عرض مشاركة واحدة
قديم 10-20-2017, 11:02 PM
المشاركة 119
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مجرّد كلب

لم يكن على وئام مع بني جلدته، يرى فيهم أرواحا مُهلكة، يتوهّم فيهم قبحا يتزايد في ذهنه أضعافا مع مرور السّنين، بلغ مبلغا لا يستطيع معه نقد ذاته، أو مراجعة سلوكه وتقويم ما لحق به من أضرار. عُلويّة تركب أقواله وتخالط أفعاله كما تضاجع أحلامه، بينه وبين الكياسة سدّ منيع، إدانة رعونته باتت أمرا مستحيلا، هذه السّادية التي ركبته باتت لبّه، يرى النّاس بعين لا تغزل إلا قماش وضاعتهم، ويسمع بأذن تحوّل نغماتهم ضجيجا لا تطيقه روحه المتعالية.
قرّر أن يصاحب كلبا، يرى في الكلاب وفاء تستطيع به تحمّل جبروت يده النّاقمة، و شراسة قد تنفع في صدّ هؤلاء الذين باتوا يتجاسرون عليه و يستهزؤون به سرّا، بل رأى في عيونهم قدرة على اعتلاء أسواره علانية.
احتار عندما وصل إلى سوق الكلاب، أثار انتباهه الدوبرمان بلامحه اليقظة ولونه الأسود، لكن بشاعة وجه البيلدوغ كان لها أثر طيب في أعماقه، تقزز عند رؤية البيتبول لكأنه غانية شقراء شرّيرة، وراء أصباغها الودرية أنياب بارزة وروح ناقمة.
ولأنه أنانيّ الهوى فاستيراد الكلاب أمر يخزيه، رغم أن حبّه استقر على البرجي الألماني حين علم بكونه يملك من الوفاء ما به لا يخون، ومن الجبروت قسطا وافرا، فقد قّرّر أن يبتاع لنفسه كلبا ذئبا من سلالة غابوية ، يفضّل أن يكون كلبه متوحشا لم تلوثه الآدمية، يريده نبّاحا، مجرّد سكتة قد تحرك في نفسه الظنون بأن أحدا أغراه، فخصومه ربما تصيّدوا الكلب و انتزعوا من فمه أنيابه الأصيلة و وضعوا مكانها أسنانا مشطية لا تقوى على كسر الأعناق متى استدعى الأمر خوض المعارك والحروب.
في حقيقة الأمر ما أعجبه هذا الكلب الهزيل، بل يزعجه منظره الذي تحتقره العين، لكن الغدر الذي يتأبّطه كاف ليجبّ تلك المساوئ، فجارته السيدة الودودة التي ارتأت أن تبارك له هذه التجارة النّاجحة، طبع بطن ساقها الأيمن بعضّة ارتج لها بنيانها فسقطت، حتّى وهي على الأرض مستلقية ولسانها مسترسل في ولولة استغاثة ما أطلق رجلها. ابتهج عندما وجده يمسح بها الأرض مرسلا هديرا سحيقا يتفلّت من فجوات صغيرة بين أسنانه ومن أنفه الدقيق، بينما الدّماء تسيح جارية.
نجح هذا المستذئب في الاختبار ونال استحسان مسعود، ما أغرته العجوز بما حملت إليه من طعام، ولم تنج من قبضته إلا عندما أمره السيّد بإخلاء سبيلها. تلومه على هذا الاختيار البشع و وجهه يفرج عن ضحكة احتقار، صاحت في وجهه: "انظر ما فعل هذا الشرّير بساقي" استشاط غضبا: "اغربي عن وجهي أيتها السافرة ألم تتعلمي الحياء يا عجوز النّحس، إن هذا الكلب لأشرف منك."
