة، فينكب في قمعٍ واسع يسميه العملة "الدريبة " ثم تحمله سلسلة من القواديس تصبه قليلاً قليلاً بين عجلتين تسحقانه وتسلمانه ناعماً إلى البساط الساري، فيحمله ويسكبه في غربال هناك يبخ عليه من فوهتين تيار ماء فيغسله، فينزل الوسخ والحصال إلى أسفل، ويدفع بالفوسفاط صافياً في ثقب الغربال فيقع في البساط فينزل به إلى حيث تقطر عليه عقاقير كيميائية، كمثل القطران ويخضه لولب حتى يختلط بالسواء وتستمر رحلته إلى برمة في حجم أربع قاطرات يسمونها" الحماصة" يتقد في جوفها أتون تبلغ حرارته ثمانمائة درجة قد أبيض جمره الحجري وتراقصت فيه زيقات تأخذ بالبصر، فيجف، ثم يصعد به البساط إلى مستودع فيتكوم جبلاً سحابي اللون ناعماً وتمر من تحته العربات فارغة"42".ويسجل أن الوصف الذي اختلط مع السرد رسم لوحات رائعة، زينت ثنايا الرواية، وأعطتها نكهة خاصة ومذاقاً عذباً، ينقل الواقع بكل فعالياته وطبيعته، ونقل لنا الوصف المؤثرات الغربية على البيئة العربية التونسية وما خلفته من "كوليج" أي مدرسة ومعمل عصري للفوسفاط تتبع الوصف عمليات تحويل المعدن فيه.