الموضوع
:
هل تولد الحياة من رحم الموت؟؟؟ دراسة بحثية
عرض مشاركة واحدة
08-26-2010, 04:14 PM
المشاركة
271
ايوب صابر
مراقب عام سابقا
اوسمتي
مجموع الاوسمة
: 4
تاريخ الإنضمام :
Sep 2009
رقم العضوية :
7857
المشاركات:
12,768
ادو
نيس
في حوار مع "الحياة" ... أدونيس: تركت العائلة مراهقاً وانتمائي الى الحزب القومي أخرجني من العشيرة
السبت, 20 مارس 2010
بيروت - عبده وازن
الحوار مع أدونيس حوار فيه الكثير من المتعة. هذا الشاعر الكبير
الذي خضعت له مَلَكة الكلمة يجيد فن الحوار، حتى وإن كان أحياناً في موقع المساءلة
.
يتحدث بعفوية وطلاقة تخفيان في صميمهما الكثير من البداهة والثقافة العالية
والمعرفة والخبرة والمراس الصعب. فهذا الشاعر لم يبق ممكناً حصره داخل تخوم الشعر
والقصيدة، فهو مفكر أيضاً، صديق الفلسفة، ومثقف ذو هموم متعددة، يسائل ويشك ويثور
ويتمرّد... ولا يهادن. هذا الشاعر الذي يختصر عصراً بكامله، بأسئلته الشائكة
وشواغله وأزماته وتحولاته، هو ظاهرة نادراً ما شهدت الثقافة العربية والأدب العربي
ما يماثلها. ظاهرة يلتقي فيها الشعر والفكر والنقد والشك الذي هو اليقين
بعينه
.
هنا الحلقة الأولى من «الحوار» مع أدونيس
.
>
من الشخص
الأول الذي ترك أثراً في حياتك؟
-
والدي
!
>
كيف تتذكر
والدك؟
-
كان تأثيره يفعل بصمت، ودون وعيٍ منّي. وعي حقيقي. هكذا لم اكتشف
هذا التأثير إلا بعد موته. ومات في الستينات من عمره، بشكل مفاجئ في عام 1951، في
حادث سيارة احتراقاً مع جميع ركابها. هذا الموت أنشأ بيننا علاقة جديدة، قوامُها
الذكرى
.
صرت أستعيد حياتي في ظله، قبل موته، في البيت، في القرية، في الحياة
العامة. صرت أتذكر هذا كله، وأشعر فيما أتذكر أنه لم يكن أباً، بقدر ما كان صديقاً
.
ومن جديد، أخذت أتعرف إليه، بوساطة التذكّر، لا سيما كيف كان يعاملني وأنا
طفل
.
>
الى أي طبقة كان ينتمي والدك؟
-
الطبقة ما دون الوسطى، إن
صح أن نستخدم هنا كلمة «طبقة». يمكن أن تنطبق عليه كلمة «فلاّح» أو
«مزارع»، مع أنه
كان لدينا عامل يُسمى في القرية «مرابع» – يأخذ ربع ما يجنيه من الأرض التي يحرثها
ويزرعها ويحصدها، أو من الأشجار المثمرة التي يقطفها، وبخاصة الزيتون. ولم تكن
لدينا أرض كثيرة تستحق أن يشرف عليها «مرابع». إنما كان لأبي وضع معنويّ كبير
ومتميز، بسبب علمه وكرمه. فقد شُيّخ، مثلاً، مع أنه لا ينحدر من عائلة شيوخ. شيّخ
تكريماً وتقديراً. هذا الوضع هو الذي استدعى أن ينوبَ عنه عاملٌ للعناية بما كان
يملكه، على قِلّته
.
أذكر أنه لم يكن يفرض عليّ شيئاً. كان يترك لي حرية
التصرف إلا في ما يتعلّق بالحرص على التعلم. ولم تكن عندنا آنذاك مدرسة. كنت أذهب
الى «الكُتّاب»، نهاراً، وفي المساء كان هو نفسه يعلّمني قراءة الشعر العربي،
ويحاول أن يجعلني، في الوقت نفسه، أحفظ القرآن عن ظهر قلب
.
