عرض مشاركة واحدة
قديم 03-30-2011, 12:40 AM
المشاركة 3
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
والت ويتمان .. Walt Whitman


(1819-1892)


هذا ليس كتاباً لأن من يلمسه يلمس إنساناً



مئة وخمسون سنة على صدور

"أوراق العشب" لويتمان



عام 1855 وبعد محاولات عدة فاشلة، تمكن الشاعر الأميركي والت ويتمان من العثور على مطبعة صغيرة في بروكلين، وافق صاحبها على طباعة مجلد شعري صغير له، في خمس وتسعين صفحة، ويضم إثنتي عشرة قصيدة تحت عنوان "أوراق العشب". هذه المجموعة لم تحظَ آنذاك بسوى قليل من التعليق والنقد، معظمه سلبي إلى حد التسفيه والتقذيع، لكنها أضحت في ما بعد إنجيل أميركا الجديد وصاحبها نبي الأخوة والديمقراطية.

انصرف ويتمان طوال حياته، عوض تأليف كتب جديدة، إلى مواصلة العمل على تلك المجموعة وتطويرها مضيفاً إليها الجديد من القصائد ومنقحاً القديم منها، لتتوالى طبعاتها على مدى سبعة وثلاثين عاماً في تسعة إصدارات مختلفة، آخرها كان عام 1892 أي عام وفاة الشاعر، ولتتجاوز صفحاتها الأربعمئة.

اليوم مع مرور قرن ونصف قرن على إصدارها الأول، من المفيد إعادة قراءة هذا العمل الخلاّق في ضوء الحاضر، والغوص من جديد في منجزات هذا الأثر الفني الذي به على قول عازرا باوند، "كسر ويتمان ظهر الوزن التقليدي" ومنه انطلق قرع الطبول الأولى ليبشر بولادة قصيدة النثر الحديثة، وليفتح الدرب أمام تجارب عدة أعقبته وزلزلت عالم الشعر شكلاً ومضموناً.

يستدعي تأمل هذا العمل أولاً: الإحاطة بالظروف الموضوعية والتاريخية التي رافقت حياة ويتمان، وساهمت في تبلور أفكاره ومفاهيمه، وصوغ تجربته الشعرية.
ثانياً: الوقوف على طبيعة الرؤية النقدية له منذ صدوره حتى يومنا الحاضر، في سياق تاريخي يلقي الضوء على ما شهدته الحياة الأميركية من تغيرات وتطورات على مختلف الصعد، وعلى تأثير هذا العمل في مسار الشعر الحديث، ومدى أهميته وفاعليته في تجارب بعض شعراء الحداثة الأميركيين والعالميين.
ثالثاً: محاولة نقلصورة حيّة لبعض انفعالات القارىء المعاصر ومشاعره وبعض مواقفه النقدية إزاء أشعار ويتمان اليوم.

" ما من صديق لي يرتاح في كرسيي/ ليس لي كرسيولا كنيسة ولا فلسفة"


والت ويتمان:

والت ويتمان هذا "الشاعر الأشيب الطيب" بحسب تسمية "وليام أوكانور" له، هذا البوهيمي الريفي الذي لا يخلو سلوكه من الفظاظة ولا مظهره من الخشونة، لم يكن ليخطر في باله قط وهو يخطو خطواته الأولى نحو عالم الأدب والشعر، أن أميركا لم تحظَ قبله بأي شاعر تجري في كتاباته دماء رجل عاد يمثله!


أول العشب وآخر السنديان:

لم يكن ثمة ما يشير في بداية حياة ويتمان إلى أنه سيحظى بمستقبل عظيم أو فريد. ولد عام 1819 في بيت خشبي متواضع في ضاحية صغيرة من ضواحي "اللونغ آيلند" في نيويورك. أبوه كان نجاراً وأمه امرأة ورعة لا تتوقف عن الدعاء والصلاة. وكان له ثمانية أشقاء. ونظراً لكبر عائلته وعوزها، لم يتسنَ لويتمان الحصول على أكثر من تعليم إبتدائي بسيط. في عمر الحادية عشر انقطع عن الدراسة ليبدأ العمل في مهن متنوعة، أولها كان منظفاً في مطبعة ثم منضداً للحروف. ما بين عمر السابعة عشر والعشرين استطاع هذا الفتى شبه المتعلم أن يصبح معلماً في إحدى المدارس الريفية. في هذه الفترة بدأ بنشر قصائده الأولى، وبالإنخراط في بعض النشاطات الثقافية في مدينة نيويورك.

