عرض مشاركة واحدة
قديم 02-16-2012, 11:25 AM
المشاركة 257
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
علي أبو الريش: بتنا نعيش غرباء عن أنفسنا وذاكرتي هي التي تكتبني

تاريخ النشر: الخميس 26 أغسطس 2010

جهاد هديب
“لا أقل أولاً أنّ الطفولة وجدان، وليست ذاكرة فحسب، وهي اكتشاف، فكل ما يراه الطفل فإنه يراه لأول مرّة، من هنا كان رمضان يأتي بالجديد والمختلف وما لم نعهد من قبل أو نرى، لذلك كنّا نحتفي به ذلك الاحتفاء كله. وذلك على العكس مما هي عليه الطفولة الآن. نحن، عندما كنّا أطفالاً تلمسنا الرطوبة تأتي مع رائحة البحر والرمل. بهذا المعنى خلق منا رمضان جيلاً ينتمي لزمانه ذاك وتقلباته وكل مايجدّ عليه فيه ويختزنه في لاوعيه، ببساطة”.
بهذا “الوجدان” اليَقِظ، بدأ الروائي المعروف وكاتب العمود الصحفي علي أبو الريش حديثه لـ”الاتحاد” ضمن حلقاتها التي يتحدث فيها مبدعو الإمارات عن ذاكرتهم مع هذا الشهر الفضيل.
ويضيف “كان رمضان يأتي إلينا بأشياء جديدة دائماً؛ ملابس وألعاب وأكلات وحلويات ولقاءات تحدث لأول مرة، لذلك ما زال حضوره قوياً. كانت العلاقات بين الناس في منطقة المعيريض برأس الخيمة، حيث نشأت، كما في سائر الإمارات آنذاك، إنسانية وروحية وسهلة ودافئة، أما أيامنا هذه فسلبت منّا العلاقات الإنسانية التي تربط الإنسان بالإنسان، بدءاً من علاقة الطفل بالطفل وليس انتهاء بعلاقة الجار بجاره. إن الأغلب الأعم من بين الناس إما أن ينام حتى موعد الإفطار أو يقلِّب الريموت أمام التلفزيون، فيما يلهو الطفل وحيداً مع جهازه الجامد”.
ويقول “آنذاك، لم يكن بوسع الطفل أن يلعب وحيداً، فلابدّ من فريق متكامل وألعاب معروفة بالنسبة له مسبقاً، أي أن هناك وجداناً مشتركاً بالأساس يشكّل جامعاً لهذه الطفولة، لذلك نشعر بالحنين إليها لأننا أصبحنا اليوم غرباء عن أنفسنا أيضاً، وعنما أزور أماكن طفولتي هناك أشعر بأنني عدت أتنفس، حقيقة”.
ويؤكد “لكنني مازلت أختزن تلك الطفولة في ذاكرة معينة. صحيح أن الطفرة النفطية قد منحتنا الكثير، لكنها سلبت منا الكثير وجعلتنا نعيش صراعا مع الجيل اللاحق. لقد عشنا المرحلتين، والفرق بينهما شاسع؛ الأولى، أي السابقة على الطفرة، رغم بساطتها وفقرها المادي لكنها منحتنا مخزوناً هائلاً من الذكريات والعاطفة الإنسانية الثرية جداً والحارّة، أما المرحلة التالية فبتنا فيها غرباء حتى عن أنفسنا “.
ويزيد في سياق التأكيد ذاته “لو لم نكن، وجدانياً، أبناء تلك المرحلة لما استطعنا العيش الآن، ومقارعة كل هذه التغيرات وملاحظة الآثار التي تتركها فينا كأفراد وفي مجتمعاتنا والكتابة عنها، لقد خلقت منا أيامنا الأولى جيلاً قوياً وإنساناً قوياً” ويضيف “كنا نتلمّس المكان وثقافثه وتاريخه الاجتماعي والسياسي بدءاً من الوسط الاجتماعي المحيط ذاته؛ من الأب والأم والجيران والعائلة الممتدة و”الفريج” ثم المعيريض بأكملها. كانوا يمنحوننا بذلك الإحساس باختلاف رمضان عبرهم وعبر رؤيتهم لأنفسهم فكانوا يؤثرون في رؤيتنا إلى العالم بدءاً من المكان وبالتالي يوثّقون من ارتباطنا به وبحضارته وثقافته. وذلك على العكس مما يحدث الآن، فهذا الجيل يعرف كل شيء عن العالم ولا يعرف شيئاً عن مكانه”.
أما عن الألعاب التي كانوا يمارسونها أطفالاً، فأشار الروائي علي أبو الريش إلى أنها كانت ألعاباً شعبية مثل “المقصي” والأرجوحة” وسواهما من ألعاب “لكننا لم نكن نتأخر في اللعب بحكم أن “الفرجان” في المعيريض كانت متباعدة آنذاك ولم تكن هناك أبراج، فكنا نلعب حتى منتصف الليل أو الواحدة صباحا ثم ننام حتى يأتي “أحمد قنوة” “المسحر” الذي يدعو بقرقعته الناس إلى القيام لتناول السحور، وأتذكّر أنه كان شخصية مختلفة، فهو يكره اسمه ذاك لكننا، نحن الأطفال، لما نراه، نهاراً، نركض خلفه ونناديه باسمه، فكان يجري خلفنا فيما نتراكض ضاحكين وهاربين في أزقة “الفريج”. وعندما يقترب العيد كان يطوف بالبيوت فيأخذ أجرته طحيناً أو تمراً. لقد فرض نفسه عليّ وكان واحداً من شخصيات إحدى رواياتي”.