>
هل كنت ابنه
شبه المدلل؟
-
كنت ابنه البكر. غير أنه كان يهتم كثيراً بإخوتي: محمد، وحسن
وحسين وليلى وفاطمة التي كانت طفلة عندما توفي. في هذا كله، أكتشف الآن مدى تفتّحه،
وصداقته. وكيف كان يحرص على تربيتنا، منمّياً فينا روح الحرية
والاستقلال
.
كان يأخذني معه في بعض زياراته الى أصدقائه خارج قريتنا، في
قرىً أخرى مجاورة أو بعيدة. ويقدّمني إليهم بشيء من الفخر والزهو
.
غير أنه،
كما أتذكر الآن، كان يشعر بالمرارة عند كان يرى بعض أصدقائه يرسلون أولادهم الى
التعلّم في مدارس المدينة، بينما لا يقدر هو، لضعف إمكاناته المادية أن يرسلني الى
المدينة للتعلم مثلهم. هكذا بقيت في القرية حتى الثانية عشرة من عمري، دون مدرسة
.
وحتى هذه السن لم أعرف سيارة، ولم أر الهاتف، أو الكهرباء... إلخ. ثم حدثت المفاجأة
–
الأعجوبة
.
ففي سنة 1943، أخذت سورية استقلالها عن فرنسا، وسمّيت الجمهورية
السورية، وانتخبت رئيسها الأول: شكري القوتلي. وانتشر خبر قراره بزيارة المناطق
السورية للتعرّف إليها، ومن ضمنها منطقة جبلة. ولا أعرف كيف خطرَ لي أن أكتب له
قصيدة، وأن ألقيها أمامه، وكيف خُيّل إلي أنها ستعجبه، وأنه بناءً على ذلك، سيدعوني
لرؤيته، وأنه سيسألني: ماذا أقدر أن أقدّم لك، وأنني سأجيبه: أريد أن أتعلّم، وأنه
سيُلبي هذه الرغبة
.
وفعلاً، تمّ هذا كله كما تخيلته، وحرفياً تقريباً. وكانت
المدرسة الأولى التي دخلتها، المدرسة الفرنسية الأخيرة في سورية أو مدرسة اللائيك،
للبعثة العلمانية الفرنسية في طرطوس. طبعاً، كانت هناك أهوالٌ دون إلقاء القصيدة
أمام رئيس الجمهورية. يلقيها قروي طفلٌ في الثانية عشرة من عمره، فقيرٌ، وليس له أي
سند. لكنها تفاصيل يطول الدخول فيها، ولذلك أرجئ الخوض فيها، وإن كانت ممتعة وعظيمة
الدلالة
.
>
بعض التفاصيل
...
-
دخلت المدرسة سنة 1943 وأنا
بالقمباز القروي. كان طُلابها جميعاً من أبناء الأثرياء في مدينة طرطوس، وفي
ضواحيها، وفي مدينة صافيتا المجاورة، وما حولها. وبقيت بينهم، بالقمباز، حوالى
ثلاثة أشهر، كأنني أعيش في حلم. ثم جاءتني بدلة على الطريقة الغربية، وكانت واسعة
جداً. وأتصوّر الآن أنها كانت مضحكة. لكن. هذا تفصيل، كما أردت
.
تفصيل آخر
.
بعد أن سمع الرئيس القصيدة أخذ شطراً من بيت فيها، وبنى عليه خطابه. الشطر هو
: «
فأنت لنا سيفٌ، ونحن لك الغِمْدُ». تفصيل ثالث. تجاذبَني منذ دخولي المدرسة
اتجاهان: شيوعي، وسوري قومي. ترددت كثيراً بينهما. ثم، ذات صباح، رأينا على باب
المدرسة بضعة طلاب قيل لنا إنهم طردوا منها. وعندما سألت عن السبب قيل لي: لأنهم
تظاهروا ضد وجود حامية فرنسية في مدينة طرطوس، كانت قد استمرت بعد الجلاء. فقررنا
مباشرة، بعض أصدقائي وأنا، أن ننتمي الى الحزب السوري القومي، تأييداً لهؤلاء
الطلاب، وتعاطفاً معهم. هناك تفاصيل أخرى مؤلمة
...