عام 1838 انصرف ويتمان عن مهنة التعليم إلى مهنة الصحافة، واشترى بمساعدة مالية من أصدقائه مطبعة صغيرة في بلدته وبدأ بإصدارصحيفة أسبوعية أسماها "اللونغ آيلندر". غير أن مغامرته هذه لم تدم لأكثر من عام واحد بعدما قادته إلى الإفلاس. في السنوات التالية، لم يتخل ويتمان عن مهنة الصحافة، سوى أن طبيعته الحالمة وقلقه الدائم وعدم قدرته على المواظبة والإنضباط وأحيانا مواقفه السياسية، حالوا جميعهم دون استقراره في وظيفة واحدة مدة طويلة، وقادوه إلى خسارة مناصب مميزة منها منصب رئيس تحرير صحيفة "نسربروكلين".

أثناء عمله الصحافي، كتب ويتمان في موضوعات متنوعة، تراوحت بين التعليم والموسيقى والأخلاق ومحاربة الإدمان والإرشاد. قصائده وقصصه في تلك الفترة كانت وعظية، تقليدية، عاطفية، تعكس المفاهيم الدينية والأخلاقية والفكرية لعصره.

ورغم أنه كان ناشطاً سياسياً من مؤيدي الحزب الديمقراطي، غير أنه لم يسع قط إلى تحقيق أية مكانة أو مستقبل خارج إطار الصحافة الأدبية والشعر. وبعيداً عن السياسة، انتقل ويتمان إلى مدينة "نيو أورلينز" في ولاية لويزيانا للعمل في صحيفة حديثة التأسيس، لكن صاحبها لم ترقَ له كتابات ويتمان التي تناولت شؤون الطبقات الدنيا، وتعاطفت مع البحارة وعمال الموانىء والعاطلين عن العمل وغيرهم، فطرده من صحيفته، مما اضطره إلى العودة إلى نيويورك في رحلة بحرية طويلة سيظل يتذكرها طيلة حياته.


عام 1850، بعد فشله الذريع في تحقيق بعض الإستقرار المادي أو النفسي، وإخفاقه في بناء شهرة في مجالي الشعر والصحافة، انكفأ ويتمان عن العمل في الصحافة متفرغاً كلياً للكتابة الشعرية. ثمة من يعتبر المرحلة من حياة ويتمان ما بين 1850 و1855 الأهم له فكرياً وروحياً وإن بدت الأكثر فشلاً مهنياً، إذ أنه في مرحلة انطوائه هذه كان غزير الإنتاج الشعري، إضافة إلى أنه بدأ بكتابة قصائد مختلفة في جوهرها وتطلعاتها وأسلوبها عما سبقها من قصائده الركيكة. وكان أبرز تقنياته الشعرية الجديدة تخليه عن القافية والوزن.


تجمعت لدى ويتمان في هذه الفترة من الكتابات ما تراوح بين الشعر والنثر، فألف منها مجموعة أسماها "اوراق العشب" نسبةً إلى العشب الشائع الذي ينبت في كل مكان.
لم يتعاط النقد برأفة أو لين مع هذه المجموعة التي جاءت منافية لنماذج أداب اللغة الإنكليزية، الرصينة المحتوى، المثقفة النبرة، والمشذبة اللغة.

اللافت أيضاً أن هذه المجموعة التي توخى منها ويتمان مخاطبة الإنسان العادي في عصره من خلال محاكاتها لمعتقداته وآمانيه ولعناته وأغانيه ولهجاته العامية، لم تفلح قط في استدراج سمعه أو لفت انتباهه، بل على العكس كان له منها موقفاً أخلاقياً متشدداً يتجاوز في تقليديته ورجعيته موقف النخبة المثقفة الأرستقراطية، وخصوصاً أن الإصدار الثالث من أوراق العشب عام 1860 اتخذ منحى إيروتيكيا ولغويا مفارقاً بلغ ذروته.


