عرض مشاركة واحدة
قديم 05-24-2012, 10:26 PM
المشاركة 674
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي

د. أحمد إبراهيم الفقيه

سيمضى وقت طويل ، ان كان في العمر بقية ، لتقع عيناي على كاتب له شفافية واخلاص وأمانة ونزاهة وصدق كاتب مثل خليفة حسين مصطفي ، ولا أبالغ إذا قلت انه مثال نادر الوجود في عصر التكالب على ماديات الحياة وضغوط الظروف الاقتصادية القاسية التي يعيشها أدباء الوطن العربي ، حيث لا إمكانية لان يعيش الكاتب مما يدره عليه إنتاجه الأدبي ، حتى لو كان هذا الكاتب هو العربي الأول الحائز على جائزة نوبل مثل الراحل نجيب محفوظ ، الذي أمضى في الوظيفة عمره كاملا حتى حان موعد إحالته على المعاش ، فما بالك من شاء حظه ان يولد ويتربي في أرياف الوطن العربي الأدبية ، حيث لا اعتراف من المجتمع حتى بوجود مهنة الكاتب أصلا ، ولكن خليفة حسين مصطفى اختار الطريق الوعر الذي لا يقدر على المشي فيه إلا رجال أشبه بالقديسين وأولياء الله الصالحين ،
اختار ان يعيش ناسكا في محراب الأدب ، يصرف جهده له ، معطيا ظهره لكل ما تضج به الحياة العصرية من الضغوط والالتزامات والمطالب، يعيش على الكفاف ، زاهدا متقشفا فقيرا، لا يداهن ولا يصانع ولا يبتذل نفسه ولا يرضى أن يَخْدِش شرف مهنة القلم التي اختارها واختارته ليكون مُتعبّدا في معبدها ، وراهبا من رهبانها ، وسادنا من سدنتها لا يغمض له جفن وهو يحرس موقع القداسة لديه كي لا تتسلل إليه قيمة هجينة ، يغزل من خيوط أنوار الصباح المتسلل عبر النوافذ والشرفات أثواب كائناته الشفافة ، ويزرع في أُصص الورد والزهور أجمل زهرات الإبداع لتكون هذه الحلل البهية وهذه الكائنات الشفافة وهذه الزهور العابقة بأزكى عبير ، هي العطاء السمح الكريم الجميل الذي يقدمه لأبناء وطنه وأبناء ثقافته من قُرّاء اللغة العربية .
لقد جاء للحركة الأدبية العربية في ليبيا ليجد العطاء شحيحا والرصيد قليلا ، بل هناك أركان في حديقة الأدب أهملها من جاء قبله ، فلم يكن قبل ما أبدعه خليفة حسين مصطفى عطاء يذكر في مجال الرواية ، فكان هو الرائد الذي جاء إلى هذه الأرض العذراء، فعزق بريشة الإبداع أرضها وسمّد بحبر دواته تربتها , وروى بعرق جبينه الخلاّق الشتلات التي غرسها بيدي موهبته والتزامه وصبره وقوة عزيمته لتصبح أشجارا سامقة تعانق الأفق وهي مجموعة الرويات التي كانت أعمالا رائدة وضعت بلاده على خريطة هذا اللون الإبداعي ، ليجد من يأتي بعده ، الأرض قد تمهدت وارتوت وتسمّدت فيغرس ويجني ثمار الجهد والعرق الذي بذله المرحوم خليفة حسين مصطفي .
