عرض مشاركة واحدة
قديم 02-17-2012, 06:23 PM
المشاركة 259
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
34- النخلة والجبران غائب طعمة فرمانالعراق

النخلة والجيران


ياسر عيسى الياسري
سينما الصورة الذهنية في الرواية العراقية واستمرار الرؤيا

علم واثر.. سلسلة دأبت دار الشؤون الثقافية على اصدارها حيث اهتمت بنشر أهم الأعمال الأدبية التي لم تعد طبعاتها متاحة أمام القراء ولعل أهم الروايات التي أعيد طبعها في تلك السلسلة رواية النخلة والجيران للروائي العراقي الكبير غائب طعمه فرمان كنت قد قرأت الرواية منذ زمن بعيد نسبيا و لا اذكر تماما أنني أكملت مشاهدة المسرحية لأنها عرضت أيام الوفاق والتصالح السياسي الذي انفكت عراه عندما دخل التلفزيون الى بيوتنا المتواضعة وهكذا وجدت نفسي محلقا بشكل لا إرادي في عوالم سليمة الخبازة وأحلام العصافير لحسين ومصير صاحب ابو البايسكلات وبطولات ابن الحولة وتحايلات مصطفى أفندي للحصول على ثقة الانكليز وهكذا كان لابد لي من ان أعايش تلك الشخصيات على طول الخط القرائي للرواية وعلى الرغم من استحضاري كل المهارات في التلقي وعدم الانجرار الى ما يرده الكاتب من ان يجعلني اضحك او أتابع دون انقطاع او انفعال وجدتني عاجزا أمام قدرة هائلة ومذهلة في تكوين الصورة السينمائية الذهنية التي لا يمكن الفكاك عنها بسهولة، لذا كنت اشعر أنني أمام رواية اقرأها للمرة الأولى وأتفاعل معها للمرة الأولى وللمرة الأولى أجد الغبن يطال عملاق آخر من عمالقة الفن الروائي العراقي الذين تجاوزوا كل المقاييس العالمية، ولكن لأن غائب طعمه فرمان عراقي ومات غريبا ووحيدا بعيدا عن شمس العراق قريبا من ثلوج سيبريا لم يحظ بالاهتمام الكامل الذي يليق به، ولكنه عراقي كما أسلفت القول لا يحتفى به الا بعد موته ولكنه لم يحتفى به لا حيا ولاميتا الا في قلوب محبيه ومثقفو العراق وبعيدا عن تلك الآهات التي لا تجدي.
أقف أمام رواية تميزت بدقة السرد الوصفي الذي يخرج من إطار الكلمة المحددة بمجموعة من الحروف الا صورة ذهنية سينمائية داخل التكوين العام لهيكل الرواية. . . تخرج الكلمة من إطارها المقروء المحدد بحروف سوداء تعكس تلك الصور الدقيقة التي عمل على إخراجها المؤلف لا برؤية الكاتب وإنما برؤى متعددة منها ما عكس المرحلة الزمنية التي كان يمر بها العراق فالرواية تقع بين زمنين من القلق والتحول يمر بها العراق ككل وبغداد بشكل خاص فالحرب العالمية الثانية على وشك النهاية او لنقل انتهت وجيوش الانكليز تستعد لمغادرة بغداد ومعها لا بد ان تتغير الخارطة الاجتماعية والمكانية في بغداد حيث هناك مئات من العاطلين عن العمل بسبب رحيل الانكليز وهناك المئات من الأسر التي فقدت مصدر رزقها وان كان ملوث بالطين العالق بجزم الغزاة الثقيلة الطين الذي يسميه المؤلف السريافه التي لا يدخلها احد الا ويتلوث مهما حرص على البقاء نظيفا، هذا بالنسبة للزمن القلق التي تدور فيها الأحداث أما المكان فكان من أبدع الصور المرئية على شكل لوحات بحروف وكلمات استفاض المؤلف في قراءة تفاصيل المكان الرئيس للحدث بيت سليمة الخبازة والنخلة التي تقبع وسط الدار الكئيب وهسيس الحطب المحترق في قعر التنور الأسود والجيران من الخان والطولة فكان المؤلف غائبا عن المكان لأنه ترك المكان يتحدث عن نفسه دون ان يعمل على التدخل بشكل واضح بحيث لا يتدخل في التزويق الداخلي او وضع رموز بشكل قسري وسط المكان المعد كمسرح للإحداث. . .