مع نشوب الحرب الأهلية عام 1860، ما كان من هذا الشاعر الشعبي الذي طالما ضجت كتاباته بالعاطفة الأخوية والقيم الإنسانية، سوى أن يثبت قوله بالفعل. فتطوع ممرضاً لمؤاساة الجرحى في المستشفيات. غير أن حالة الإجهاد التي انتابته عاطفيا وجسديا دفعته إلى العودة إلى بروكلين.


منتصف عام 1864 بعدما استنزفت فواجع ثلاث طرأت على محيط عائلته قواه المتبقية: فاجعة أخ قضى بالسل، وآخر وقع أسير حرب وظل مجهول المصير لمدة، وثالث أصابه الجنون مما استدعى إدخاله مصحاً للأمراض العقلية.


لكن بداية عام 1865 حملت لويتمان بعض الإستقرار المادي، وذلك إثر حصوله على وظيفة حكومية في وزارة الداخلية في واشنطن. اختبارات الحرب منحت شعر ويتمان مزيداً من القوة والزخم أكثر ما تجليا في سلسلة قصائد جديدة أصدرها عام 1865 تحت عنوان "قرع الطبول". سرعة نفاد هذه الطبعة، شجّع ويتمان على إعادة إصدارها، مضيفاً إليها ملحقاً يضم مزيداً من القصائد تحت عنوان "تتمة إلى قرع الطبول"، وأهم ما تضمنته الأخيرة، قصيدتاه في رثاء الرئيس أبراهام لنكولن اللتان تعتبران من أبرز المراثي وأنبلها في اللغة الإنكليزية.


مع ظهور الإصدار الخامس من مجموعته بدأت شهرة ويتمان تذيع في كل أرجاء القارة الأميركية وعبر البحار أيضاً. لكن ما إن بدأت حياته الأدبية تتخذ مساراًَ إيجابياً حتى داهم القدر حالته الصحية، إذ أصيب بشلل نصفي نتيجة جلطة دماغية، في أوائل عام 1873، وهو العام نفسه الذي قضت فيه والدته تاركةً إياه كومة حطام ليس أكثر. مرضه أدى به إلى خسارة عمله، وعليه فإن معيشته اعتمدت في هذه الفترة حتى مماته، على النذر اليسير من المال الذي كان يصله من ريع كتبه، وتبرعات بعض الشعراء الأميركيين والإنكليز من أصدقائه.

في السنوات الأخيرة من حياته، أقام ويتمان في "كامدن" في ولاية نيوجرسي. إصداره الأخير من أوراق العشب ظهرعام 1892، عام مماته، لذا لُقب بِ"طبعة فراش الإحتضار". هذا الإصدار مثل في نظر ويتمان العمل الأكثر كمالاً واكتمالاً من بين كل سابقاته. أيضاً في العام نفسه، صدرت لويتمان مجموعته النثرية الكاملة؛ كل ما أعرب الشاعر عن رغبته في تخليده. في 26 آذار قضى ويتمان جراء إصابته بداء ذات الرئة ودفن في "كامدن". وهكذا تخلّد العشب ومات السنديان.


كثر المسائل التي ظلت إثارة للجدال والتكهنات بعد موت ويتمان، طبيعة هويته الجنسية. طوال حياته ظلّ ويتمان متستراً عليها، ومحاذراً البوح بسرها، حتى أن بين النقاد لاحقاً، من اعتبر أنّ تلك العاطفة الأخوية بين الرجال التي تضجّ بها أشعاره، ما هي حقيقةً إلاّ غطاء عاطفي أفلاطوني لإنحرافه الجنسي، لا بل منهم من قال بإمكانية استبدال كلمة "روحي" في شعره بكلمة "جنسي"! لاغرابة بعد ذلك في رثاء ويتمان لحاله بقوله: "لن تفهموني أبداً"، أو في إشارته للقارىء: "أواه، أقول، هذه ليست أعضاء أو قصائد الجسد فقط، بل والروح أيضاً".

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)