ولما قلت إن الصنيع الروائي، إجمالاً، لديه، قائم على فعل تذكّر للمكان والشخصيات أكد أبو الريش “إن ذاكرتي هي التي تكتبني، أو هي المكتبة التي أستل من بين رفوفها كتبي”.
وفي سياق صنيعه الروائي وعلاقته بدراسته علم النفس العام، أكّد علي أبو الريش “يجب على الروائي، من وجهة نظري، أن يكون ملّماً بشيء من علم النفس، إذ إنه يتعامل مع شخصيات وأمكنة وأزمنة متعددة وفقاً لحالات نفسية متعددة وهذا ما منَحني طول النفَس في الكتابة الروائية لأنني أقوم بدراسة “الحالة”، أي الشخصية وهو مصطلح علمي متداول في علم النفس، بدءاً من الطفولة وحتى اللحظة الراهنة، أي أن الشخصية التي أكتبها لها تاريخها الخاص المنفصل عن الشخصيات الأخرى، وهو تاريخ لا يظهر في العمل نفسه بل يشكّل جانباً من الخلفية التي أنتجت العمل ككل”.
وأضاف “إن تلمّس الشخصيات في العمل الروائي هو واحدة من أكثر مراحل البناء الروائي عسراً، لكن بمرور الوقت اعتدنا على تجاوز هذا العسر بالجلوس إلى الطاولة لأربع أو خمس ساعات، فيما يدرس المرء الشخصية من خلال زمنها والمرحلة التي عاشت فيها وطبيعة تلك المرحلة بتداخل كبير مع تلك الشخصيات التي ما زالت فاعلة في ذاكرته الشخصية، فهذا الذهاب إلى الماضي عبر الذاكرة أمر لا محيد عنها”.
وختم الروائي علي أبو الريش حديثه لـ”الاتحاد” في صدد الرد على سؤال تعلق بحنينه إلى تلك الأيام الرمضانية بالقول “بالتأكيد أحنّ إلى تلك الطفولة وليس إلى المكان الذي حدثت فيه تلك الطفولة يوماً ما وصار جزءاً منها. أتدري؟ الآن سأحجز بطاقة سفر ومقعداً في طائرة ورقية وأعود إلى الطفل الذي كنت هناك”.


اقرأ المزيد : المقال كامل - علي أبو الريش: بتنا نعيش غرباء عن أنفسنا وذاكرتي هي التي تكتبني - جريدة الاتحاد http://www.alittihad.ae/details.php?id=53843&y=2010&article=full#ixzz1mRpROqoE

المصدر : الاتحاد.
==
إشكالية الموت في " رواية زينة الملكة " للروائي الإماراتي علي أبو الريش - ريم العيساوي

تأثرت الرواية العربية عموما بالرواية الغربية ، غير أنها بعد الحرب العالمية الثانية بدأت تحقق ذاتها نحو النضج الفني والتأصيل وتتعمق شكلا ومضمونا ، على يدي كبار الروائيين العرب المعاصرين.
ومن الملاحظ أن تأثر الرواية العربية المعاصرة بالرواية الغربية كان واضحا في الأساليب الفنية أكثر من المضامين وذلك لاختلاف واقع المجتمع العربي عن المجتمع الغربي .
وتندرج رواية " زينة الملكة " لعلي أبو الريش ، ضمن هذا التأثير، وقد استفاد من تقنيات الرواية الجديدة التي تفنن أصحابها في تنويع أنماط الحديث الباطني وانفتح على التراث العربي الإسلامي ، معتمدا على المحلية كمنبع ثري لتجديدها و تكثيف دلالتها وتعميق أبعادها .
يطرح علي أبو الريش في رواية " زينة الملكة " غربة الإنسان المعاصر ، مصورا همومه وتطلعاته ، أحلامه وصراعاته ، ومعاناته إزاء إشكالية الموت ، وذلك من خلال الشخصية المحورية "زينة الملكة " وبتوظيفه توظيفا متقنا لأسلوب تيار الوعي والرمز، متناولا قضية الموت بأبعادها الاجتماعية والفلسفية محافظا على أصالتها بتوجهه نحو الكتابة التي تعتمد على الجانب التاريخي والأسطوري ، موظفا التراث الصوفي الإسلامي مستلهما من الذهنية الشعبية الخرافية ، مؤكدا أن المحلية هي السبيل المؤدي إلى تأصيل الرواية العربية وتخليصها من قيود التبعية ، محققا المعادلة بين توظيف التراث والاستفادة من الثقافة العالمية ، ومبرهنا على أن الرواية لها أن تولد من أرحام القرية .
وإن ربط أحداث الرواية بقرية " المعيريض " بالإمارات العربية المتحدة فإن الرواية تنفتح على الآفاق الإنسانية الرحبة ترمز إلى واقع الإنسان وما يعانيه من غربة الذات وغربة الوجود .
