عرض مشاركة واحدة
قديم 08-14-2010, 09:10 PM
المشاركة 10
أحمد صالح
ابن منابر الـبــار

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي تابع
انتهي من القراءة بعد سماعه إشارة منع التجول. وعندما مضي ليطفىء المصباح تأكد اعتقاده بان زوجته مازالت مستيقظة:
ـ أما زلت تحتفظين بتلك القصاصة
فكرت المرأة، وقالت:
ـ أجل، يجب أن تكون محفوظة مع الأوراق الأخرى.
خرجت من تحت الكلٌة وأخرجت من الخزانة صندوقا خشبيا به حزمة من الرسائل المرتبة حسب تواريخها والمشدودة إلى بعضها برباط مطاطي. سحبت من بينها إعلانا من وكالة للمحاماة يعد بمتابعة فعالة لقضية رواتب المتقاعدين بعد الحرب.
ـ لو أنك فعلت هذا منذ بدأت أحدثك بموضوع استبدال المحامي لكان لدينا متسع من الوقت حتى لإنفاق المال قالت المرأة وهي تسلم لزوجها قصاصة الجريدة، ثم أردفت:
ـ إذا ما وضعوه لنا في صندوق كما يفعلون بالهنود.
قرأ الكولونيل القصاصة التي تحمل تاريخا مضت عليه سنتان، ووضعها في جيب القميص المعلق وراء الباب.
ـ السيئ في الأمر هو أن استبدال محام بآخر يتطلب نقودا.
فقالت المرأة بتصميم:
ـ لاشيء من هذا. اكتب لهم قائلا بان يحسموا المبلغ الذي يريدونه من الراتب التقاعدي نفسه عندما يحصلون عليه. أنها الطريقة الوحيدة لجعلهم يهتمون بالقضية.
وهكذا ذهب الكولونيل مساء يوم السبت لزيارة محاميه فوجده مستلقيا على السرير المعلق دون هموم. كان رجلا اسود يشبه تمثالا ضخما، ليس له سوي نابين في فكه العلوي. دسٌ المحامي قدميه في خفٌ نعله من الخشب وفتح نافذة المكتب من فوق بيانو أوتوماتيكي يغطيه الغبار وعليه أوراق محشوة في فراغات لفافات اسطوانية وقصاصات من 'الجريدة الرسمية' ملصقة بالصمغ على دفاتر قديمة لمسك الحسابات، ومجموعة من نشرات المحاسبة للإطلاع. وكان البيانو الأوتوماتيكي الذي بلا مفاتيح يستخدم كطاولة للكتابة.
بدأ الكولونيل بعرض ما يساوره من قلق قبل أن يعلن عن غرض زيارته.
'لقد حذرتك من قبل بأن القضية لن تحل بين يوم وآخر'، قال المحامي مستغلا احدي وقفات الكولونيل عن الحديث. كان الحر يسحقه. فشّد إلى الوراء نوابض مسند الكرسي وحرك أما وجهه قطعة من الورق المقوي عليها كتابة دعائية مستخدما إياها كمروحة، وقال:
ـ أن وكلائي كثيرا ما يكتبون إلى بأنه يجب ألا نيأس. فرد الكولونيل:
ـ إني أسمع هذا الكلام ذاته منذ خمسة عشر عاما. لقد أصبح هذا الكلام مثل حكاية الديك المخصي.
قدم المحامي شرحا بيانيا مسهبا للصعوبات الإدارية التي تعترضه. كان الكرسي ضيقا جدا بالنسبة لاليتيه الخريفتين.
قال 'منذ خمس عشرة سنة كان الأمر أكثر سهولة، ففي ذلك الوقت كانت عناصر الجمعية البلدية لقدماء المحاربين مؤلفة من كلا الحزبين'. ملأ رئتيه بهواء حارق، ثم تلفظ بعبارة حكيمة وكأنه انتهي من اختراعها لتوه:
ـ الاتحاد يصنع القوة.
قال الكولونيل، وقد تنبه لأول مرة في حياته إلى عزلته:
ـ ولكنه لم يفعل ذلك في قضيتنا. فجميع رفاقي ماتوا وهم ينتظرون البريد.
لم يتأثر المحامي. وقال:
ـ لقد صدر القانون متأخرا جدا. ولم يحظ الجميع بحظ مثل حظك فقد كنت كولونيلا في العشرين من العمر. وأضيفت بعد هذا مادة خاصة للقانون، ولهذا كان على الحكومة أن تقوم بترقيع في الميزانية.
دائما نفس القصة. وفي كل مرة يسمعها الكولونيل يشعر بحقد أصم. 'أن ما اطلبه ليس صدقة. ليس قضية تقديم إحسان. لقد تمزقت جلودنا لننقذ الجمهورية'.
فتح المحامي ذراعيه وقال:
ـ نعم. الأمر هكذا أيها الكولونيل. ولكن الجحود البشري لا حدود له وهذه لقصة يعرفها أيضا الكولونيل. فقد بدأ يسمعها منذ اليوم التالي لاتفاقية 'نيرلانديا' عندما وعدت الحكومة بتقديم بدل سفر وتعويض لمائتين من ضباط الثورة. وعسكرت حول شجرة الثييبا العملاقة في نيرلانديا فرقة ثورية مؤلفة في غالبيتها من شبان يافعين هاربين من مدارسهم، وانتظرت الفرقة طوال شهور ثلاثة. رجع أفرادها بعد ذلك إلى بيوتهم على نفقتهم الخاصة وهناك تابعوا الانتظار. وبعد مرور ستين سنة تقريبا مازال الكولونيل ينتظر.
