عرض مشاركة واحدة
قديم 08-26-2010, 04:14 PM
المشاركة 271
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
ادونيس



في حوار مع "الحياة" ... أدونيس: تركت العائلة مراهقاً وانتمائي الى الحزب القومي أخرجني من العشيرة
السبت, 20 مارس 2010



بيروت - عبده وازن




الحوار مع أدونيس حوار فيه الكثير من المتعة. هذا الشاعر الكبيرالذي خضعت له مَلَكة الكلمة يجيد فن الحوار، حتى وإن كان أحياناً في موقع المساءلة. يتحدث بعفوية وطلاقة تخفيان في صميمهما الكثير من البداهة والثقافة العاليةوالمعرفة والخبرة والمراس الصعب. فهذا الشاعر لم يبق ممكناً حصره داخل تخوم الشعروالقصيدة، فهو مفكر أيضاً، صديق الفلسفة، ومثقف ذو هموم متعددة، يسائل ويشك ويثورويتمرّد... ولا يهادن. هذا الشاعر الذي يختصر عصراً بكامله، بأسئلته الشائكةوشواغله وأزماته وتحولاته، هو ظاهرة نادراً ما شهدت الثقافة العربية والأدب العربيما يماثلها. ظاهرة يلتقي فيها الشعر والفكر والنقد والشك الذي هو اليقينبعينه.

هنا الحلقة الأولى من «الحوار» مع أدونيس.

> من الشخصالأول الذي ترك أثراً في حياتك؟

- والدي!

> كيف تتذكروالدك؟

- كان تأثيره يفعل بصمت، ودون وعيٍ منّي. وعي حقيقي. هكذا لم اكتشفهذا التأثير إلا بعد موته. ومات في الستينات من عمره، بشكل مفاجئ في عام 1951، فيحادث سيارة احتراقاً مع جميع ركابها. هذا الموت أنشأ بيننا علاقة جديدة، قوامُهاالذكرى.



صرت أستعيد حياتي في ظله، قبل موته، في البيت، في القرية، في الحياةالعامة. صرت أتذكر هذا كله، وأشعر فيما أتذكر أنه لم يكن أباً، بقدر ما كان صديقاً. ومن جديد، أخذت أتعرف إليه، بوساطة التذكّر، لا سيما كيف كان يعاملني وأناطفل.

> الى أي طبقة كان ينتمي والدك؟

- الطبقة ما دون الوسطى، إنصح أن نستخدم هنا كلمة «طبقة». يمكن أن تنطبق عليه كلمة «فلاّح» أو«مزارع»، مع أنهكان لدينا عامل يُسمى في القرية «مرابع» – يأخذ ربع ما يجنيه من الأرض التي يحرثهاويزرعها ويحصدها، أو من الأشجار المثمرة التي يقطفها، وبخاصة الزيتون. ولم تكنلدينا أرض كثيرة تستحق أن يشرف عليها «مرابع». إنما كان لأبي وضع معنويّ كبيرومتميز، بسبب علمه وكرمه. فقد شُيّخ، مثلاً، مع أنه لا ينحدر من عائلة شيوخ. شيّختكريماً وتقديراً. هذا الوضع هو الذي استدعى أن ينوبَ عنه عاملٌ للعناية بما كانيملكه، على قِلّته.

أذكر أنه لم يكن يفرض عليّ شيئاً. كان يترك لي حريةالتصرف إلا في ما يتعلّق بالحرص على التعلم. ولم تكن عندنا آنذاك مدرسة. كنت أذهبالى «الكُتّاب»، نهاراً، وفي المساء كان هو نفسه يعلّمني قراءة الشعر العربي،ويحاول أن يجعلني، في الوقت نفسه، أحفظ القرآن عن ظهر قلب.