لقد كانت وما زالت إشكالية الموت بمفهومها الحقيقي و بمفهومها الفلسفي إشكالية محورية في الرواية العربية المعاصرة وهي سمة بارزة في الإبداع العربي عامة ، وقد تفاقمت بسبب ما لحق الواقع العربي من أزمات متكررة ، فكان الإحساس بعبثية الواقع وعدميته . وليس غريبا أن يعتبر الموت قضية إشكالية وفد بحث فيه المفكرون في جميع الفلسفات والحضارات ، وخاض العقل قاصرا غمار هذه المسألة، فكانت الضرورة لتلبية صوت الإيمان .
إن رواية " زينة الملكة " من الروايات العربية المعاصرة المندرجة تحت تيار الرواية الوجودية يطرح فيها كاتبها قضية الموت بوجوهها المتعددة وقد كان الموت جرسا مرعبا يدق عبر نسيج الرواية ويعكس الواقع الدرامي المهدد للإنسان والحيوان على السواء ويسلب الكائنات شعورها بالأمان .
كيف كانت رحلة زينة مع الموت ؟ وكيف تشكلت صورته في الرواية ؟ وكيف كان أثره على الإنسان؟ ما هي دلالاته ؟ وإلى أي حد تتجلى رؤية الكاتب وفلسفته في الوجود؟ وما هي المرجعيات التي تستند عليها هذه الرؤية ؟
الموت الواقعي في الرواية والتجربة الحسية الوجودية :
تنفتح الرواية بعبارة مشحونة بدلالات الموت :" ( زينة ) البهية الزهية ، في زرقة الموت ، انتعلت خسارتها ، ووضعت جسدها المنهك عند ناحية الفجيعة وانتظرت زيارة الصباح....هذا الصباح لا يأتي محملا برائحة الأطفال الذين ذهبوا بعيدا ، عند ناصية المقبرة القديمة ...صباح سكران بالكافور وبكاء الجارات اللاتي ، ودعن فلذات الأكباد ، وكلما فقدت معيريض عزيزا ، جئن بالسواد، مكللات بالدموع والعبوس "( 7) .
إن هذا الانفتاح ، يبني علاقة غير مألوفة بين الموت الذي عرف ببشاعته
وصفة البهاء وما تحمله من معان تشير للمعنى الرمزي للموت، وهذا يتقابل مع معناه الحقيقي و منذ المنطلق تبرز ثنائية صريحة بين قبح الموت وجماله .
كما أن دلالة المكان ( المقبرة القديمة ) ، وعلاقتها بالزمن النفسي (صباح سكران بالكافور وبكاء الجارات ) يعمق الوجه الدرامي للموت ويكثف سوداويته . ولعل هذا المدخل بجميع عناصره الدلالية بمثابة الميثاق الروائي بين الكاتب والقارئ . ضرب من التهيب في خوض هذه الإشكالية الوجودية الأبدية ، صراع الإنسان مع الموت . هكذا تنفتح الرواية بإطارها الزمكاني معلنة عن وجهين متقابلين للموت ، الموت الواقعي الوجودي والموت الفلسفي الرمزي .
يدق جرس الموت ضربات موجعة منذ الصفحات الأولى ( ص 8) يعلن عن موت " يوسف الراوي " زوج زينة وهو الحدث الفاجعة المعذب لنفس "زينة الملكة " ومنطلق استرجاعها لذكرياتها وتفاصيل حياتها ، ومكانة زوجها في وجدانها ، وقد عمق علي أبو الريش تلك العلاقة الرائعة بين الزوجين ، فقد تحابا إلى حد الذوبان وتكللت حياتهما بالسعادة رغم فقرها واتكائها على هبات الجيران ، وعاشا معا التجربة الحسية بكل عشق وامتلاء إلى حد التوحد والالتحام . " فقد سلب منها النوخذا متآمرا مع البحر الدماء التي كانت تلون بها وجهها عند الصباح " ( ص42 ) .ولم تنس زينة كلماته الحانية :" أنت الروح التي ينبض بها قلبي ، والدماء التي تسري في جسدي " ( ً 96 ) .
ويمثل فقدان زينة لزوجها "يوسف الراوي" بداية وعيها بمفهوم الموت ومنطلق بحثها عن الحقيقة الكبرى: " ظلت زينة مسلوبة باتجاه حقيقة مطلقة واحدة ألا وهي الموت ...والكائنات على أرض البسيطة تولد ومن ثم تموت وتنتهي إلى لاشيء دون أن تتوقف لحظة للتأمل في أصل الغياب الأبدي ، بينما هي الوحيدة التي انشغلت منذ غياب يوسف الراوي بأمر الموت ، بل هي ليست مقتنعة أبدا بأسرار الموت التي يجترها الآخرون
( ص123 ) . إن موت زوجها سبب لها الشعور بالتيه والضياع وموته هو موتها ، و صارت تتجرع مرارة الخواء واليأس .
وتظل زينة بعد موت زوجها تشعر بوجوده ، وتراه في أحلامها و في يقظتها ، رافضة فكرة الموت ، حالمة بانبعاث روحه ، لذلك فهي تصورته في صورة الرجل العملاق الخرافي الذي شاهدته في المقبرة . كما تصورته في صورة القمر ، ثم في صورة الجبل العملاق ، الذي حققت به الصعود والانعتاق بعد أن جربت صعودها الأول مع القمر .