باحة داخلية غير مضاءة بشكل كامل تنور محطم الأطراف ياون مهمل لا يستعمل لغرضه الأساس في تحضير الرز الخام وطحن الحبوب وإنما دائما منكفئ على وجهه الذي لم يعد يتذكره احد والنخلة التي تشكل الجزء الأول من اسم الرواية والرمز الذي ينبغي على القارئ تأويله او على الأقل تفسيره ولو بشكل أولي فالنخلة مرتبطة بالحكمة ومرتبطة بأرض العراق ومرتبطة بشكل لا يقبل الفكاك مع شخصية إنسان هذا البلد. النخلة الشجرة الصابرة بغض النظر ان كان الجار طيب أم شرير نخلة دائما يدخل إليها المؤلف بلقطات فريبة بل وبعدسات زوم دقيقة تعكس التغضنات الدقيقة للسعف الجاف الذي ينتظر ربما موسما ما من مواسم الخضرة لا الجفاف ولكنها بقيت جافه وبالقرب من جذعها كانت هناك بقايا مياه قذرة لبقايا التنور وفتات الخبز المخلوط بذرات الغبار الأسود مضاف الى هذا الجو الكابوسي هناك شتائم تكال الى النخلة ربما غير مسموعة في معظم الأحيان لان النخلة يجب ان تكون لها فائدة ولكن نخلة سليمة لا فائدة منها فهي لا تمنح الظل او تمنح الرطب او تصلح لأعشاش العصافير او القبرات نخلة يصفها المؤلف قميئة قصيرة متيبسة لم تحمل طلعا، او بشارة لعذوق التمر فلماذا هذا التركيز المستمر من قبل المؤلف على تلك النخلة.
من جانب نستطيع ان نربط ما بين سليمة الخبازة العاقر ونخلتها ولكن من بين أيدي سليمة يخرج الخبز الساخن على الرغم من كونه اسود بسبب طحين الحصة التموينية الا انه كان يمد هذا السكون بحياة لا مثيل لها داخل هذا البيت وعلى الرغم من ان تلك النخلة وبشكلها المادي المرئي في الرواية نخله بحكم الميتة الا ان الروائي يصر على ان يذكرنا بها بين الفينة والفينة مثيرا ذلك صورة ذهنية قد تكون لا مرئية للشخصيات الرواية ولكنها تشكل صورة مرئية في ذهن القارئ الذي يتلقى تلك الصورة التي تخفي في داخلها رمزا من الرموز التي يسهل تلقيها لعامة القراء، ولكن لماذا هذا العقم وتكمن الإجابة خارج البيت انه عقم تلك الفترة على جميع الصعد الاجتماعية والسياسية حيث هناك تكمن بداية عمليات بيع الأرض للرأسماليات الجديدة التي وعلى الرغم من خروج القوات الأجنبية الا أنها زرعت نظاما اجتماعيا جديدا تمثل في نهاية عصر وبداية عصر آخر الطولة التي بيعت وبيت سليمة ونخلتها الذي بيع كذلك صاحب ابو البايسكلات الذي قتل وتحول حسين من إنسان مسالم الى قاتل بعد ضياع تماضر ولكن هل استطاع المؤلف ان يقنعنا ان المجتمع العراقي متكون من هذه الشرائح فقط ولماذا غابت صورة المثقف المغير للاتجاهات وهنا تكمن روعة تلك الرواية وسرها الذي جعلها تعيش كل تلك العقود من السنوات، وهي ان المؤلف كان هو الذي يوجه القارئ نحو الصور السينمائية التي تنتجها عينه الشبيه بكاميرا، فلولا تلك العين الكاميرا لم تكن لتصل الينا تلك الشخصيات التي ابدع المؤلف في دقة الوصف الذي قد تعجز عن ايصاله الكاميرا السينمائية. لذا كانت عينه بمثابة الراصد لهذا التغير الاجتماعي والسياسي وكان هو ذاته صوت التغير صوت الثورة على هذا الواقع المرير الذي كان يقبع تحت ثقله العراقيين جميعا.
ولكن يبدو أننا كعراقيين وعلى الرغم من شدة وضوح ودقة الصورة السينمائية الذهنية التي قدمها غائب طعمه فرمان إلا أننا لم نكن لا نحن ولا الجيل الذي سبقنا و لا الجيل الذي سيأتي أحسنا قراءة تلك الرواية التي ان قرأها هذا الجيل لشعر ان غائب كان حاضرا معنا في هذه الظروف التي مرت بالعراق من حروب وحصارات أكلنا فيها الخبز الأسود من يد أكثر سليمة الخبازة وماتت الملايين من النخلات وتهجر آلاف من الجيران وأحيطت بغداد بالجدران وانتشر الجنود الأجانب في الطرقات، لذا لم تكن تلك الرواية رواية فترة زمنية محددة وإنما رواية مستمرة تشبه المسلسلات الطويلة ولكنها طويلة أكثر مما ينبغي طويلة وهي تسجل عذابات العراق وأهله وموت نخيله وتهجير الجيران، منذ ان كانت الصورة شمسية الى عصر الصورة الرقمية وبذلك لا أجدني قد انتهيت من قراءة رواية النخلة والجيران لان صورها ما تزال مستمرة مؤسسة بذلك اتجاها خاصا في الرواية العراقية يحول الصورة الذهنية الى صورة سينمائية مما يمنح فرادة لأسلوب قل نظيره في الرواية العربية. ولكن كل مشكلة الكبير غائب طعمه فرمان انه عراقي حقيقي ولاشيء آخر