> هل كنت ابنهشبه المدلل؟

- كنت ابنه البكر. غير أنه كان يهتم كثيراً بإخوتي: محمد، وحسنوحسين وليلى وفاطمة التي كانت طفلة عندما توفي. في هذا كله، أكتشف الآن مدى تفتّحه،وصداقته. وكيف كان يحرص على تربيتنا، منمّياً فينا روح الحريةوالاستقلال.

كان يأخذني معه في بعض زياراته الى أصدقائه خارج قريتنا، فيقرىً أخرى مجاورة أو بعيدة. ويقدّمني إليهم بشيء من الفخر والزهو.

غير أنه،كما أتذكر الآن، كان يشعر بالمرارة عند كان يرى بعض أصدقائه يرسلون أولادهم الىالتعلّم في مدارس المدينة، بينما لا يقدر هو، لضعف إمكاناته المادية أن يرسلني الىالمدينة للتعلم مثلهم. هكذا بقيت في القرية حتى الثانية عشرة من عمري، دون مدرسة. وحتى هذه السن لم أعرف سيارة، ولم أر الهاتف، أو الكهرباء... إلخ. ثم حدثت المفاجأةالأعجوبة. ففي سنة 1943، أخذت سورية استقلالها عن فرنسا، وسمّيت الجمهوريةالسورية، وانتخبت رئيسها الأول: شكري القوتلي. وانتشر خبر قراره بزيارة المناطقالسورية للتعرّف إليها، ومن ضمنها منطقة جبلة. ولا أعرف كيف خطرَ لي أن أكتب لهقصيدة، وأن ألقيها أمامه، وكيف خُيّل إلي أنها ستعجبه، وأنه بناءً على ذلك، سيدعونيلرؤيته، وأنه سيسألني: ماذا أقدر أن أقدّم لك، وأنني سأجيبه: أريد أن أتعلّم، وأنهسيُلبي هذه الرغبة.

وفعلاً، تمّ هذا كله كما تخيلته، وحرفياً تقريباً. وكانتالمدرسة الأولى التي دخلتها، المدرسة الفرنسية الأخيرة في سورية أو مدرسة اللائيك،للبعثة العلمانية الفرنسية في طرطوس. طبعاً، كانت هناك أهوالٌ دون إلقاء القصيدةأمام رئيس الجمهورية. يلقيها قروي طفلٌ في الثانية عشرة من عمره، فقيرٌ، وليس له أيسند. لكنها تفاصيل يطول الدخول فيها، ولذلك أرجئ الخوض فيها، وإن كانت ممتعة وعظيمةالدلالة.

> بعض التفاصيل...

- دخلت المدرسة سنة 1943 وأنابالقمباز القروي. كان طُلابها جميعاً من أبناء الأثرياء في مدينة طرطوس، وفيضواحيها، وفي مدينة صافيتا المجاورة، وما حولها. وبقيت بينهم، بالقمباز، حوالىثلاثة أشهر، كأنني أعيش في حلم. ثم جاءتني بدلة على الطريقة الغربية، وكانت واسعةجداً. وأتصوّر الآن أنها كانت مضحكة. لكن. هذا تفصيل، كما أردت.

تفصيل آخر. بعد أن سمع الرئيس القصيدة أخذ شطراً من بيت فيها، وبنى عليه خطابه. الشطر هو: «فأنت لنا سيفٌ، ونحن لك الغِمْدُ». تفصيل ثالث. تجاذبَني منذ دخولي المدرسةاتجاهان: شيوعي، وسوري قومي. ترددت كثيراً بينهما. ثم، ذات صباح، رأينا على بابالمدرسة بضعة طلاب قيل لنا إنهم طردوا منها. وعندما سألت عن السبب قيل لي: لأنهمتظاهروا ضد وجود حامية فرنسية في مدينة طرطوس، كانت قد استمرت بعد الجلاء. فقررنامباشرة، بعض أصدقائي وأنا، أن ننتمي الى الحزب السوري القومي، تأييداً لهؤلاءالطلاب، وتعاطفاً معهم. هناك تفاصيل أخرى مؤلمة...