" قالت في لحظة استجلاء الحقيقة ، لم يخرج الرجل الخرافي ، من أجل إخافة امرأة وحيدة ضعيفة ، إنما هو ظهر هكذا كصورة مثلى للموت الجميل الذي يعانق الأرواح ويمنحها زهو الخلود، وهو نفسه يوسف الراوي " ( ص 112 )
إن زوجها لم يمت وخاصة ، كان قبل وفاته يحدثها :" لا تخشي شيئا يا زينة ، لن أموت ...لأنني أحببت امرأة رائعة مثلك أنت يا زينة ساكنة قلبي و أنا على يقين من أنني أستعمر فؤادك ... لذلك الذين يحبون لا يموتون " ( ص 94 ) . " و أن الناس النبلاء لا يموتون " " إن أمثال يوسف الراوي لا يموتون فهم قابضون على الحياة ، متمسكون بقيمها الرفيعة ، لا تفارقهم الأنفاس أينما كانوا ، سواء كانوا تحت التراب أو فوقه
( ص 121 ) . إنها فكرة الخلود وانبعاث روح يوسف الراوي ، فكرة تواترت عبر الرواية وزينة " مقتنعة بأن زوجها جاءها في ذاك المساء ليؤكد قناعتها أنه لم يمت ، وأن ما نقل عن وفاته ليس إلا مجرد حيلة رسمها أحمد بن السلطان النوخذا.."( ص 100 ) .
ومن هنا تكشف الرواية عن صورة عميقة للموت ، تجلت بعد انتقام النوخذا من زوج زينة وهو الحدث الذي ينسج خيوط الرواية وتتمحور حوله باقي الأحداث وهو العمود والأساس الذي بني عليه هيكل الرواية ، موت زوج زينة " يوسف الراوي " ، بالرغم من قدرته المهنية وكونه الذراع الأيمن للنوخذا والخبير في مهنة البحر ، إلا أنه لتمرده على ظلم النوخذا الذي يمارس جبروته على الفقراء ، لقي حتفه ودبر له مؤامرة لغرقه، إنها صورة للموت العقاب لكل من تسول له نفسه المطالبة بحقه .
و هنا يوثق علي أبو الريش لمرحلة ما قبل اكتشاف النفط ، حين كان القوي يأكل الضعيف والمالك يملك مصائر الفقراء ، وتعكس الرواية طموح الفرد لتحقيق التوازن الاجتماعي والانسجام بين شرائحه وفئاته .
إن صورة الموت الانتقام فيها إدانة الكاتب للظلم .
ولعل يوسف الراوي الذي دفع حياته ثمنا لتمرده هو صورة الفرد الواعي بقضيته وبمنزلته والرافض للممارسات الجائرة وقد رسم علي أبو الريش على لسان زينة ملامحه رسما فنيا فبدت شخصيته غير عادية ، فيها من الدهشة والإبهار، فهو رجل لغير هذا الزمان ، لما في روحه من جلال الأخلاق ورفعتها * ( صورة يوسف الراوي في دراسة سابقة بالخليج)
ومن خلال رسمه ليوسف الراوي فهو يستنهض همة الضعفاء المتخاذلين للثورة على الاستبداد ويطمح أن تمثل هذه الشريحة المسحوقة جبهة الرفض والتحدي ومقاومة الواقع المتردي والمساهمة في تصحيح الواقع بصورة إيجابية وفاعلة والوصول إلى التوازن الاجتماعي وتحويل العلاقات القائمة بين الفئات الاجتماعية من الشكل الصدامي والعدائي إلى علاقة أساسها الانسجام والوئام .
ويدق جرس الموت مرة ثانية :" قي صباح وغد عبوس ، صحت المرأة المفجوعة على الهول فتحت عينيها على الكارثة ...لا تملك إلا الصرخة تقاوم بها أنياب الفجيعة المباغتة تلوب في فناء البيت كالمجنونة وتطوف بالزوايا في تيه المفاجآت المذهلة وتهرول في الاتجاهات بلا هدى لا تعرف سبيل الأسباب التي أدت إلى موت قطتها الصغيرة سلوى"
( ص22 ) .
لقد عمق علي أبو الريش أثر موت القطة على زينة ، فهو شبيه بحزن الأم على وليدها وهي القطة المدللة التي دأبت على الاحتماء بصدر زينة " بكت زينة بمرارة الحرمان والعدوان الهمجي ... ارتجفت رفعت بصرها إلى السماء ظلت شاهقة واجمة تنوء بوزر حزن أثقل صدرها المتعب "
كان موت القطة سلوى نكبة عظيمة في حياة زينة ، ألح علي أبو الريش على دراميته و صرح به قائلا :" رحيل سلوى فتح فوهة نار حامية ، طالت ألسنتها اللاهبة شغاف من ألفها ،، في هذا النهار انشقت الأرض وابتلعت دماء الجسد الناحل ،واستدارت السماء لتكنس الرائحة الطيبة التي خلفتها سلوى " ( ص28 ) . كما هيج موت القطة ذكرى موت زوجها يوسف واسترجعت حنوه الفائق عليها .