وهاج الكولونيل بتأثير هذه الذكريات، فاتخذ وضعا خطيرا: اسند يده اليمني على عظم الفخذ، ودمدم:
ـ لقد صممت على اتخاذ قرار.
وقف المحامي حائرا:
ـ ماذا تعني
ـ استبدال المحامي.
دخلت بطة يتبعها عدد من فراخها إلى المكتب. فنهض المحامي ليطردها خارجا، 'كما تشاء أيها الكولونيل'. قال وهو يهش تلك الحيوانات. 'سيكون لك ما تريد. ولو كنت قادرا على تحقيق المعجزات لما عشت في هذا القن'. وضع حاجزا خشبيا على باب البهو ثم عاد إلى مقعده.
قال الكولونيل:
ـ لقد اشتغل ابني طوال حياته، وبيتي مرهون.. لقد أصبح قانون التقاعد مصدر تقاعد للمحامين مدي الحياة.
فاعترض المحامي:
ـ ولكنه ليس كذلك بالنسبة لي. فقد أنفقت النقود حتى أخرها في تقديم الالتماسات.
تألم الكولونيل لتفكيره بأنه وقع ضحية ظلم. فقال مصححا:
هذا ما أردت قوله ثم جفف جبهته بكم قميصه، وتابع:
ـ أن براغي الرأس قد صدئت بسبب هذا الحر.
بعد لحظة، قلب المحامي المكتب بحثا عن التوكيل. وتقدمت الشمس نحو منتصف الغرفة الضيقة المشادة من أخشاب دون سحج. وبعد أن بحث في كل مكان دون فائدة، انحني على يديه ورجليه، وهو يزفر، وتناول لفافة أوراق من تحت البيانو الأوتوماتيكي:
ـ هاهو.
ثم قدم للكولونيل ورقة عليها عدة أختام، وأضاف: 'يجب أن اكتب إلى وكلائي لأتلاف النسخ التي لديهم'، نفض الكولونيل الغبار ووضع الورقة في جيب قميصه.
ـ مزقها أنت بنفسك.
'لا'، أجاب الكولونيل. 'أنها عشرون سنة من الذكريات'. وانتظر أن يتابع المحامي بحثه. ولكنه لم يفعل ذلك. مضي نحو السرير المعلق ليجفف العرق. ومن هناك نظر إلى الكولونيل من خلال الفراغ المتلالىء.
ـ إنني بحاجة للوثائق أيضا قال الكولونيل.
ـ أية وثائق.
ـ الإثباتات.
فتح المحامي ذراعيه قائلا:
ـ سيكون هذا مستحيلا أيها الكولونيل.
ذعر الكولونيل. لأنه عندما كان ضابطا ماليا للثورة في إقليم ماكوندو، قام برحلة شاقة استمرت ستة أيام وهو يحمل أرصدة وأموال الحرب الأهلية في صندوقين مربوطين على متن بغلة ليصل إلى معسكر نيرلانديا، وهو يجر البغلة التي قتلها الجوع. قبل نصف ساعة من توقيع الاتفاقية. وقد أعطاه الكولونيل اوريليانو بوينديا رئيس إدارة التموين العامة للقوات الثورية على شاطىء الأطلنطي إيصالا بالأموال وأدخل الصندوقين في قائمة الجرد الخاصة بالاستلام.
قال الكولونيل:
ـ أنها وثائق ذات قيمة لا تقدر. ويوجد بينها إيصال مكتوب بخط ويد الكولونيل اوريليانو بوينديا.
قال المحامي:
ـ أعرف ذلك. ولكن هذه الوثائق مرت على آلاف وآلاف الأيدي، وعلى آلاف وآلاف المكاتب حتى وصلت، من يدري، إلى أية دائرة في وزارة الحربية.
ـ إن وثائق من هذا النوع لا يمكن أن تمر على أي موظف دون أن يوليها الأهمية. قال الكولونيل.
فرد المحامي مدققا:
ـ ولكن الموظفين تبدلوا عدة مرات خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة.. تذكر بأن ستة رؤساء قد تبادلوا السلطة وكل رئيس غير أعضاء حكومته عشر مرات على الأقل وكل وزير استبدل موظفيه مائة مرة على الأقل.
قال الكولونيل :
ـ ولكن لا يمكن لأي منهم أن يأخذ تلك الوثائق إلى بيته. ولا بد أن كل موظف كان يجد الأوراق في مكانها.
يئس المحامي، فقال له:
ـ وإضافة إلى هذا، فان هذه الأوراق إذا ما خرجت الآن من وزارة الحربية ستخضع للسير في الدور من جديد في جدول أقدمية المتقاعدين.
ـ هذا لا يهمني قال الكولونيل.
ـ ولكنها ستكون مسألة قرون من الزمن.
ـ ليس مهما، فمن انتظر الكثير ينتظر القليل.

ما أعظم أن تكون غائبًا حاضر ... على أن تكون حاضرًا غائب