> أذكر منها واحداًعلى الأقل...

- هيّأ زعيم المنطقة آنذاك، أي زعيم العشيرة، استقبالاً كبيراًللرئيس على الطريق الرئيسة المؤدية الى مدينة جبلة، مركز المنطقة. وكنت في البدايةأفكر بإلقاء القصيدة في أثناء هذا الاستقبال. لكن عندما رآني زعيم العشيرة، وعائلتيتنتمي إليها تقليدياً، أمرَ بطردي قائلاً: لا أريد أن أراه، هنا. والسبب هو أن أبيلم يحضر، فقد كان مناوئاً له، بينما حضرت العشيرة بكاملها الى جانبحلفائها.

> لكن، صورة الأب غير موجودة لديك، على المستوى الشخصي، وعلىالمستوى الرمزي أو الشعري.

- ربما، على المستوى الشخصي، إلا في مقطوعتينصغيرتين كتبتهما تحية ورثاء. أما على المستوى الرمزي، فأعتقد أنه عميق الحضور فيشعري، لكن على نحو معقّد أختصره في هذه الصيغة: ضد الأبوّة مع الأب.

> هلكانت ثورتك على الشعر القديم ثورة على الأب، كذلك؟

- على الأبوّة، بالأحرى. لا نثور على الأب شخصاً ووالداً، وإنما نثور على أُبوّته معرفة وسلطة.

> هناك شخص كان حاضراً في حياتك أكثر من والدك وهو شيخ من العشيرة نفسها كان مرجعاًثقافياً لك.

- هو الشيخ أحمد محمد حيدر. وأنت هنا تبالغ كثيراً. لقد تحدثتعنه مرة واحدة، في ذكرى تأبينه، في قصيدة عمودية قرنتُ فيها بينه وبين أبي. كاناصديقين، وكانا معاً ضد زعيم العشيرة، الذي أشرت إليه. إضافة الى أنهما كانا بينالمجددين في ميدان الدين. كانا معاً بين أهم رموز المعارضة للزعامة العشائرية، أوالطائفية آنذاك. وهي معارضة لاقى أبي، بسبب منها، صعوبات كثيرة في حياتهوعمله.

> تحدثت عن والدك بشغف، كما لو أنه رأس البيت وظلّه وكل شيء فيه. كيف تنظر الى والدتك، خصوصاً أنها لا تزال على قيد الحياة. هل كان لها حضور فيحياتك؟

- الأمّ في المجتمع العربي هي في مرتبة «الظل»، بالنسبة الى الأبالذي هو دائماً في مرتبة «الضوء».كانت أمي، بالنسبة إليّ، كمثل الطبيعة، أرتبط بهالا بالولادة وحدها، بل بالهواء والفضاء. هي نفسها طبيعة، خصوصاً أنها لا تقرأ ولاتكتب. مظهر ناطق من الطبيعة. شجرةٌ من نوع آخر. أو نبعٌ يتكلم.

كنت فيالثالثة عشرة من عمري عندما تركت البيت وانفصلت عنها. لم أعد أراها إلا قليلاً فيالعُطَل المدرسية. ح



تى في طفولتي كان أبي هو الذي يدير شؤون «ثقافتي» أو«تربيتيالعقلية»، وكانت أمي هي التي تدير شؤون الحياة اليومية.


هي في حياتي، منذ البداية،جزءٌ من «الطبيعة»، لا من «الثقافة». تصبح جزءاً من «الثقافة» عندما تبلغ مرحلةالشيخوخة، وهذا ما أكتشفه اليوم. شيخوخة الأم في المجتمع العربي، القائم على ثقافةالأب، مشكلة ثقافية واجتماعية معاً.