وعكس حزن زينة على قطتها تمردا على الموت ، وهي المرحلة الوجودية التي تعكس الخوف من هذا السر وكان عزاؤها الأمل في عودة الروح إليها . ويمثل هذا الحدث بداية التفكير في مسألة الانبعاث . " زينة لا تريد أن ترى القطة جثة هامدة ... هذه قيامة الله في أرضه هذه الساعة الأخيرة لهيام الأرواح " . و قرب الخيمة تدفن زينة قطتها سلوى بعناية ورفق وتعي زينة بحزنها الشديد هذا فتحدث نفسها : " مات يوسف الراوي وانتزعه الموت من كبدي ، وبقيت وحدي تصفعني الزوايا بوحشية الوحدة القاتمة ، إلا أنني لم أشهد حزنا كهذا الذي أنا فيه رحيل سلوى فتح أمام عيني نفقا أسود لا أستطيع مقاومته " ( ص24 ) .
ولعل هذا الجزع الكبير على موت القطة سلوى تبرره دلالتها ، ألا تكن القطة رمزا للأمل وشعاع النور و الفرحة بالحياة الطليقة الخالصة من أوجاع الواقع ؟ :" رائحة سلوى تملأ زوايا البيت " و" سلوى قطة رائعة عظيمة بعظمة الموت النبيل " .
وصور علي أبو الريش موقف الإنسان المؤمن من تصرف زينة المتبرم من الموت وذلك من خلال شخصية مهرة قارئة القرآن :" همهمت مهرة بضحكة مبهمة ساخرة ساخطة ثم أردفت :" لكن ما تفعلينه شرك ، فهناك نساء ورجال فقدوا فلذات أكبادهم فلم يفعلوا ما تفعلينه ، بل استخاروا الصبر مؤمنين أن الموت حق ، دعك من هذا الإسفاف إنه شرك عظيم " .
وبقدر ما تنظر مهرة للحيوانات نظرة اشمئزاز وتراها رمزا للنجاسة ، فإن زينة تنظر لحيواناتها نظرة مخالفة ، نظرة إنسانية وكثيرا ما فضلت حيواناتها على الناس المنافقين المستبدين ،الفاقدين للقيم .
وترى زينة في قططها وفي كلبها فهد معنى لوجودها ، وقد رددت مرارا إن :" الحياة بدون هذه الكائنات بلهاء جافة " ( ص 26) .
ومثل موت القطة مرحلة جديدة في وعي زينة بمشكلة الموت فصار مفهومه عندها :" رحلة الغياب الطويلة " ووصف علي أبو الريش نظرتها له بقوله " لا يمكن لزينة أن تفكر في الموت سوى أنه كائن حي ، يسير على قدمين يتحدث معها ، ويؤنبها أحيانا .. و أحيانا يغبطها"
( ص30 ) ، واقتنعت زينة أنه لا ضرورة للحزن على سلوى ما دام الأمر مجرد انتقال من عالم إلى عالم آخر " ( ص 30 ) .و هذه خطوة جديدة في وعي زينة بقضية الموت ، والاقتراب إلى منبع الإيمان، وما يدل على هذا التحول ،اعتبارها للموت مجرد تحول من مكان محدود إلى مكان مطلق وقولها :" ربما لا تكون سلوى أحبت عالم الخيمة المزدحم ففكرت في الرحيل ...و هكذا تفعل الكائنات عندما تضيق الأرض وتعيش فإنها تلوذ بالعالم الأوسع ، هكذا يصبح مفهوم الموت تخلصا من المقيد وارتقاء نحو المطلق . وتتبع علي أبو الريش تدرج هذا الوعي بقوله :" نمت الفكرة في رأس زينة ، صارت كبيرة بحجم الغياب ومقدار حبها لسلوى واقتنعت تماما أن الموت ليس فناء أبديا بل هو الاقتراب من مثل أعلى ، سلوى كانت ليست كسائر القطط، كانت تنحو باتجاه النساء ولم تلبث يوما أ ن سقطت في رذيلة التهافت كان ملاذها صدر زينة تستلهم منه خلجات النفس العليا ... الموت ليس معناه إزهاق الروح بل هو الإطلاق والتحرر" ( ص 31 ) .
وتستخلص زينة أن الموت يختار الأرواح النقية ، وعبر الكاتب عن هذه الفكرة بقوله :" إن الله سعيد بمجاورة سلوى لبنيانه الرفيع، وهي قطة فاضلة لا تسقط عيناها إلا على المثل العليا " ( ص 32 ) .
" لا أعتقد الموت كائنا بغيضا ...إنه عندما يأخذ الأرواح يميز بين اللئيم والحليم ...لقد انتزع روح النوخذا ليذهب إلى جحيم مؤكد ، بينما رافق روح الراوي وكذلك القطط إلى حيث أعيش هنا...لا يمكن أن يذهب يوسف الراوي بعيدا وكذلك القطط.... لا شيء أذكر عن الموت ، إنه الفطنة الوحيدة على هذه الأرض .." ( ص 184 ) .