ازداد طوله بعض سنتيمترات وانتصبت قامته من جديد، يسعده صوت قدميه وهما تصفعان الأرض، في يده اليمنى هراوة وفي اليسرى لجام يسوق به رفيقه، يمنّي نفسه أن يظهر واحد من أولئك المزعجين، هؤلاء الحثالة الذين يثقلون أديم الأرض. هنا كلبي العزيز، سيسقط في الكمين بسهولة، ستظفر به فلا تجعله ينجو، حرّك الكلب ذيله في سرور. عندما اقترب الرّجل ظهر له الكلب مشبوحا على الأرض، نهره فلم يلتفت، رماه بحصاة فما تحرك، فظن أنه شبع موتا، اقترب منه أكثر، إنه لا يتحرك ، جرّه من ذيله لإماطته عن الطريق، فكانت فرصة سانحة للإطباق على معصمه بفكيه المنشاريّين، يرفعه الباسل إلى الأعلى فلا ترتخي قبضته، يضرب به الأرض فلا تتحرر يده، يقذفه برجله فلا يفلتها، تسرب إليه العياء ودماؤه الساخنة تسقي التراب، بدأ يستغيث، وها هو مسعود ظهر فجأة.
ـ أغثني يا مسعود......
ـ لا أغاثك الله أيها الحقير، ماذا فعلت بكلبي؟
ـ لا شيء يا مسعود، لا شيء...يدي يا مسعود...... يدي....
ـ ما بها يدك، تلك التي رفعتها في وجهي ذات يوم......
ـ معذرة يا مسعود.......ألف معذرة ......
ـ عذرك مرفوض و قولك مردود، كلبي هذا مسكين مستكين، من أرقى الفصائل، وبطاقته تؤكّد قولي، أنت من تحرّشت به، واستصغرت شأنه. آه كلبي المسكين، ربما حرّكت أنيابه، وأوجعت أضراسه، و آلمت فكه. أطلق هذا الحقير يا كلبي العزيز، فلا يستحق أن توجع فكّيك بعظامه، و تلوث فمك بدمائه النّتنة، هات فمك لأرى مقدار ما لحقك من ألم، و ما أحدثه فيه هذا اللئيم من أضرار. سنعود إلى البيت يا صغيري، سأحضر البيطري ليفحصك عن قرب، ويحرر لك شهادة تبين مقدار عجزك، سنقاضي هذا الحقير، سيدفع ثمن فعلته. آه لمصابي فيك، يا ليتني متّ قبل أن تهان ولا أستطيع ردّها عنك يا كلبي الموجوع، سأمسح دموعي ودموعك ومع كل دمعة سأدعو على هذا السفيه بالويل والجحيم و العذاب الأليم.
تركا الباسل يضمد جراحة، يسيران بزهو وخيلاء، يركضان مبتهجين كطفلين فائزين في لعبة، انشرح مسعود واسترجع همّة الشباب، تذكر أولى صولاته يوم طردها من بيته، تلك المشؤومة التي أنجبت له كلبا، رماها بالفجور والخيانة، رماها بالنحس واللّعنة. آه لو علم الناس بأمرها لكانت وصمة عار على جبيني لا تمحى، حسنا فعلتُ حين أخرجتها من بيتي ليلا هي وجروها الضّئيل الذي لم يفتح عينيه بعد، تركتهما في الخلاء للخلاء، ولأنّني لا أحبّ أن أترك الأمر للصّدف، اقتنصتها ذات صيد، ودفنت سرّها للأبد، نصر مؤزّر، يحلو لي الفخر به، و الفخر بوابل انتصاراتي هو ما يجعلني حيّا.
ـ ادخل فو الله ما زار أحد غرفة نومي هذه لكنك تستحق وسام بطولة.
دخل الكلب فرأى صورتها معلّقة على الحائط، قفز قفزة جنّيّ أزرق، وضعها بين يديه، ضمها إلى صدره، بكى بكاء مريرا، يسأله مسعود، لماذا تبكي، فهي ماتت منذ أربعين سنة، هذه الزّرافة الملعونة، ما وضعت صورتها هناك إلا خشية شبهة، و لولا أنّني قتلتها بيديّ هاتين، لمسحت كلّ آثارها.
انقضّ الكلب على رقبته، وعندما أحس ببرودة دمائه قال:
آن لك أن تستريح لأستريح يا أبي.




كنت سأشارك بهذا النص في المسابقة

لكن ارتأيت أن أعرضه هنا في انتظار بزوغ فكرة جديدة