وعندما يحدث أن يموت الأب باكراً، وتبقى الأمبعده فتيّة، كما حدث لأمّي، فذلك يطرح مشكلات إضافية كثيرة ومعقدة. مثلاً، أين تسكنالأم؟ وحدَها، وكيف؟ في بيت أحد أبنائها المتزوّجين وله أولاد، وكيف؟ وقد لا تطيقزوجته أو قد لا تطيقها زوجته. وقد يكون لهما أولاد لا يفقهون معنى أن تعيش جدتهممعهم في بيت واحد، وينظرون إليها بوصفها «زائدة» أو في غير مكانها. والأمومة، فيحالة الشيخوخة، تتغير هي نفسها. يزداد فيها حسّ التفرّد، وحس التملّك، وحسالحضور.

ثم، من جهتي، لا أستطيع أن أتصوّر ابناً يضع أمه في مأوى للعجزة. لكن، من ناحية ثانية، كيف يوفّر لها في بيته العناية اللازمة، الكاملة التي تفرضهاالشيخوخة ومتطلباتها؟ ثم، كيف يمكن التوفيق، عبر الأمومة، بين الطبيعة التي هي،غالباً، «ثقافة» الأم، و«الثقافة» التي هي غالباً «طبيعة» أبنائها وأحفادها؟ هناكمشكلات أخرى نفسية، وحياتية عملية. وهي كلها مهمّشة أو مكبوتة. في كل حال، هناكقضية أساسية تتمثل في شيخوخة الأم وعجزها، يجب أن تطرح على مستوى المجتمع، وأن تطرحوتُواجَه وتُحلّ بوصفها قضية ثقافية – اجتماعية.

> أشعر أنك تتكلّم عنالأم كفكرة أكثر مما تتكلم عنها ككائن، وعن أثرها العاطفي والوجداني فيك كشخص. هلتركت أثراً؟ ألم تكتب قصيدة عن أمك؟

- الأم مبثوثة في الكتابة، بالنسبةإليّ، كمثل الهواء والشمس والماء. ذائبة في حياتي وفكري. ليست كائناً مفرداً،مستقلاً، منفصلاً، كأنّه شيء أو موضوعٌ خارجي. هكذا لم أكتب عنها بالاسم، وإنماأشرت إليها. لا أقدر أن أحوّلها الى موضوع «إنشاء» مدرسي، كالربيع والخريف، أوالوطن، أو غيرها. ولا أعرف كيف يمكن شاعراً أن يكتب عن الأم، بوصفها «موضوعاً» أو«شيئاً»، يُناجيه، ويصفه، ويمتدحه، أو يعدّد مآثره وعلاقاته بها.

> وما رأيك بما قاله محمود درويش على سبيل المثال، أخجل من دمع أمي، أو أحنّ الى خبزأمي؟ ألا يترك هذا أثراً وجدانياً فيك؟

- تقصد شعرياً؟ هذا البكاء الشعري،بالأحرى يضحكني.

> هل عنت لك الأم شيئاً كامرأة؟

- أيضاً هذه منالمشكلات الثقافية – الاجتماعية: وضعُ امرأة يموت زوجها وهي في عزّ صباها كما يقاللا تتزوج، وتنذر حياتها لأبنائها وهي في أوج تألقها وجمالها. أمي للمناسبة، امرأةجميلة. وهذا لم يخطر لي حينما مات الأب. لكن بعد هذه المسافة الطويلة الآن أستعيدهوأفكر فيه كجزء من طفولتي. وأنا لم أعرف الطفولة كما عرفها الأطفال غير الفقراء. منذ طفولتي في الخامسة أو السادسة منعمري كنت جزءاً من الحقل ومن الشجر والعمل مع الفلاحين. ما يسمى بفترة الطفولة هيبالنسبة إلي فترة اندماج في الحياة وفي العمل. ولذلك الآن كما أتذكر علاقتي بأمي،أتذكر طفولتي. أعتقد هذه أشياء ترتبط بحياة الريفيين البعيدين عن المدينة.