إن هذا التحول غير حزن زينة إلى سعادة باعتبار الموت هو خلود في الفضاء الأعلى :" انفرجت أساريرها ...فكرت مليا وبصرت القبر جليا وانداحت أمام عينيها فكرة جديدة ربما تكون غريبة لكنها الأقرب إلى قناعتها ، الغياب مسألة رائعة أن يغيب الإنسان ، يذهب بهدوء كما جاء ،
بهدوء تفتقت السماء عن وميض كان أشبه بالبهاء الذي ينزل على العينين ثم يسرق الحقيقة ليضعها على كتف المشتاق للمثل "
ويصرح علي أبو الريش بالمفهوم الجديد للموت في تصور زينة :" الموت ليس معناه إزهاق الروح بل هو الانطلاق والتحرر والدخول في بهاء أوسع " ( ص 31 ) .
وإذا كان النوخذا قتل يوسف الراوي دفاعا عن مكاسبه المادية وتمسكا بمستواه المادي وقد تضمنت الرواية العديد من الإشارات الكاشفة ل تقديس النوخذا للمال ، فإن موت الفتاة سلمى على يدي والدها ، دفاعا عن شرفه تعكس صورة أخرى للموت الانتقام وهو تجسيد للظلم الاجتماعي في أبشع صوره و أضراها ، ظلم يمارس داخل الأسرة ، الشريحة الخلية للمجتمع ظلم يمارسه الوالد على المولود ومن هنا يبرز لنا الكاتب مواطن الخلل في المجتمع والقطيعة بين الآباء والأبناء والصراع الدموي بينهما.
وإذا صور علي أبو الريش انبعاث الفتاة المقتولة على يدي والدها وإعلانها عن براءتها وإفصاحها بجريمة والدها فهذا احتجاج منه على هذا السلوك اللاإنساني وإن هذا الانتقام ليس هو الحل وإنما الحل يكمن في التخلص من الأسباب والظروف التي تصنع الصراع وتمضي به إلى النهاية المأساوية . وعلى الجيل القديم أن يتفهم طبيعة الواقع الجديد ويتخلص من رواسب العادات المتحجرة ويسلك طريق التعقل والخيار الإنساني الأفضل .وما شعور الأب بالندم بعد قتله لابنته غير صراعه مع واقع العادات المتحجرة . ما انبعاث الفتاة في المقبرة أمام عيني زينة إلا ـأكيدا على فكرة خلود الروح ، وأن الموت ليس نهاية الحياة .
وتصبغ أحداث الموت المتكرر المكان بمسحة الحزن حتى في المناسبات السعيدة التي يفترض أن يفرح فيها الناس ، أيام العيد وكذلك في المكان الذي تعود الناس أن يكون مصدر سعادتهم وألفتهم وهو سدرة بيت أبو حميد :" في الصباح الباكر كانت سدرة بيت أبو حميد تشهد حدثا دراميا
أسيفا ومحزنا ... كانت بنات معيريض يتجمعن من كل حدب وصوب وبملابس العيد المنقوشة والمزركشة والمنقطة بدوائر الزري ... جل البنات بخضاب العيد ورائحة الحناء وزعفران الفرح ... قفزت الذاكرة نحو نواح مزر ألهب فؤاد المرأة ، تذكرت تلك الفتاة التي انزلقت من حبل الأرجوحة لتقع على التراب الحجري مغشيا عليها فاستحال فرح العيد إلى نكبة "
( ص103 ) .

الموت الفلسفي الرمزي في الرواية والتجربة الروحية :
بعد رحلة طويلة من التأملات، وبعد تكرر أحداث الموت المحدقة بحياة زينة ، وبعد صراعات حادة مع الذات ومع الناس وتناقضاتهم ، تحول مفهوم الموت في تفكير زينة إلى معنى جميل ، فهو لا يتعارض مع الحياة بل هو القيمة الإيجابية لها ، وبعد أن سيطرت فكرة الموت على تفكيرها وتسربلت حياتها بالخوف وعدم القدرة على التكيف مع المجتمع ،وقوي إحساسها بالغربة والتهميش ، في خيمة مظلمة ، متعفنة، ينيرها مصباح خافت ، والمعاناة من العزلة وانعدام تواصلها مع الناس ، أصبح وضعها مأزوما وقوي إحساسها بالإحباط و تكثفت نظرتها السوداوية للوجود ، وبلغت ذروة اللاتوازن مع العالم ، فظهرت أمامها علاقة الحب والموت
:" هذا الجبل الشامخ الذي يقطن بجواري ، ليس إلا جبل الحب ..آه ..الحب هو الموت بعينه ...الذي يحب لا يموت .." ( ص 184 ) .
ولا يخفى على أحد علاقة الحب بالموت في التصوف الإسلامي، سواء على مستوى الحب الحسي أو على مستوى الحب الروحي ، فمن علامات تلك العلاقة أنها علاقة تدل على المشاعر النبيلة الصادقة أثر من آثار هذا العالم الفاني تنقل صاحبها إلى العالم الباقي ، فالمحبة هي الوصل بين الأرواح ، ورمز البقاء الأصدق في هذا الوجود . وحب زينة رمز لصفاء روحها ،وخلو نفسها من عفن البدن ، وحبها الصادق للمثل ولزوجها ولحيواناتها مكنها من الوصول إلى حب الله ،وهيّأها لتفهم أسرار الكون
هذا الحب أمد زينة بوجود أعلى و أشرف من الوجود المحسوس .