>
أذكر منها واحداً
على الأقل
...
-
هيّأ زعيم المنطقة آنذاك، أي زعيم العشيرة، استقبالاً كبيراً
للرئيس على الطريق الرئيسة المؤدية الى مدينة جبلة، مركز المنطقة. وكنت في البداية
أفكر بإلقاء القصيدة في أثناء هذا الاستقبال. لكن عندما رآني زعيم العشيرة، وعائلتي
تنتمي إليها تقليدياً، أمرَ بطردي قائلاً: لا أريد أن أراه، هنا. والسبب هو أن أبي
لم يحضر، فقد كان مناوئاً له، بينما حضرت العشيرة بكاملها الى جانب
حلفائها
.
>
لكن، صورة الأب غير موجودة لديك، على المستوى الشخصي، وعلى
المستوى الرمزي أو الشعري
.
-
ربما، على المستوى الشخصي، إلا في مقطوعتين
صغيرتين كتبتهما تحية ورثاء. أما على المستوى الرمزي، فأعتقد أنه عميق الحضور في
شعري، لكن على نحو معقّد أختصره في هذه الصيغة: ضد الأبوّة مع الأب
.
>
هل
كانت ثورتك على الشعر القديم ثورة على الأب، كذلك؟
-
على الأبوّة، بالأحرى
.
لا نثور على الأب شخصاً ووالداً، وإنما نثور على أُبوّته معرفة وسلطة
.
>
هناك شخص كان حاضراً في حياتك أكثر من والدك وهو شيخ من العشيرة نفسها كان مرجعاً
ثقافياً لك
.
-
هو الشيخ أحمد محمد حيدر. وأنت هنا تبالغ كثيراً. لقد تحدثت
عنه مرة واحدة، في ذكرى تأبينه، في قصيدة عمودية قرنتُ فيها بينه وبين أبي. كانا
صديقين، وكانا معاً ضد زعيم العشيرة، الذي أشرت إليه. إضافة الى أنهما كانا بين
المجددين في ميدان الدين. كانا معاً بين أهم رموز المعارضة للزعامة العشائرية، أو
الطائفية آنذاك. وهي معارضة لاقى أبي، بسبب منها، صعوبات كثيرة في حياته
وعمله
.
>
تحدثت عن والدك بشغف، كما لو أنه رأس البيت وظلّه وكل شيء فيه
.
كيف تنظر الى والدتك، خصوصاً أنها لا تزال على قيد الحياة. هل كان لها حضور في
حياتك؟
-
الأمّ في المجتمع العربي هي في مرتبة «الظل»، بالنسبة الى الأب
الذي هو دائماً في مرتبة «الضوء».كانت أمي، بالنسبة إليّ، كمثل الطبيعة، أرتبط بها
لا بالولادة وحدها، بل بالهواء والفضاء. هي نفسها طبيعة، خصوصاً أنها لا تقرأ ولا
تكتب. مظهر ناطق من الطبيعة. شجرةٌ من نوع آخر. أو نبعٌ يتكلم
.
كنت في
الثالثة عشرة من عمري عندما تركت البيت وانفصلت عنها
.
لم أعد أراها إلا قليلاً في
العُطَل المدرسية.
ح
تى في طفولتي كان أبي هو الذي يدير شؤون «ثقافتي» أو
«تربيتي
العقلية»، وكانت أمي هي التي تدير شؤون الحياة اليومية.
هي في حياتي، منذ البداية،
جزءٌ من «الطبيعة»، لا من «الثقافة». تصبح جزءاً من «الثقافة» عندما تبلغ مرحلة
الشيخوخة، وهذا ما أكتشفه اليوم. شيخوخة الأم في المجتمع العربي، القائم على ثقافة
الأب، مشكلة ثقافية واجتماعية معاً.