رحيل خليفة حسين مصطفى بالنسبة لي رحيل لا مجال لتعويضه ، فهو واحد من رفاق العمر، تعرفت عليه منذ مطلع حياته الأدبية عندما جاء إلى مجلة الرواد في الستينيات لينشر أولى قصصه القصيرة ، وفي مطلع السبعينيات ترك مهنة التدريس وانتقل لنعمل معا في صحيفة الأسبوع الثقافي التي أنشأتها وعملت رئيس تحرير لها مع فريق من الأدباء على رأسهم خليفة حسين الذي تفرّغ تفرغا كاملا للعمل في هذه الصحيفة الثقافية ، يحمل قلمه النزيه ، وأسلوبه الجميل ، ونفسه العامرة بالصدق والمحبة ، ليواكب إبداع المبدعين بالنقد والتعليق ، ويتابع المشهد الثقافي الليبي والعربي بمثابرة واجتهاد وإخلاص في سبيل أداء هذه الأمانة ، دون أن يتخلّى بطبيعة الحال عن مجاله الإبداعي ، حيث بدأ ، كما بدأنا جميعا بكتابة القصة القصيرة ، وكان خليفة حسين مصطفى فارسا من فرسان هذا اللون الأدبي ، يكاد يضاهي أعظم مبدعيه في العالم ، ولعلني لم انتبه لقوة وروعة وإبداع هذا الكاتب المتميز ، وأخذته في البداية على محمل انه كاتب جديد واعد ، إلا بعد ان قرأت قصة مذهلة له ، جعلها فيما بعد عنوان مجموعة قصصية هي توقيعات على اللحم ، الحقيقة أذهلتني هذه القصة ، التي كانت نسيج وحده فيما قرأته من قصص ، الأسلوب المتدفق العامر بالشعر وروح الخيال والفانتازيا ، المثقل بالرموز والإيحاءات والعوالم السحرية ، التي تتعامل مع واقع فج ، ركيك ، وربما مبتذل لا سحر فيه ولكن قوة الإبداع رفعت ذلك الواقع البائس التعيس إلى مستوى الأسطورة وحلقت به في عوالم سحرية ، وجسدته حلما وأسطورة وواقعا ومأساة ومهزلة في ذات الوقت ، لا أدري كيف ولكن خليفة حسين بأسلوب مذهل ، جديد ، طازج فعلها ، ومع عجائيبية عوالم القصة وغرائبيتها ولحم المومس التي تتوسط عالمها، والرجل يأتي للتوقيع على لحمها تجد نفسك مرغما تتوحد وتتماهي مع ذلك العبود من الطين البائس الذي يتجول فوق صفحات القصة ، ترى فيه نفسك، بل لا تري فيه نفسك فقط ، ولكن ترى فيه ذلك الجزء العميق ، الساكن في الأغوار البعيدة ملتحفا بالظلام مختبئا تحت طحالب البحيرات والمستنقعات الموجودة في عوالم العقل الباطن ، قصة مذهلة لا يكتبها إلا قلم نابغة من نوابغ الكتابة القصصية ، وكانت تلك ربما أول قصة أسعى لترجمتها لأني كرهت ألا يقرأها العالم كله وكان لابد فيما بعد أن أسعى لترجمة قصص أخرى لأكمل بها مجموعة نشرتها ملحقا لمجلة أدبية ثم كتابا ، وكل ذلك كان بدافع حبي لتك الجوهرة القصصية التي أظهرت لي منذ تلك السنوات المبكرة في مطلع السبعينيات أنّ خليفة حسين مصطفى موهبة خارج إطار المواهب والكتاب الذين تحفل بهم الحياة الأدبية في كل أركان العالم ، وهم الذين يصنعون الضجيج ، ويشغلون المطابع ويُزاحمون بإنتاجهم الأسواق ويملأون بكتبهم أرفف المكتبات ، أما هذا القليل النادر من النابغين والعباقرة ، فهم من يبقى بعد أن يتراجع هذا الضجيج وينتهي هذا الزحام ونظرة إلى تاريخ الأدب في العالم تستطيع أن تؤكد لنا هذه الحقيقة، ولنترك الأدب العربي جانبا ، ولنضرب مثلا بأدب مثل الأدب الايطالي ، فكم كاتب تستوعبه ذاكرة القارئ الأجنبي من أمثالنا ، من جاليليو إلى مورافيا ، حتى بالنسبة لمتابع لمثل هذا