ومن دلالة هذا الحب إرادة الحياة التي لا يمكن أن تنتهي بالموت بل تتواصل بوجود لا ينغصه الفناء ، وفي إرادة الموت تذوب الفردية ،
ويبقى المطلق ، أعلى صور الإرادة و أكملها وهذا أبدع ما في التصوف الإسلامي .
وهذا الحب جعل زينة تختار الموت الجميل الذي ترى فيه خلاصها من واقعها المتردي . وكان فقدانها لزوجها ثم لحيواناتها تلك الروابط الوحيدة التي تعطي معنى لوجودها سببا في اختيارها الموت، الذي نفذت لجوهره وتخطت معناه السطحي بوعيها لزيف الحياة :" الحياة تشبه الناس الغادرين المنافقين الماكرين ، تصنع الأشياء جميلة ، رائعة ، براقة ، ثم تتخلى عنها لتسلمها لقبضة الموت ...الموت هو الكائن الوحيد الشفاف ، الجريء الصادق ، المحنك الذي لا يعرف الخديعة ولا يرتكب الرذيلة ...إنه يأخذ الأشياء إلى العميق ، المعتم ، يحفظها ويهيل عليها التراب كي يستر فقرها وعجزها ، ثم يلتفت إلى أشياء أخرى ،الناس يخشون الموت وكأنه الغاصب المحتل ، بيد أنهم لا يعون أن ما تقدمه الحياة هو ضوء كاذب .." ( ص 120 ) .
" إن الموت حياة أخرى أجمل ، وأروع ، وأكثر صدقا " ( ص 121 )
وهو الخلاص لها من عذاباتها والمطهر لآلامها ولحالة الانتظار القاسية التي تعيش عليها . وصار الموت في هذه المرحلة محققا لكرامتها بعد أن كان مدمرا لها . وألح الكاتب على هذا التحول الجذري في صورة الموت بقوله :"الموت الذي كانت تعتقده كائنا مخيفا يقتحم الأجساد فجأة ويذهب بأرواحها إلى المجهول ويدع الأجساد هامدة ، تغيب بعد وقت كثير من زوال الروح تحت ركام الرمل بلا رجعة ، أصبحت الآن تقرأ ملامحه بروح شقية ، حية، تحدثه ، تبتسم في وجهه ، تستقبله بمزاج رائع لا تشوبه دمعات الأنين " ( ص 60 ) .
وجسد علي أبو الريش شوقها إلى الموت بقوله :" هي الآن لا تفكر في هذا العمر لا تفكر في الموت كونه نهاية بقدر ما تفكر به ككائن حي ، تريد أن يقبل عليها في ليلة ليحدثها عن سيرة الذين رافقوه :" ( ص 188 ) .
لقد جسد علي أبو الريش في روايته هذه صراع الإنسان مع الموت وهو خيار أمامه لحياة غير مجدية ، حياة أبشع من الموت وقد عاشت زينة ضربين من الموت موتا داخليا نفسيا ينخر فكرها وموتا خارجيا يصبغ وجودها بالقتامة ، موت مركب في صورة ظاهرة وأخرى لامرئية .
إن الحيرة الوجودية التي مرت بها زينة جعلتها تتساءل هل تواصل الموت في الحياة راضية بالعذاب ؟ أم تغتال هذه الحياة المريرة وترحب بالموت الجميل وتستعجله بشوق لتلحق بزوجها يوسف الراوي .
إن هذا المعنى الفلسفي للموت الذي صوره علي أبو الريش في رواية "زينة الملكة "عكس فيه وعي الإنسان المتمرد غير المقتنع بجدوى وجوده ، موقف الرفض والاحتجاج على كل الممارسات اللاإنسانية وذلك بالهروب والاعتزال وقد عمق الحس العبثي التشاؤمي مما جعل الشخصية بهروبها من واقعها شخصية انهزامية وسلبية ، تهرب من الواقع إلى عالم الحلم والخيال وتحقق ما حرمت منه بعد فقدان زوجها ، كأن تتزوج من القمر وتنجب منه ولكن هروبها هذا ملاذ أخير للتطهر من أدران الحياة وسرابها الخلب :" لا يخطر ببال أحد لو قالت زينة لجار أو جاره
إنها تزوجت في ذات يوم القمر، وأنجبت مكنه البنات والبنين ، وكانت تضاهي الشمس في حميتها وسعيرها ..كان القمر يقول فيها شعرا حزينا ...هذه الحكاية سرية ولم تسردها لأحد خشية أن توصف بالجنون ...أرسل القمر إشارته الأولى ، كانت رسالة عبارة عن قطرة ماء عذبة تلقفتها زينة بشفتين ناشفتين ...بعد ذلك أصبحت زينة مسكونة بهذا الحب معلقة بين السماء والأرض " ( ص 133 ) .
