عرض مشاركة واحدة
قديم 02-17-2012, 06:25 PM
المشاركة 260
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
عن النخلة والجيران
د.عبدالله إبراهيم
15/08/2010
بُنيتْ أحداث رواية "النخلة والجيران" لـلروائي العراقي "غائب طعمة فرمان" على خلفية آثار الحرب العالمية الثانية في العراق، إذ صيغ نظام الحياة اليومية لشخصياتها في ضوء تداعيات تلك الحرب في بغداد، فظهرت منزوعة الإرادة، ومجرّدة عن أي فعل إيجابي، وما لبثت أن مضت في حال يكتنفها اليأس إلى نهايات مقفلة أدّت بها إما إلى الموت أو القتل أو الغياب، وبذلك تكون الرواية قد طرحت قضية التاريخ الراكد للأمة حيث يتلاشى الأمل بالتغيير، فكل شيء في تراجع مطّرد، إذ تستسلم معظم الشخصيات ليأس عام يخيّم عليها من كل جانب، وتذوي النخلة الوحيدة، وتباع الدار، ويهدم الإسطبل، وتكاد الحواري الطينية الضيقة تخلو من الحركة، وتبدو المشاركة الاجتماعية مشلولة، بل معطّلة، فقد انسدت الآفاق أمام شخصيات مهمّشة جرى تقييد إرادتها من طرف غامض، وأصبحت طيّ النسيان. فشرعت في الاقتصاص من بعضها بالطمع والقتل والخداع.
وحينما أطبق اليأس على مجتمع "النخلة والجيران" انفلت العنف ليمارس دوره بدواعي تحقيق عدالة غائبة، أو رغبة في الامتثال إلى عرف اجتماعي أو قبلي، فالقتل نزوة عارضة مدعومة بفرضية أخلاقية مبهمة، يمكن أن يقابل بتقدير اجتماعي يرفع من شأن القاتل في ظل انهيار سلطة الدولة، فلا يحتاج إلى سبب كبير لحدوثه إنما تدفع به مشاجرة تافهة، وخصومة عابرة، لأن الأرواح البشرية فقدت قيمتها في المجتمع المتخيّل للرواية، وهو مجتمع يحيل بالتمثيل السردي على عالم بغداد في أربعينيات القرن العشرين في ظل الاحتلال الإنجليزي، وحينما يبلغ الإحباط العام مداه الأقصى تلوح فكرة العنف، ثم تتبلور، وتصبح ممارسة فعلية، فلم ينتبه "حسين" إلى جرائم "ابن الحولة" وإهاناته، إلا حينما فقد "تماضر" وباع الدار التي ورثها عن أبيه، فجاء اغتياله للمجرم تخلّصا من فشل ذاتي أكثر مما هو انتصاف لصديقه القتيل "صاحب"، فالعنف ذو مسار لولبي يتدفّق في وسط أخلاقيات رخوة، ثم يصبح سلوكا اجتماعيا محمودا، دون أن يقع التفكير بتداعياته.
انحسرت الروح المدنية لبغداد حينما انخرطت شريحة من العراقيين في مضاربات ممنوعة مع جيش الاحتلال، فذهب بها الظن إلى أن الإنجليز باقون في البلاد إلى الأبد، وكفّت فئة أخرى يدها عن أية مسؤولية فراحت تتبرم يائسة، وانحسرت الأفعال الإيجابية من فضاء السرد، فمضى الرجال يدورون في حلقات مفرغة من الإحباط والبطالة، وجرى العبث بالنساء اللواتي خدعن، ووقع استغلالهن عاطفيا وماليا، وامتد ذلك إلى النخلة والبيت، وهما شاهدان على التراجع الثابت في نظام القيم، فكأن زمن الرواية يمضي إلى الوراء بعد أن تفكّكت الأواصر الاجتماعية، وبها استبدل سلوك اجتماعي خديج لا هوية له، فترك الشخصيات تنزلق إلى آثام سلوكية قاعدتها الخداع والطمع، فلا تكاد تظهر شخصية سوية، حتى "سليمة الخبازة" لم يوفّر لها السرد حصانة الاستقامة، فابتكر لها سذاجة دفعتها إلى الوقوع في أحابيل "مصطفى" المخادع الذي كان يتاجر بالممنوعات مع الجيش الانجليزي.