الأدب من أمثال الأستاذ التليسي ، لا اعتقد انه سيذكر أكثر من عشرة أسماء على مدى عشرين قرنا سيكون من بينهم مثلا دانتي وبيرانديللو و اونغاريتي ، وإذا أدخلنا مورافيا وداريو فو وأمبرتو ايكو فبسبب المعاصرة ، وهذا ما يمكن ان نقوله عن أسماء نعرفها في الأدب الروسي أو الانجليزي أو الفرنسي أو الاسباني ، أذن فالنبوغ في الأدب شيء آخر غير التواجد في المشهد الثقافي كاتبا تنتج القصص أو الأشعار أو المسرحيات أو كتب النقد ، اعتقد جازما أن خليفة حسين واحد من هؤلاء النوابغ ، وعملا بما يقوله الشاعر الذي بقى مسافرا في الزمن العربي بعد أن سقط كثيرون آخرون وهو أبو الطيب المتنبي في بيت من أبياته عن النهايات التي تصل إليها الأشياء وهو وللسيوف كما للناس آجال
فقد انتهت المدة التي كتبها الله لصحيفتنا الثقافية الأسبوع الثقافي ، وذهبنا نبحث عن فضاءات أخرى تستوعب مواهبنا وأفكارنا ونهرب إليها بأعمارنا ، فكان موسم الرحيل إلى واحدة من عواصم الشمال ، التي ذهبت اليها موفدا من الإعلام مستشارا إعلاميا ، وكانت سعادتي كبيرة عندما وجدت الصديق خليفة حسين بجرأة وشجاعة يلحق بي إلى ذلك الوطن ، لأنه رأي وهو يتحرر من التزامات العمل في الأسبوع الثقافي ، فرصة لاستكمال جانب في ثقافته هو معرفته باللغة الانجليزية ، التي لم يكن يعرف غير مبادئها ، وهي مبادئ لا تسعفه بالقراءة والحوارات الأدبية فجاء بأمل ان يتعلم هذه اللغة باحثا عن عمل لتمويل إقامته في العاصمة البريطانية ، وحيث انه كان صاحب خبرة في التعليم ، فلم يمض طويل وقت حتى وجد عملا في مدرسة أنشأها الليبيون وأسموها مدرسة عمر المختار ، تحت إشراف السفارة ، وتجاورنا في الإقامة في حي واحد ، والعمل في مكانين كلاهما في ظل السفارة في ذلك الوقت ، ولست بحاجة لان أقول ان وجود زميل مثله معي ، في تلك المدينة الباردة ، كان نسمة دفء تجعل البقاء هناك اقل ضجرا وأكثر بهاء ، وكان عوني وأنا أقيم جمعية خيرية للأدب كان هو واحدا من الأمناء فيها ومجلة لتقديم مختارات أدبية كان هو من يدعمني بالمشورة والنصيحة ، وكان أكثر من هذا وذاك قلبا عطوفا حنينا رحيما ، وشخصا له خفة الأطياف ، مهما صعبت ظروفه أو تراكمت العراقيل أمامه ، لا تسمع منه نامة تشي بذلك ولا تبدر منه حركة ولا تصدر اهة يمكن ان تسبب لك كدرا ، أو يرى فيها عبئا عليك ، واعتقد انه أثناء إقامته في لندن الذي ربما طالت لما يقرب من أربعة أعوام ، إن صدقت الذاكرة ، رأى ان الرواية هي مستقبل الأدب، ورغم اننا كنا نقدم أنفسنا باعتبارنا كتاب قصة قصيرة ، فلم نجد أو نسمع بين من رأيناهم من مبدعين ، بريطانيين أو غير بريطانيين ، من يسمي نفسه كاتب قصة قصيرة ، السائد لديهم والمتعارف عليه هو الروائي فلان ، هذا هو اللقب الذي يسبق كتاب الإبداع الأدبي حتى لو كان عطاؤهم الأكثر في القصة القصيرة فالاعتداد كان بالرواية ، واعتقد ان هذا هو ما جعله ومنذ الأشهر الأولى لرجوعه إلى ليبيا يعكف على كتابة الرواية بادئا بالمطر وخيول الطين ،ثم عين الشمس و جرح الوردة ، وتوالى بعد ذلك إنتاجه الذي رآه بعض النقاد متأثرا تأثرا كبيرا بالشكل الذي قضى دهرا يكتبه وهو القصة القصيرة ، ولكنه سرعان