أو تتخيل بعلها يوسف في صورة الجبل الذي حط أمام خيمتها وتلتحم به غائبة معه في عالمه بعيدة عن الأرض :"نظرت إلى العراء ، لكن الجبل يدوي هو أشبه برجل الشريشة ؟ يذكرني هذا بيوسف الراوي ، كان رقيقا شفافا ...لكنه في صلابة الجبال وشموخ الدوح الأشم ...صمتت لكن الجبل يدوي يهدر، ويهز صخوره كأنه الزلزال ... تشوقت شعرت أن الخيمة الوضيعة ، لا تسع مشاعرها المتوقدة ... بهتت زينة قالت هذا هو يوسف الراوي هذا الشفق المنشق عن ومضة الحلم ... أنا لا أحلم بل أنا يقظة ... صارت يداها جناحين ، وصار جناحاها شراعا يسبح في الفضاء .. يا إلهي ! ما أسعد الإنسان عندما يغادر الأرض الملعونة ... حلقت زينة كان " باب سلامة "ينشق عن موجات وأعماق ، زرقاء تغوص في ألوان حقيقتها أسرار وألغاز .. كان الناس يحكون عن باب سلامة القصص المرعبة وعن الموت الذي يتربص بالأشرعة والرؤوس ، هنا في هذا المدخل الضيق المحتشد بزرقة الضجيج وعتمة الخوف .. بدا الجبل باسما .. بعد مضي زمن ، فتحت زينة عينيها ، نظرت إلى أسفل قدميها ، لمحت بئرا عميقة تبتلع فرحتها .. حدثت الكلب قالت : ما أريد أن ألمسه هو هذا الموت الجميل ، لولاه لما حلم الناس بالحياة ولما فكروا في مقايضته بالحلم ، ما بين الموت والحياة حلم كل الأشياء التي تبدو رائعة هي من صنيع الموت .." ( ص 200 )
وفي هذه المرحلة تحققت زينة "أن الوصول إلى ذروة الموت هو أقصى حالات النشوة " ( ص 204 ) ويصور علي أبو الريش معانقتها للموت في لغة شاعرية شفافة صافية في صفاء الفضاء الذي حلقت فيه وبتفاصيل دقيقة :" لا أحد هنا في الملكوت سواها ويوسف الراوي يبتسم للموت ... تحمل فرحتها على صفحة قلب أخضر ... صمتت زينة ، غابت أجهضت الوعي نافرة صوب الرحاب الواسعة ... صمتت وكل شيء سكن متكئة على الغياب في صحبة الموت ..وهي في السفر الأخير في سطوة الغياب الجميل ، في زرقة النهاية.. لا ضير أن أفتح عيني لأرى يوسف الراوي وقد نام في مهد قيلولته الحالمة يضع يدي على وجهه
ثم يقبل وجهي ويقول : لا تجزعي يا زينة، يا ملكة ، لا يفزعك الغياب فخلودك هذا يكفيني ... كانت الغفوة العميقة تسيطر على زينة وكانت سطوتها الرائعة تمنحها نشوة الخلق الجديد ... " ( ص211 ) .
لقد حققت زينة ولادة جديدة وانبعاثا ، فيه لذة الذوق ، وأمّنت راحتها بالرجوع إلى الوطن الأصل ، حضن الجبل ، رمز الطبيعة البكر، بعيدا عن زيف الدنيا وسعار التهافت والغرور والشهوات والفناء الجميل في ذات المحبوب . و نلاحظ بوضوح ، المرجعية الصوفية الإسلامية ، في أحسن توظيف ، تتجلى في بروز خصائص الأحوال الصوفية كالشعور بالخلود وتلاشي الخوف من الموت والإحساس بالسعادة ، والشعور بالفناء التام في الحقيقة المطلقة وخرق حواجز الزمان والمكان وصورة المحبة الشاملة تلميحا إلى وحدة الوجود ، وهو مفهوم متفق عليه عند المتصوفة ، والإشارة إلى أن الموت لا يصيب إلا صورنا المحسوسة الفانية كما عبر عن هذا ابن عربي :" و إن فسدت الصورة في الحس فإن الحد يضبطها والخيال لا يزيلها " .
إنّ علي أبو الريش من منطلق المرجعية الصوفية تصدى للوجود الروحي لحل معضلة الموت، الذي فيه خلاص الإنسان من أزمته الوجودية .
وقد استطاعت زينة بلوغ هذه المرتبة لأن قلبها خرق أستار الحجب وكثافة الحواجز نحو إدراك السر، ولأن روحها تعطرت بشذى التبتل العميق و لم تدرك هذا المقام بمدد من العقل فقط ، بل وإنما أدركته بمرتقى لا يدرك بالأبصار ، وإنما عن طريق الحدس وهو المرقى الذي يعرج فيه الإنسان بروحه صعدا في طراز رفيع من النفحات العلوية ، طراز الروح الصافية .
لقد خلص علي أبو الريش إلى أن الموت ليس مشكلة ، لأنه شيء يرد إلى الشعور بالذات ، كما أنه شيء متناقض في ذاته عصي على الفهم لا يفهم إلا بالمكابدة وترويض النفس ، ولكن في الحقيقة مشكلة الإيمان الذي يقبله وجدان ويرفضه وجدان المنكر ، هو الحل لهذه القضية .
لقد بين الكاتب أنه عندما تختفي صفة الذاتية يصير الموت وصلا مع الكون و مع الله واتصالا جوهريا تكمن فيه الصفة الأساسية التي ينشدها صاحب الحقيقة ، علاقة مباشرة مع المطلق وهذا تأكيد على القيمة الروحية ، فالوجود الحقيقي هو الوجود الروحي وهو العالم الأفضل و الأبقى .إنه حل لمشكلة الموت حلا صوفيا عن طريق الإيمان ومن هنا تعلن الرواية عن فلسفة وجودية إسلامية