وعندما يحدث أن يموت الأب باكراً، وتبقى الأم
بعده فتيّة، كما حدث لأمّي، فذلك يطرح مشكلات إضافية كثيرة ومعقدة
. مثلاً، أين تسكن
الأم؟ وحدَها، وكيف؟ في بيت أحد أبنائها المتزوّجين وله أولاد، وكيف؟ وقد لا تطيق
زوجته أو قد لا تطيقها زوجته. وقد يكون لهما أولاد لا يفقهون معنى أن تعيش جدتهم
معهم في بيت واحد، وينظرون إليها بوصفها «زائدة» أو في غير مكانها. والأمومة، في
حالة الشيخوخة، تتغير هي نفسها. يزداد فيها حسّ التفرّد، وحس التملّك، وحس
الحضور
.
ثم، من جهتي، لا أستطيع أن أتصوّر ابناً يضع أمه في مأوى للعجزة
.
لكن، من ناحية ثانية، كيف يوفّر لها في بيته العناية اللازمة، الكاملة التي تفرضها
الشيخوخة ومتطلباتها؟ ثم، كيف يمكن التوفيق، عبر الأمومة، بين الطبيعة التي هي،
غالباً، «ثقافة» الأم، و
«الثقافة» التي هي غالباً «طبيعة» أبنائها وأحفادها؟ هناك
مشكلات أخرى نفسية، وحياتية عملية. وهي كلها مهمّشة أو مكبوتة. في كل حال، هناك
قضية أساسية تتمثل في شيخوخة الأم وعجزها، يجب أن تطرح على مستوى المجتمع، وأن تطرح
وتُواجَه وتُحلّ بوصفها قضية ثقافية – اجتماعية
.
>
أشعر أنك تتكلّم عن
الأم كفكرة أكثر مما تتكلم عنها ككائن، وعن أثرها العاطفي والوجداني فيك كشخص. هل
تركت أثراً؟ ألم تكتب قصيدة عن أمك؟
-
الأم مبثوثة في الكتابة، بالنسبة
إليّ، كمثل الهواء والشمس والماء. ذائبة في حياتي وفكري. ليست كائناً مفرداً،
مستقلاً، منفصلاً، كأنّه شيء أو موضوعٌ خارجي. هكذا لم أكتب عنها بالاسم، وإنما
أشرت إليها. لا أقدر أن أحوّلها الى موضوع «إنشاء» مدرسي، كالربيع والخريف، أو
الوطن، أو غيرها. ولا أعرف كيف يمكن شاعراً أن يكتب عن الأم، بوصفها «موضوعاً
»
أو
«شيئاً»، يُناجيه، ويصفه، ويمتدحه، أو يعدّد مآثره وعلاقاته بها
.
>
وما رأيك بما قاله محمود درويش على سبيل المثال، أخجل من دمع أمي، أو أحنّ الى خبز
أمي؟ ألا يترك هذا أثراً وجدانياً فيك؟
-
تقصد شعرياً؟ هذا البكاء الشعري،
بالأحرى يضحكني
.
>
هل عنت لك الأم شيئاً كامرأة؟
-
أيضاً هذه من
المشكلات الثقافية – الاجتماعية:
وضعُ امرأة يموت زوجها وهي في عزّ صباها كما يقال
لا تتزوج، وتنذر حياتها لأبنائها وهي في أوج تألقها وجمالها. أمي للمناسبة، امرأة
جميلة. وهذا لم يخطر لي حينما مات الأب. لكن بعد هذه المسافة الطويلة الآن أستعيده
وأفكر فيه كجزء من طفولتي. وأنا لم أعرف الطفولة كما عرفها الأطفال غير الفقراء
.
منذ طفولتي في الخامسة أو السادسة من
عمري كنت جزءاً من الحقل ومن الشجر والعمل مع الفلاحين. ما يسمى بفترة الطفولة هي
بالنسبة إلي فترة اندماج في الحياة وفي العمل. ولذلك الآن كما أتذكر علاقتي بأمي،
أتذكر طفولتي. أعتقد هذه أشياء ترتبط بحياة الريفيين البعيدين عن المدينة.
رد مع الإقتباس