وخضعت رواية "النخلة والجيران" إلى زمن شبه راكد في نظام أحداثها، فالبشر والأشياء والأمكنة تتردّى ببطء، وظل وعي الشخصيات بذاتها وعلاقاتها ساكنا لم يتعرّض للتغيير، فاكتسى كل فعل بعدمية، وانتهى بإخفاق، وفيما كان يخيّل للمتلقّي بأن خبز "سليمة" علامة إنتاج مفيدة في مجتمع استهلاكي، مثل حب "تماضر" في بيئة خلت من الحميمية، فإنهما - الخبز والحب- أصبحا ذريعة للخداع والاستغلال، فحلم الإنسان المجرّد عن الوعي يقوده إلى الوراء في حركة لا نهاية لها، فيتعثّر بما هو أسوأ مما كان عليه، وكأن الحياة متاهة كبيرة نزعت عنها العلامات الدالّة على النهاية.
تضافرت البيوت الخربة، والأزقة الموحلة، والشخصيات الضالة، والحركة الرتيبة، والسرد التفسيري، فيما بينها، فأصبحت أدلّة على أفول عالم، وتعذّر انبثاق آخر بديل، فمشهد القتل العنيف الذي ختمت به الرواية رسم في أفق السرد حلا مبهما لنهاية عالم؛ حيث يريد "حسين" أن يتخطّى إخفاقاته على مستوى الحب، والمال، والبنوّة، بالقتل، فابتاع مدية حادة، وراح يلاحق "ابن الحولة" مترددا وخائفا دون أن يجد سببا مقنعا للقتل، فبحث عن أية ذريعة كي يتراجع عن رغبته القاتلة إلى أن عرض له "ابن الحولة" في حالة سكر شديد، فكأنه يدعوه لقتله، فيترنح المجرم الأصلي قتيلا دونما سبب مباشر سوى أن البطل الجديد رغب في إرسال السكين إلى جسده المخمور ليمارس دوره، فكأنه ضحية بريئة، فقد قُتل المجرم القديم لأن المجرم الجديد راوده حلم بدوره اجتماعي يرهب به الآخرين بوصفه قاتلا أكثر مما كان يريد الاقتصاص من المجرم بسبب جريمة قتل صديقه "صاحب".
أصبحت الجريمة الثانية مكافئا لدور بطولي مقترح، وليس عقابا عن جريمة سابقة، ومهما كان فلا يمكن التورط في جريمة بسبب جريمة أخرى، فتلك متاهة من العنف لا تفضي إلا إلى مزيد من أعمال القتل. لكن القتل في مجتمع راكد بدواعي الشرف أو الثأر أو البحث عن دور جديد له معنى عرفي يتعارض مع الدلالة المدنية لمفهوم العقاب، فغالبا ما يتولّد عنه نوع من الترقية الاعتبارية العامة، فيحتفى بالقاتل لأنه عرض معنى مضافا لبطولة فردية تصون العلاقات التقليدية، فالتكافل السلبي بين الجماعات والأفراد ينتج معاني متحيّزة للقتل بدواعي الشرف والهيبة والثأر، فيصبح ممارسة محمودة يراد بها الحفاظ على الروابط التقليدية، وصون القيم الجماعية، وهو أمر يلاقي دعما قويا في مجتمع الرواية الذي يعاني من العوز، ويفتقر للإرادة، ويساوي بين القتلة والضحايا، والمخادعين والمخدوعين، فينعدم التمييز بين الشرّ والخير، وبين الخطأ والصواب، فكلما جرى محو الحدود الفاصلة بين الآمال والإخفاقات انكشفت هوة خطيرة أمام الجميع، فيصبح انزلاقهم إليها محتملا. وهو أمر جنته شخصيات الرواية كلها، فلم تتفاعل فيما بينها، ولم تعد النظر بعلاقاتها، ونزع عنها الوعي بعالمها، فظهرت عائمة على سطح السرد.


د. عبد الله ابراهيم
ناقد واستاذ جامعي عراقي مقيم في الامارات
abdullah_ibrahem@yahoo.com