ما تخلص من آثار تلك المرحلة في كتاباته الروائية ، وانطلق في رحاب الرواية ذات النفس الملحمي فكتب رواياته ذات الإحجام الكبيرة والعوالم الزاخرة بالأحداث والشخصيات مثل الجريمة و ليالي نجمة وروايته الأخيرة الأرامل والولى الأخير ودون ان يتخلى عن كتابة نوعين من الأدب الإبداعي أولهما القصة القصيرة التي واصل فتوحاته فيها وتقديم انجازاته المتميزة من خلالها ، ثم مسرحياته التي وصل بعضها إلى تقديمه على خشبة المسرح المسرحيات التي تحمل طابع المفارقة والمعالجة الدرامية الساخرة ، ليصنع رصيدا في هذه المجالات ويحقق إضافات متميزة لا يضاهيه فيها أحد آخر ، ويصبح رمزا من رموز النهضة الأدبية الحديثة في بلادنا وصوتا من أصواتها القوية ، ولا أرى موته الذي جاء بعد معاناة مع المرض الخبيث ، إلا ولادة جديدة لهذا المبدع الكبير الذي يصدق فيه قول الصوفي الزروق الذي أورده الدكتور على خشيم في كتابه الزروق والزروقية اوما معناه، نحن قوم لا يفوح مسكنا إلا بعد ان تذوب في التراب عظامنا. نعم هو ميلاد جديد لكاتب اكتمل مشروعه ، وانتهت صلته بأرض المعارك والأحقاد والتنافس المريض أحيانا ، وصار الآن اسما مرسوما في سجل الخلود الذي يضم أسلافه الأدباء الذين التحق بهم في الدار الآخرة ، سيبقى أدبه يسجل شيئا من تاريخ هذه الأرض وأهلها مانحا صوتا لنضالاتهم ومكابداتهم ، مسلطا الضوء على واقع تاريخي صارت تغمره الآن مياه الزمان ، لكنه أنقذ في أعماله القصصية والمسرحية والرواية هذه العوالم من الغرق وأبقاها محفوظة لأجيال ستأتي في قادم العصور وتقرا عبر سطوره هـذا الواقـع وتتعــرف على هـذا التــاريخ .
الآن ونحن نقول وداعا لصديقنا وعزيزنا وزميلنا المبدع الكبير خليفة حسين مصطفى ، لابد ، ان ننتبه أيضا إلى درس تركه لنا ، وحياة تصلح ان تكون نبراسا للجيل الصاعد ، في غياب المثل والقدوة ، وسط واقع سادت فيه القيم الهجينة ، وصارت فيه الفهلوة والشطارة والأكاذيب هي سيدة الوقف ، انه في النهاية لا يصح إلا الصحيح ، وان الإنسان الذي يغادر هذه الدنيا لا يستطيع أن يأخذ معه إلى هناك شيئا من الأموال التي اكتنزها أو الوظائف التي استولى عليها أو الجاه الكاذب الذي حققه بالتزوير والتزييف ، لن يأخذ إلا ما منحه للحياة من خير وما قدمه للناس من عطاء وإبداع سيكافئه عليه خالق الكون جل جلاله مصداقا لقوله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} . نعم يترك خليفة حسين مصطفي بجوار أعماله الأدبية المثل والقدوة وقيم الحق والخير والنزاهة والأمانة ، والتعفف عن الصغائر، ورفض التكالب على مطابع الحياة ومكاسبها الزائلة ، ليهب حياته للإبداع ، فللإبداع عاش وفيه أفنى عمره وحقق من خلاله فتوحات أدبية لم يسبقها إليه احد في التاريخ الأدبي لهذا القطر العربي . وإذا كان لابد أن نقول شيئا في ختام هذه الكلمة الحزينة فهي ان هذا الكاتب الذي عاش يكتب في صمت ودأب لابد أن يلحقه شيء من الإنصاف بإعادة نشر أعماله ، والعناية بأسرته الصغيرة التي بقيت دون عائل ، وتكريمه بتسمية أحد الشوارع باسمه وإقامة مؤتمر يسلط الأضواء على مشروعه الأدبي بعد أن وصل هذا المشروع إلى تمام نضجه واكتمل بوفاة صاحبه.